للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مسألة الغرانيق وتفسير الآيات

تمهيد، مصارعة الحق والباطل، رفع الإسلام مقام الأنبياء وحكمه بعصمتهم،
عيث عشاق الروايات وإفسادهم في الدين، الروايات واختلافها في مسألة الغرانيق،
مخالفة المحققين لها، الرجوع إلى أهل العلم الصحيح في إزالة الحيرة، الطعن في
رواية تفسير التمني بالقراءة، الطعن في حديث الغرانيق رواية، الطعن فيه دراية،
عصمة الأنبياء، الوجوه الدالة على بطلان حديث الغرانيق، تفسير الآيات على
الوجه الموافق لأسلوب القرآن وفيه المقابلة بين الآيات وآيات سورة آل عمران في
المحكمات والمتشابهات، التفسير الثاني، أماني الأنبياء، سنة الله فيهم وفي أقوامهم،
تأويل ثالث، وسواس الشيطان، اللغات في الغرنوق ومعانيه، عدم ملائمة معانيه
لوصف الآلهة، انتفاء نقل ذلك عن العرب، الجزم بأن الحديث من وضع الأعاجم.
***
حديث الغرانيق صار مشهورًا عند المتأخرين لوجوده في كثير من كتب
التفسير التي تتناولها الأيدي، ولو صح لكان أكبر شبهة على الدين؛ ولكن المقلد
البحت الذي لا نظر له لا يبالي بالشبه ويقبل كل نقل، وإن كان الفرع فيه ينفي
الأصل، وطلاب العَنَت يتشبثون بأهداب الشبه، فيجعلونها معاول تهدم الأركان
الثابتة، وتنفي القضايا المبرهنة، ولذلك كثر الطعن في هذه الأيام بدين الإسلام،
من دعاة النصرانية، وبعض المفتونين بالشبه المادية، وأقوى تكأة لهؤلاء الطاعنين
ما قاله بعض المفسرين في مسألة زيد وزينب، وفي مسألة الغرانيق، ومسألة
أخرى، ولما كان كشف الشبهات وتخليص الحق من شوائب الباطل على وجه تثق به
النفوس، وتطمئن إليه القلوب، من وظائف أئمة الدين، وأكابر العلماء الراسخين،
لجأ قوم إلى حكيم الإسلام في هذا العصر، وإمام المسلمين في كل بادية ومصر،
مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، في أن يجلي لهم الحق
في المسألة الأولى، فأجاب بما هو الحكمة وفصل الخطاب، ونشرناه في المنار،
ليشتهر في الأقطار، ثم سأله آخرون في هذه الأيام عن الثانية، فأجاب بما أزال
الالتباس، ومحص ما في صدور الناس.
جعل المسألة أولاً موضوع درس في الأزهر حضره الجماهير، والجم الغفير،
ثم كتبها لتُنشر في المنار، وتتناقل في الأمصار، وهاك ما جاء من فضيلته، بنصه
وعبارته:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا
يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ
بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ
اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (الحج: ٥٢-٥٥) .
قد يجد الباطل أنصارًا، فيتبوأ من نفوسهم دارًا، ويتخذ له منها قرارًا،
وتذهب على ذلك الأيام بعد الأيام، وتمضي عليه الأعوام إثر الأعوام، وهو يلعب
بأهله، ويغلب أهواءهم بحيله، حتى يقصروا نظرهم عليه، ولا يجدوا ملجأ منه
إلا إليه، فإذا أوتوا من ناحيته رضوا، وإذا عرض لهم الحق أعرضوا، ولا يزالون
كذلك إلا أن تنحل به عراهم وتفسد بعلله قواهم، والحق لا يزال يعرض نفسه،
يستخدم مرة لينه وأخرى بأسه، وهو الشاب الذي لا يهرم، والعامل الصبور الذي
لا يسأم؛ وإنما يُعرِض بوجهه عن الأغبياء، ويُولِّي ظهره الأشقياء، ثم لا ينفك
يرحمهم، ولا يبرح يتعهدهم، يسفر عليهم محيّاه، ويرسل إليهم أشعة من سناه،
فإذا وافاهم وقد وهنت مُنَنَهُم [١] ، ومَرهت عيونهم [٢] ، وحلك ليلهم، واشتد خبلهم،
صاح بهم منه صائح، ورَمحهم من جنده رامح [٣] ، فقِلق بالباطل مكانه، وزُلزلت
من حوله أركانه، وفزع يطلب النصير، وثار يلتمس المجير، فلا يجد إلا أسبابًا
تقطعت به، وأعضادًا فُتَّ فيها بسببه [٤] ، وقد رنَّقَ قومه [٥] ، وعبس يومه،
فيحملق إلى الحق يأخذه ببصره، ويستنزله بنظره، ولكن خاب الظن، وبطل الفن
ثم لا يلبث وهو الباطل أن يتحول عنده اليأس أملاً، ويجد من اليبس بللاً، فيظن
وهو هو أن الحق ناصره، وأن ستقوى به أواصره، فسيتنصر بجنده، ويطلب
النجدة من عنده، وأقرب ما يكون خصم إلى الهلكة إذا اطمأن إلى عدوه، وأمل
الخير في دنوه، هذا شأن الباطل وأهله، مع تقلبه في ملله ونحله.
يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهي (القرآن) ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء
والمرسلين، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر في
الفضائل وصالح الأعمال، وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم، وما نسبه إليهم
المعتقدون بأديانهم، ولا يخفى على أحد من أهل النظر في هذا الدين القويم أنه قد
قرر عصمة الرسل كافة من الزلل والتبليغ والزيغ عن الوجهة التي وجه الله
وجوههم نحوها من قول أو عمل، وخصَّ خاتمهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فوق
ذلك بمزايا فُصِّلت في ثنايا الكتاب العزيز.
عصمة الرسل في التبليغ عن الله أصل من أصول الإسلام، شهد به الكتاب
وأيدته السنة وأجمعت عليه الأمة، وما خالف فيه بعض الفرق فإنما هو في غير
الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه، ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان
حق لا يرتاب منه مليٌّ يفهم ما معنى الدين.
مع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانًا يعملون على هدمه وتوهين ركنه، أولئك
عشاق الروايات وعبدة النقل، نظروا نظرة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ
مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} (الحج: ٥٢) الآية، وفيما روي عن ابن عباس رضي الله
عنهما من أن تمنى بمعنى قرأ، والأمنية القراءة؛ فعمي عليهم وجه التأويل الحق
على فرض صحة الرواية عن ابن عباس، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في
زعمهم، فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختل طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق
في أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ، وأعرضوا
عنه وجفاه قومه وعشيرته؛ لعيبه أصنامهم، وزرايته على آلهتهم، أخذه الضجر من
إعراضهم ولحرصه على إسلامهم وتهالكه عليه تمنى أن لا ينزل عليه ما ينفرهم،
لعله يتخذ ذلك طريقًا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمر به ما
تمناه حتى نزلت عليه سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النجم: ١) وهو في نادي
قومه.
وروي أنه كان في الصلاة وذلك التمني آخذ بنفسه، فطفق يقرأها فلما بلغ
قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم: ٢٠) {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الحج: ٥٢) التي تمناها بأن وسوس له بما شيعها به، فسبق لسانه على سبيل
السهو والغلط فمدح تلك الأصنام، وذكر أن شفاعتهن ترتجى، فمنهم من قال: إنه
عندما بلغ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم: ٢٠) سها فقال: تلك الغرانيق العُلى
وإن شفاعتهن لترتجى، ومنهم من روى (الغرانقة العلى) ، ومنهم من روى (أن
شفاعتهن ترتجى) بدون ذكر الغرانقة والغرانيق، ومنهم من قال: إنه قال: (وإنها
لمع الغرانيق العلى) ومنهم من روى (وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن
لهي التي ترتجى) ففرح المشركون بذلك، وعندما سجد في آخر السورة سجدوا معه
جميعًا.
قال ابن حجر العسقلاني: وتعدد الطرق وصحة ثلاثة منها وإن كانت مرسلة
يدل على أن للواقعة أصلاً صحيحًا، وهذه الأسانيد الصحيحة - في رأيه - وإن
كانت مراسيل يحتج بها من يرى الاحتجاج بالحديث المرسل، بل ومن لا يراه
كذلك؛ لأنها متعددة يعضد بعضها بعضًا اهـ، ولولا خوف التطويل لأتيت بجميع
تلك الروايات ما صح عنده منها وما لم يصح، ولكن لا أرى حاجة إليه في مقالي
هذا.
روى ذلك ابن جرير الطبري وشايعه عليه كثير من المفسرين، وفي طباع
النفس أُلْف الغريب، والتهافت على العجيب، فولعوا بهذه التفاسير واتخذوها عقدة
إيمانهم حتى ظنوا - وبعض الظن إثم - أن لا معدل عنها، ولا سبيل في فهم الآية
سواها، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها، وذهب إليه الأئمة في بيانها،
حتى ثارت ثائرة الشبه هذه الأيام في نفوس كثير منهم، وهم يزعمون أنهم مسلمون،
وأحسوا أن ذلك الضرب من التفسير لا يتفق مع أصل العصمة في التبليغ، وأن
فيه من الحجة للعدو ما لا سبيل إلى دفعه فلجؤوا إلى أهل العلم الصحيح يلتمسون
منهم بيان المخرج مما سقطوا فيه، وتوهموا أنهم يقررون لهم ما ألفوا، ثم ينقذونهم
من الحيرة مع ثباتهم على ما حرَّفوا، ولكن ضل رأيهم، وخاب ظنهم، وسيقامون
على المنهج، ويرون الحق ناصعًا أبلج.
في صحيح البخاري: وقال ابن عباس في {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ} (الحج: ٥٢) : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي
الشيطان ويحكم الله آياته، ويقال: أمنيته قراءته (إلا أماني) يقرؤون ولا يكتبون.
اهـ. فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ (يقال) بعدما فسرها بالحديث رواية
عن ابن عباس، وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين، فما يدَّعيه الشراح أن
الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة، ثم حكايته تفسير
الأمنية بمعنى القراءة بلفظ (يقال) : يفيد أنه غير معتبر عنده.
وقال صاحب الإبريز: إن تفسير تمنى بمعنى قرأ، والأمنية بمعنى القراءة
مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورواها علي
ابن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
وقد علم ما للناس في ابن أبي صالح كاتب الليث، وأن المحققين على تضعيفه
اهـ، هذا ما في الرواية عن ابن عباس، وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن
المحققين يضعفون راويها.
وأما قصة الغرانيق فمع ما فيها من الاختلاف الذي سبق ذكره جاء في تتميمها
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفطن لما ورد على لسانه، وأن جبريل جاءه بعد
ذلك فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين، قال له: ما جئتك بهاتين، فحزن لذلك
فأنزل الله عليه {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: ٥٢) الآيات تسلية له كما أنزل لذلك قوله:
{وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ
خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ
وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: ٧٣-٧٥) وفي بعض
الروايات: أن حديث الغرانيق فشا في الناس حتى بلغ أرض الحبشة فساء ذلك
المسلمين والنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: ٥٢)
الآية، قال القسطلاني في شرح البخاري: وقد طعن في هذه القصة وسندها غير
واحد من الأئمة، حتى قال ابن إسحاق وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة اهـ
وكفى في إنكار حديث أن يقول فيه ابن إسحاق: إنه من وضع الزنادقة مع حال ابن
إسحاق المعروفة عند المحدثين.
وقال القاضي عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا
رواه أحد بسند متصل سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون
بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، ثم نقل عن أبي بكر ابن
العلاء ما يدل على سقم الرواية واضطراب الرواة فيها، وما يقضي عليها بالوهن
والسقوط عن درجة الاعتبار، وقال الإمام أبو بكر بن العربي - وكفى به حجة في
الرواية والتفسير -: إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له.
قال القاضي عياض: والذي ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم
قرأ {وَالنَّجْمِ} (النجم: ١) وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن
والإنس اهـ، وقد يكون ذلك لبلاغة السورة وشدة قرعها وعظم وقعها، ثم قال
القاضي: قد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم
ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، أما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة
غير الله وهو كفر، أو أن يتسود عليه الشيطان ويشبّه عليه القرآن حتى يجعل فيه
ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى
يُفهمه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم، أو يقول
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قِبَل نفسه عمدًا، وذلك كفر أو سهو، وهو
معصوم من هذا كله، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم
من جريان الكفر على لسانه أو قلبه لا عمدًا ولا سهوًا، أو أن يشبه عليه ما يلقيه
المَلَك مما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله لا
عمدًا ولا سهوًا ما لم ينزل عليه، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ} (الحاقة: ٤٤-٤٦) ،
وقال: {إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: ٧٥) .
(ووجه ثانٍ) : وهو استحالة هذه القصة نظرًا وعرفًا؛ وذلك أن هذا الكلام لو
كان كما روي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل
التأليف والنظم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بحضرته من المسلمين،
وصناديد المشركين، ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف
بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟
(ووجه ثالث) : أنه علم من عادة المنافقين، ومعاندة المشركين، وضَعَفَة
القلوب والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى
الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة [٦] ،
وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه
القصة شيئًا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها
على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في
قصة الإسراء، قال: ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولا تشغيب للمعادي
حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت [٧] ، وما ورد عن معاند فيها كلمة، ولا عن
مسلم بسببها بنت شفة، فدل على بطلها واجتثاث أصلها، ولا شك في إدخال بعض
شياطين الإنس والجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس به على
ضعفاء المسلمين.
(ووجه رابع) : ذكر الرواة لهذه القصة أن فيها نزلت {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ
عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الإسراء: ٧٣) الآيتان، وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي
رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، ولولا أن ثبته لكاد يركن
إليهم شيئًا قليلاً، فمضمون هذا ومفهومه أن الله عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم
يركن إليه قليلاً فكيف كثيرًا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون
والافتراء بمدح آلهتهم وأنه صلى الله عليه وسلم قال: افتريت على الله وقلت ما
لم يقل، وهي تضعف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له؟ وهذا مثل قوله تعالى
في الآية الأخرى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ
وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} (النساء: ١١٣) قال
القشيري: ولقد طالبه قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه
الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كان ليفعل، قال ابن الأنباري:ما قارب رسول الله
ولا ركن. انتهى المطلوب من كلام القاضي رحمه الله، وقد أورد بعد ذلك كثيرًا من
القول في توهين الرواية وتكذيبها.
أما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رُويت مرسلة من ثلاث طرق على شرط
الصحيح، وأنه يحتج بها ... إلخ ما سبق فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز: إن
العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين، فالحديث الذي يفيد خرمها ونقضها لا
يقبل على أي وجه جاء، وقد عدَّ الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة من
الأخبار التي يجب القطع بكذبها، هذا لو فرض اتصال الحديث فما ظنك بالمراسيل؟
وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به فيما هو من قبيل الأعمال
وفروع الأحكام، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالرسل وما جاؤوا به فهي
هفوة من ابن حجر يغفر الله له.
هذا ما قاله الأئمة جزاهم الله خيرًا في بيان فساد هذه القصة، وأنها لا أصل
لها، ولا عبرة برأي من خالفهم، فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير وإن بلغ
أربابها من الشهرة ما بلغوه، وشهرة المبطل في بطله لا تنفخ القوة في قوله، ولا
تحمل على الأخذ برأيه.
تفسير الآيات
والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتمله ألفاظها وتدل عليه
عباراتها والله أعلم:
لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية، وقرأ شيئًا من القرآن أن قوله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} (الحج: ٥٢) الآيات، يحكي قدرًا
قُدِّرَ للمرسلين كافة لا يعدونه، ولا يقفون دونه، ويصف شنشنة عُرفت فيهم وفي
أممهم، فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى أن جميع الأنبياء والمرسلين
قد سلط الشيطان عليهم، فخلط في الوحي المُنَزَّل إليهم؛ ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ
الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته ... إلخ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في
اختصاص الله تعالى لأنبيائه، واختيارهم من خاصة أوليائه، فلندع هذا الهذيان
ولنعد إلى ما نحن بصدده.
ذكر الله لنبيه حالاً من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله ليبين له سنته فيهم،
وذلك بعد أن قال: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ
إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كَانَ نَكِيرِ} (الحج: ٤٢-٤٤) إلى آخر الآيات، ثم قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} (الحج: ٤٩-٥٢) ... إلخ، فالقصص السابق كان في تكذيب
الأمم لأنبيائهم، ثم تبعه الأمر الإلهي بأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه:
إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه، ولأبشر المؤمنين بالنعيم، وأما
الذين سعوا في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة ليحولوا عنها
الأنظار، ويحجبوها عن الأبصار، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله، ويعاجزوا
بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ أي: يسابقونهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن
القول، وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها كما يقع عادة من أهل الجدل
والمماحكة، هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم، وأعقب ذلك بما يفيد
أن ما ابتُلي به النبي صلى الله عليه وسلم من المعاجزة في الآيات قد ابتُلي به
الأنبياء السابقون، فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل
والتحريف ويضادون أمانيه ويحولون بينه وبين ما يبتغي بما يلقون في سبيله من
العثرات، فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعًا يجب أن تفسر الآية
وذلك يكون على وجهين:
(الأول) : أن يكون تمنى بمعنى قرأ، والأمنية بمعنى القراءة وهو معنى قد
يصح، وقد ورد استعمال اللفظ فيه، قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله
عنهما:
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حِمَام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله أول ليله ... تمنى داود الزبور على رسل
غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه، بل المعنى المفهوم من
قولك: (ألقيت في حديث فلان) إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه، ولا يكون قد
أراده أو نسبت إليه ما لم يقله تعللاً بأن ذلك الحديث يؤدي إليه، ونسبة الإلقاء إلى
الشيطان؛ لأنه مثير الشبهات بوساوسه، مفسد القلوب بدسائسه، وكل ما يصدر
من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه ويكون المعنى: وما أرسلنا قبلك من رسول
ولا نبي إلا إذا حدَّث قومه عن ربه، أو تلا وحيًا أُنزل إليه فيه هدًى لهم قام في
وجهه مشاغبون يحوِّلون ما يتلوه عليهم عن المراد منه، ويقولون عليه ما لم يقله،
وينشرون ذلك بين الناس؛ ليبعدوهم عنه، ويعدلوا بهم عن سبيله، ثم يحق الله الحق
ويبطل الباطل، ولا يزال الأنبياء يصبرون على ما كُذِّبوا وأوذوا، ويجاهدون في
الحق، ولا يعتدَّون بتعجيز المعجزين، ولا بهزء المستهزئين، إلى أن يظهر الحق
بالمجاهدة، وينتصر على الباطل بالمجالدة، فينسخ الله تلك الشبهة، ويجتثها من
أصولها، ويثبت آياته ويقررها، وقد وضع الله هذه السنة في الناس ليتميز الخبيث
من الطيب، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض - وهم ضعفاء العقول - بتلك الشبه
والوساوس، فينطلقون وراءها، ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة
فيتخذونها سندًا يعتمدون عليها في جدلهم، ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم،
ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه، فيعلموا أنه الحق من ربك، فيصدِّقوا به
فتخبت وتطمئن له قلوبهم.
والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقر
بالعقل في قرارة اليقين، وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم،
وتطير به مع الوهم، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين، وسواء
أرجعت الضمير في (أنه الحق) ، إلى ما جاءت به الآيات المحكمة من الهدى الإلهي
أو إلى القرآن وهو أجلها، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين.
هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا، وهم الذين هداهم الله إلى الصراط
المستقيم، ولم يجعل للوهم عليهم سلطانًا، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم، وأما
الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب، أو أهل العناد وزعماء الباطل
وقساة الطباع الذين لا تلين أفئدتهم، ولا تبش للحق قلوبهم، فأولئك لا يزالون في
ريب من الحق أو الكتاب لا تستقر عقولهم عليه، ولا يرجعون في متصرفات
شؤونهم إليه، حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقون حسابهم عند ربهم، أو إن
امتد بهم الزمن، ومادَّهم الأجل، فسيصيبهم {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (الحج: ٥٥)
يوم حرب يسامون فيه سوء عذاب القتل أو الأسر، ويقذفون إلى مطارح الذل
وقرارات الشر، فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة، بل يسلبون ما كان
لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة، وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته.
ما أقرب هذه الآيات في مغازيها إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: {هُوَ
الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: ٧) وقد قال بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} (آل عمران: ١٠) ثم قال:
{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ} (آل عمران: ١٢)
... إلخ الآيات، وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى، فالذين في قلوبهم
زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، والراسخون في العلم هم الذين
أوتوا العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم فيقولون: آمنا به كل من
عند ربنا. فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم، وأولئك هم الذين
يفتنون بالتأويل، ويشتغلون بقالٍ وقيل، بما يلقي إليهم الشيطان، ويصرفهم عن
مرامي البيان، ويميل بهم عن محجة الفرقان، وما يتكئون عليه من الأموال
والأولاد لن يغني عنهم من الله شيئًا، فستوافيهم آجالهم، وتستقبلهم أعمالهم، فإن لم
يوافهم الأجل على فراشهم، فسيغلبون في هراشهم [٨] .
وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم، وسبيل الحق مع الباطل من يوم رفع الله
الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه، وبين ما يستبقيه وما يذهب ببقائه،
وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران لا مدخل لها في آيات سورة الحج.
هذا هو الوجه الأول في تفسير آيات {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: ٥٢) إلى آخرها على
تقدير أن تمنَّى بمعنى قرأ، وأن الأمنية بمعنى القراءة والله أعلم.
(الوجه الثاني في تفسير الآيات)
إن التمني على معناه المعروف، وكذلك الأمنية وهي أفعولة بمعنى المنية
وجمعها أماني كما هو مشهور، قال أبو العباس أحمد بن يحيى: التمني حديث
النفس بما يكون وبما لا يكون، قال: والتمني سؤال الرب، وفي الحديث (إذا تمنى
أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه) وفي رواية فليكثر، قال ابن الأثير: التمني تشهي
حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وما لا يكون. وقال أبو بكر:
تمنيت الشيء؛ أي: قدرته وأحببت أن يصير إلي. وكل ما قيل في معنى التمني
على هذا الوجه فهو يرجع إلى ما ذكرنا ويتبعه معنى الأمنية.
ما أرسل الله من رسول ولا نبي ليدعو قومًا إلى هدًى جديد، أو شرع سابق
شرعه لهم، ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولاً، أو جاء به
غيره إن كان نبيًّا ليحمل الناس على اتِّباع من سبقه إلا وله أمنية في قومه، وهي
أن يتبعوه وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه، ويستشفوا ممن دائهم بدوائه، ويعصوا
أهواءهم بإجابة ندائه، وما من رسول إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته،
وتصديقهم برسالته - منه على طعامه الذي يطعم، وشرابه الذي يشرب، وسكنه الذي
يسكن إليه، ويغدو عنه ويروح عليه، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك
في المقام الأعلى، والمكان الأسمى، قال الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى
آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف: ٦) وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ
وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: ١٠٣) وقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: ٩٩) وفي الآيات ما يطول سرده مما يدل على أمانيه
صلى الله عليه وسلم بهداية قومه وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه إلى نور ما جاء
به.
وما من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ألقى الشيطان في
سبيله العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات، ووسوس في صدور الناس،
وسلبهم الانتفاع بما وُهبوا من قوة العقل والإحساس، فثاروا في وجهه، وصدوه
عن قصده، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد
يقهرونه، فإذا ظهروا عليه والدعوة في بدايتها وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع
ضعيف الأنصار - ظنوا الحق من جانبهم، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما
عمد إليه فتنة لهم.
غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم، أو من المستضعفين
فيهم؛ ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان، وليكون الاختيار
المطلق هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله، ولكيلا يشارك الحق الباطل في
وسائله، أو يشاركه في نصب شراكه وحبائله، أنصار الباطل في كل زمان هم
أهل الأنفة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان والغرور
بالزخارف، والزهو بكثرة المعارف، وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها في
الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم، وتصرف نظرهم عن سبيل
رشدهم، فإذا دعا إلى الحق داعٍ عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفتن،
وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله بخلوصها من هذه الشواغل،
وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة، فإذا التف هؤلاء حول الداعي وظافروه
على دعوته قام أولئك المغرورون يقولون: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ
اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ
كَاذِبِينَ} (هود: ٢٧) .
فإذا استدرجهم الله على سنته وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالاً، افتتن
الذين في قلوبهم مرض من أشياعهم، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم؛
ولكن الله غالب على أمره، فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات، ويرفع هذه
الموانع وتلك العقبات، ويهب السلطان لآياته فيحكمها، ويثبت دعائمها، وينشئ من
ضعف أنصارها قوة، ويخلف لهم من ذلتهم عزة، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة
الشيطان هي السفلى، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الأَرْضِ} (الرعد: ١٧) .
وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين تسلية لنبينا
صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقي من قومه، وعدٌ له بأن سيكمل له دينه، ويتم
عليه وعلى المؤمنين نعمته، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن
يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: ٢-٣) ، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ
وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:
٢١٤) هذا هو التأويل الثاني في معنى الآية ويدل عليه ما سبق من الآيات ويرشد
إليه سياق القصص السابق في قوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} (الحج: ٤٢) ... إلخ، وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى
الصحيح، وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز وإني أنقله بحروفه وما هو
بالبعيد عن هذا بكثير، قال بعد ذكر أماني الأنبياء في أممهم وطمعهم في إيمانهم،
وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك على نحو يقرب مما ذكرناه في الوجه
الثاني:
(ثم الأمة تختلف كما قال تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن
كَفَرَ} (البقرة: ٢٥٣) فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له
في الرسالة الموجبة لكفره، وكذا المؤمن أيضًا لا يخلو أيضًا من وساويس؛ لأنها
لازمة للإيمان بالغيب في الغالب، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة وبحسب
المتعلقات، إذا تقرر هذا فمعنى تمنى أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير
والرشد والصلاح والنجاح، فهذه أمنية كل رسول ونبي، وإلقاء الشيطان فيها يكون
بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساويس الموجبة لكفر بعضهم، ويرحم الله
المؤمنين،فينسخ ذلك من قلوبهم ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة،
ويبقي ذلك عز وجل في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به، فخرج من هذا أن
الوساويس تُلقى أولاً في قلوب الفريقين معًا غير أنها لا تدوم على المؤمنين وتدوم على
الكافرين) اهـ، وأنت إذا نظرت بين هذا التفسير وبين ما سبقه تتبين الأحق
بالترجيح.
لو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي، وانتقض الاعتماد
عليه كما قاله القاضي البيضاوي وغيره، ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في
المنسوخ يجوز أن يلقي فيه الشيطان ما يشاء ولانهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية
وهو العصمة، وما يقال في المخرج عن ذلك ينفر منه الذوق ولا ينظر إليه العقل،
على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العُلى لم يرِد لا في نظمهم ولا في
خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريًا على ألسنتهم إلا ما جاء في
معجم ياقوت غير مسند ولا معروف بطريق صحيح، وهذا يدل على أن القصة من
اختراع الزنادقة كما قال ابن إسحاق، وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت، ولا
يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسمًا لطائر مائي أسود وأبيض،
أو هو اسم الكركي أو طائر يشبهه، والغرنيق (بالضم وكزنبور وقنديل وسَمْوأل
وفردوس وقرطاس وعُلابط) معناه الشاب الأبيض الجميل، وتسمى الخصلة من
الشعر المفتلة الغرنوق، كما يسمى به ضرب من الشجر، ويطلق الغرنوق
والغرانق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات، ويقال: لِمَّة غُرانِقة
وغُرانِقِية؛ أي: ناعمة تفيئها الريح، أو الغرنوق: الناعم المستتر من النبات ... إلخ
، ولا شيء في هذه المعاني يلائم الآلهة والأصنام، حتى يُطلق عليها في فصيح القول
الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام، فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات
الأعاجم ومختلقات الملبسين ممن لا يميز بين حر الكلام، وما استعبد منه لضعفاء
الأحلام، فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية، عما تقتضيه الدراية، {رَبَّنَا لاَ
تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: ٨) .
***
(الحديث المرسل) هو الذي سقط من سنده من بعد التنابعيي، والجمهور
يتوقفون عن الاحتجاج به لجواز أن يكون الساقط غير الصحابي.