للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السعي لمنع الحج ومفاسد البدع

إن استيلاء إمام السنة في هذا العصر عبد العزيز السعود على الحجاز ,
وشروعه في تطهير الحرمين الشريفين من بدع الضلالة , وقيامه بتجديد السنة قد
كشف لأهل البصيرة من المسلمين أن ما كان من تساهل القرون الوسطى في مقاومة
أهل البدع؛ قد جر على الإسلام وأهله من الأرزاء , والفساد ما هو شر من تلك
البدع نفسها حتى إن طوائف من المسلمين الجغرافيين صاروا يفضلون بعض تلك
البدع على أركان الإسلام , ويحاولون تعليق أداء فريضة الحج , وهو ركن الإسلام
الجامع لشعوبه على بعض تلك البدع بحيث تترك الفريضة , ويهدم الركن الإسلامي
إذا لم يسمح ملك الحجاز بإقامة تلك البدع.
بدأ هذا الإمام منذ تم له السلطان على الحجاز بإبطال بدع القبور , والمباني
التي افتتن عامة المسلمين بصبغها بصبغة الإسلام التعبدية الذي كان بعمل
سلاطين الأعاجم وأمرائهم؛ فقامت عليه قيامة الشيعة أو أعاجمهم وبعض زعماء
الأهواء السياسية في الهند والخرافيين عبدة القبور وطلاب الحياة من الموتى ,
فمنعت حكومة إيران رعاياها من أداء فريضة الحج وبثت الدعاية في الهند لذلك ,
وتولى الإنفاق على الدعاية غني من أكبر أغنياء الشيعة هو محمد علي راجا محمود
آباد , ونصره في عمله في هذا العام السياسيان الزعيمان شوكت علي ومحمد
علي، ورئيس جمعية خدام الحرمين وبعض أعضائها الخرافيين المأجورين , وقد
بلغ من طغيان هذه الفئة أن طلبت باسم زعيمها من الحكومة الإنكليزية التدخل في أمر
الحجاز بالقوة لإزالة الحكومة السعودية منه , وهم يعلمون أن هذا لا يتم إلا بمحاربة
هذه الدولة النصرانية له في حرم الله تعالى، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم؛
ولكن اتباع الهوى , ونصر البدعة أركسهم بما كسبوا؛ فاستحلوا أكبر الكبائر من صد
المسلمين عن فريضة الحج إلى دعوة خصوم الإسلام لانتهاك أعظم حرمات الإسلام ,
واستحلال ذلك كفر بالإجماع , ولكن الله تعالى خذلهم , ونصر دينه , وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم على عداوتهم لهما , وأقبل الألوف من أهل الهند , وكذا أهل
إيران على بيت الله تعالى؛ لإقامة ركن الإسلام , واعترفت الدولة البريطانية بملكية
ابن السعود على الحجاز , ونجد , واستقلاله المطلق رسميًّا.
بعد هذا كله حدث في مصر ما لم يكن ينتظره مسلم ولا عاقل من السعي
لمنع أداء فريضة الحج بأراجيف اختلقها حزب الإلحاد والزندقة , وبحجة الانتصار
لبدعة المحمل , والإصرار عليها.
وكان قد ظهر فضل مصر , وسائر البلاد العربية على بلاد الأعاجم كلها بأنه
لم تظهر فيها معارضة لما قام به ملك الحجاز , ونجد من إزالة البدع , ونصر السنة
على كثرة الخرافيين فيها من أهل الطرق وغيرهم بل أيده رؤساء العلماء على
حكومتهم فيما طلب منعه من عزف الموسيقى في مشاعر النسك , وفي شرب الدخان
في مكة , أو الحجاز كله.
بدأت بذلك جريدة السياسة المشهورة بدعايتها الإلحادية , ومحاربتها للأزهر،
وسائر رجال الدين , ونصرها للطاعنين في الإسلام كعلي عبد الرازق وطه
حسين , فزعمت أنه جاءها نبأ من (مقيم في جزيرة العرب) بأن رؤساء الوهابيين
اجتمعوا في عاصمة نجد (في ٢٠ رجب) بحضرة الملك عبد العزيز بن السعود ,
وأنكروا عليه في وجهه إخلاف وعده لهم بإقامة شرع الله في الحجاز , وتطهير
البلاد , ومما قالوه له بزعم الكاتب: (ألم ترخص لصنم مصر المسمى بالمحمل
بدخول الحجاز مع أولئك العسكر الكفار؟ ألم تدافع عن أولئك الكفار حينما أردنا
أن نقوم بالواجب الشرعي من إنكار المنكر؟ إلخ , واستدلت جريدة السياسة بهذا
الحديث على أن الوهابيين أخذوا يفلتون من سلطة الملك ابن السعود , ورتبت عليه
أنه يجب على الحكومة المصرية أن تأخذ (الضمانات اللازمة) ؛ للاطمئنان على
أرواح الحجاج المصريين , وعلى كرامة مصر من غير ابن السعود قبل أن تأذن
بالحج في هذا العام - تعني أنه يجب أخذ الضمانات من رؤساء الوهابيين الذين في
نجد , وهي تعلم أن هذا لا سبيل إليه - فالمراد دعوة الحكومة إلى منع الحج.
وقد كتب إليها رئيس ديوان جلالة ملك الحجاز ونجد (محمد طيب الهزاز)
الحجازي كتابًا كذَّب فيه خبر ذلك الاجتماع تكذيبًا رسميًّا قال فيه: إنه في التاريخ
الذي ذكرت اجتماع رؤساء النجديين فيه كان في خدمة جلالة الملك بنجد , ولو
حصل ذلك الاجتماع لكان من أعلم الناس به , فهو لم يحصل , وأكد فيه أن طاعة
رؤساء النجديين ودهمائهم لإمامهم الملك على أكلمها؛ لأنها عقيدة دينية , فكتبت
جريدة السياسة مقالاً آخر أصرت فيه على دعوتها الأولى مرجحة النبأ الذي زعمت
أنه جاءها من رجل مقيم في جزيرة العرب على هذا البلاغ الرسمي. ونحن على علمنا بأن الذي كتب ذلك النبأ هو رجل مصري مقيم في القاهرة حانق على الحكومة
الحجازية , وله صديق كان في الكويت يوهم أنه هو الذي كتبه.
قد كتبنا مقالاً في الرد على جريدة السياسة نشرناه في جريدة كوكب الشرق
تجاهلنا فيه ذلك , وتكلمنا بلسان الشرع , والعقل , والمصلحة الإسلامية , وذكرنا
في آخره أننا نعلم أن المسلمين لا يبالون بما تنشره جريدة السياسة , فلا نخشى أن
يؤثر في أنفس مريدي الحج من المصريين , فيصرفهم عنه , ولكننا ننتظر؛ لنرى
تأثير كلامها في الحكومة المصرية , وكانت جريدة السياسة ذكرت أن الحكومة
المصرية عهدت إلى قنصلها في جدة أن يبلغ جلالة ملك الحجاز ونجد ما تشترطه
لإرسال المحمل , وما يتعلق به في هذا العام , وتنتظر جوابه.
ثم لم تلبث الحكومة أن نشرت البلاغ الرسمي التالي الذي قرره مجلس
الوزراء مجتمعًا , ووافق عليه جلالة الملك:
بلاغ رسمي
وصل إلى علم الحكومة المصرية أن حكومة الحجاز تشترط في حج هذا العام
شروطًا معينة، فخابرت وزارة الخارجية حضرة قنصل المملكة المصرية في جدة؛
للاستيثاق من مبلغ هذا الخبر من الصحة , وكلفته بمفاوضة جلالة الملك ابن السعود
في ذلك شخصيًّا.
وقد ورد إلى الحكومة نبأ برقي من حضرة القنصل المذكور يفيد أن جلالة
ملك الحجاز يشترط لحج هذا العام:
أولاً: تجريد الحامية المصرية التي تصحب المحمل عادة من سلاحها؛ تفاديًا
من حصول مصادمات بينها , وبين الوهابيين.
ثانياً: منع عرض المحمل بالحرم الشريف , وكذلك تسيير المواكب المعتادة.
واشترط فوق ذلك شروطًا أخرى تغاير التقاليد المتبعة من قديم , وتقيد حرية
الحجاج.
وترى الحكومة مع هذه الاشتراطات أنه لا يمكن الاطمئنان على سلامة ركب المحمل والحجاج.
ولما عرضت هذه المسألة على مجلس الوزراء قرر بجلسة ١٠ ذي القعدة سنة
١٣٤٥ (١٢ مايو سنة ١٩٢٧) العدول عن إرسال المحمل في هذا العام , وإعلان
الحجاج المصريين بأنهم بسفرهم قد يستهدفون لبعض المخاطر , وأنهم إذا رأوا مع
ذلك السفر في هذه الظروف , فإن ذلك يكون تحت مسؤوليتهم. اهـ.
وقد استغربنا من هذا البلاغ قول الحكومة: إن الحجاج المصريين يستهدفون
لبعض الأخطار في الحجاز؛ إذ فيه تثبيط , وصد عن أداء الفريضة بالإيهام الذي
لا دليل عليه , ثم ازداد استغرابنا بما أجاب به رئيس الوزارة عبد الخالق ثروت
باشا عن سؤال في مجلس النواب: لماذا لم تمنع الحكومة المصريين من الحج ,
وهي تعتقد أنهم يستهدفون فيه للخطر , وحمايتهم واجبة عليها؟ فأجاب بأن سبب
عدم المنع اعتبارات دينية.
يعني أن دعوى الحكومة الاستهداف للخطر لم يمكنها من أخذ فتوى شرعية
بمنع الحج , فلم تستطع حمل تبعة منع المسلمين من أداء فريضتهم!
وبعد ذلك نشرت وكالة المملكة الحجازية النجدية بمصر البلاغ الرسمي
التالي:
بلاغ الحكومة الحجازية
ننشر هذا البلاغ تنويرًا للرأي العالم المصري الكريم، ودحضًا لأقوال مثيري
الضحة بمناسبة عدم سفر المحمل والبعثة الطبية والصدقات المراد إرسالها إلى
الحجاز؛ فنقول:
إن الحكومة المصرية كانت طلبت من حكومة الحجاز ونجد وملحقاتها أن
يرافق أمين الحج أورطه كاملة بملحقاتها من طوبجية , وسواري , وهجانة ,
وغيرها من المعدات , وأن ترافق القوة المذكورة المحمل في كل مكان , وأن تكون
دورة المحمل بالمراسم المعتادة كالمتبع سنويًّا بغير أي تعديل , فقد كان جواب
الحكومة الحجازية النجدية على هذه النقطة ما يأتي:
إن الحكومة الحجازية تحب أن تتأكد للحكومة المصرية رغبتها؛ لأنها
مستعدة لإجراء جميع التسهيلات الممكنة للمحمل وركبه؛ بل لسائر الحجاج على
القواعد التي تحفظ الأمن , وتصون حرمة الدين الإسلامي المقدس الذي جاء به
الكتاب المنزل على لسان النبي المرسل صلى الله عليه وسلم , وأنها - أي: الحكومة
الحجازية النجدية - لا يخامرها الريب في أنها ستجد في الأمة المصرية الكريمة ,
وعلى الأخص في علماء الدين أعظم منشط ومساعد على إقامة شرع الله في أقدس
بلاد الله , وأنها مستعدة للعمل بما يقره الدين , ويقرره علماء المسلمين , وأن ذلك
سيكون مقبولاً لديها , ومرعي الحرمة.
وبما أن جلالة الملك قد منع التجول بالسلاح في البلاد المقدسة لكائن من كان
من أهل نجد وغيرهم , وعلى الأخص أيام الحج , ومنع أيضًا إتيان أي عمل لم
يأذن الله به من الأعمال المخالفة للشرع , والتي ينبغي أن يكون المرد فيها إلى
كتاب الله , وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيمكن للمحمل , وركبه شهود الحج
هذا العام بعد مراعاة أمور ثلاثة دعت إليها العبر من حوادث العام الفائت , وهي:
أولا: أن لا يكون مع ركب المحمل سلاح ما أسوة بحجاج سائر بلاد الإسلام.
ثانياً: أن لا يعرض المحمل لأن يكون سببًا في تبرك الناس به تبركًا دينيًّا لم
يأذن الله به , ولا جاء في شرع الإسلام.
ثالثاً: أن يكون سير المحمل في أيام الحج كسير الناس جميعًا حفظًا لراحة
سائر الحجاج.
وفيما عدا ذلك فسيلقى المحمل وركبه كل إكرام ورعاية من الحكومة المحلية ,
وإن الحكومة الحجازية النجدية تحب أن تتأكد الحكومة المصرية أنها لم تشترط
مراعاة هذه الأمور إلا صيانةً لراحة المصريين , وراحة حجاج المسلمين من سائر
بلاد الله.
وقد كان جواب الحكومة النجدية الحجازية على طلب الحكومة المصرية فيما
يتعلق بالبعثات الطبية؛ للاعتناء بحالة الحجاج الصحية , وإسعافهم أثناء تأدية
الفريضة , والزيارة أنها ترحب بهم , وحبًّا وكرامة بقدومهم.
وكذلك أجابت الحكومة الحجازية طلب الحكومة المصرية بالموافقة على أن
تشكل لجنة من مندوبين من قبل الحكومتين المصرية والحجازية؛ لتوزيع المرتبات
المخصصة للفقراء , والمحتاجين بدون قيد ولا شرط , وعلاوة على ما سردناه أعلاه ,
فإننا حبًّا في تطمين آل الحجاج , وذويهم من المصريين الكرام , وإزالة للمساوئ ,
والمخاوف التي علقت بأذهانهم ننشر خلاصة كتاب ورد إلينا من جلالة ملك الحجاز
ونجد وملحقاتها , وهي: وبما أننا نرغب في إجراء التسهيلات اللازمة لجميع وفود
بيت الله الحرام , وعلى الأخص الحج المصري الذي تربطنا بأهله روابط عديدة ,
فليكن المصريون واثقين بأن حجاجهم سيلقون الحفاوة التامة , والرعاية الكاملة ,
والتسهيلات المطلوبة.
نرجو الله أن يحسن العواقب في جميع الأمور.
... ... ... ... ... ... ... ... (فوزان السابق)
(المنار)
في أثناء هذه المدة أسرفت جريدة السياسة في الطعن في الوهابيين؛ لتقوية
الأوهام في الأنفس , وإثارة المخاوف في القلوب لمنع الحج , ومن أشد مقالاتها
إسرافًا في البهتان ما نشرته في ٢١ ذي القعدة (٢٣ مايو) من تصوير الوهابيين
بصورة الحيوانات المفترسة التي تستحل افتراس كل من ليس بوهابي , وأنه (لا
يمكن أن يردعها عن ذلك أحد مهما سما مقامه) - أي: وإن كان إمامهم الديني ,
وملكهم السياسي - حتى قال الكاتب في مسألة شرب الدخان: (فكثيرًا ما فقئت
أعين , وكسرت أذرع , وهشمت رؤوس بأيدي الإخوان على هذا المنكر , وإن كان
كثير منهم يرتكب هذا المنكر , وأشد منه في الإثم!) .
وخاضت جرائد أخرى في ذلك حتى إن جريدة الأهرام نشرت مقالاً افتتاحيًّا
زعمت فيه أن الخطر على البشر من البلشفية والوهابية بعد أن أفتت في مقال آخر بأن
المحمل المصري أمر مشروع.
فوجدت من الواجب بيان حقائق جميع هذه المسائل , فكتبت مقالاً نشر في
جريدتي الأخبار , والبلاغ قطع به كل لسان يصد عن حج بيت الله الحرام , وكسر
كل قلم يخوض في ذلك بالباطل , فلم يستطع أحد أن يرد كلمة حتى إن جريدة
السياسة على استباحتها للإفك والبهتان لم تستطع أن تقول فيه إلا أنه ضد على
الحكومة المصرية والمصريين , وذلك أن مذهبها أن دين المصريين مجموع تقاليد
عامتهم وحكومتهم كالمحمل والموالد لا ما يتدارسونه في الأزهر , وغيره من المعاهد
الدينية - وهذا نصه:
الحج ومسائل الخلاف
بين حكومتي مصر والحجاز
اضطربت آراء الكتاب , وأهواؤهم في مسألة الخلاف بين حكومتي مصر ,
والحجاز في أمر المحمل , وحرسه , وموسيقاه , وأمر أداء فريضة الحج وخدمة
الحجاج , وأوقاف الحرمين , والصدقات الثابتة في ميزانية المالية المصرية لأهل
الحرمين , وكسوة الكعبة المعظمة , ومذهب النجديين , وسيرتهم , وسائر مذاهب
أهل السنة , لم أر أحدًا كتب في ذلك عن معرفة صحيحة , وبيان للحقيقة الشرعية ,
ولكنني أعتقد أن صاحب جريدة (الأخبار) كتب ما يعتقد أنه الحق بالإخلاص
الذي لا يمتري فيه أحد يعرفه , وأعتقد أن بعض الكتاب من علماء المسلمين قال
الحق في مسألة المحمل , وكونه بدعة , وأن بعض الكتاب من غير المسلمين خلط
ما يدري بما لا يدري , وغالط فيه بما يحدث الشقاق بين المسلمين , أو يقويه , ولا
أتعرض لبيان حال الدعاة إلى ترك الحج من أدعياء المسلمين , وإنما أكتب ما أظن ,
بل أعتقد أن الحق لا ينجلي في هذه المسألة وفروعها بدونه من الوجهتين
الحقوقية والشرعية , وما يحتف بهما من اختباراتي الشخصية , ووقوفي على
الوقائع المهمة ملخصًا ذلك في المسائل الآتية: -
١- كان الحجاز ومصر تابعين لحكومة عدة من الخلفاء والدول من صدر
الإسلام إلى عهد الخلافة العثمانية , وكانت مصر في بعض القرون الوسطى مستقلة ,
وكان الحجاز تابعًا لها , ولما كانت مصر تحت سيادة الدولة العثمانية كان جيشها
يعد جيشًا عثمانيًّا يحدد عدده السلطان العثماني , وعلمه علم الجيش العثماني ,
ورتبه عين رتبه.
وقد صار الحجاز بعد الحرب العالمية الكبرى دولة ملكية مستقلة استقلالاً دوليًّا
تامًّا مطلقًا من كل قيد , على حين كانت مصر تحت الحماية البريطانية , ثم اعترف
لها باستقلال مقيد بقيود تجعله اسميًّا فقط.
وقد تودد جلالة ملك الحجاز لجلالة ملك مصر وحكومته بما استطاع من
أنواع التودد , ولكن الحكومة المصرية لم تعترف الآن بملكيته وحكومته , ويقال:
إنها بلغت مستشاره الشيخ حافظ وهبه [١] شفويًّا أن يبلغه أنها تشترط لاعترافها به
شروطًا يعد قبولها منافيًا لاستقلاله , ويجعله كالتابع لها.
وسواء أصح هذا أم لم يصح؟ فملك الحجاز يرى أن استقلاله أتم من استقلال
مصر , وأن مملكة مصر دولة أجنبية ليس لها حق في أن تدخل في مملكته جيشًا
مسلحًا , ولا غير مسلح , وأن تقاليد حرس المحمل قد بطلت بتغير شكل الحكومتين ,
وأن لا فرق في هذه التقاليد بين المحمل المصري , والمحمل الشامي , فلو طلبت
حكومة الشام منه الإذن لها بإرسال محملها مع حرس شامي كالعادة السابقة , وقد كان
له المنزلة الأولى في الحجاز؛ لما أذن لها مطلقًا.
ولكن جلالة ملك الحجاز شديد الحرص على موادة مصر وموالاتها وإرضاء
جلالة ملكها وحكومتها وشعبها وشديد التقوى , والحذر من وقوع أقل شقاق بينه
وبينها.
ولذلك أذن لها في الموسم الماضي بإدخال حرس المحمل بسلاحه وأعلامه ,
وباستعمال حريته في جميع أعماله العسكرية , وهتافه به لملكه كما اعترف به أمير
الحج شاكرًا إلا الموسيقى التي استفتت فيها الحكومة المصرية رؤساء الدين - شيخ
الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية - وعملت بفتواهما فيها وفي مسألة المجاهرة
بشرب الدخان؛ فقبلت ما طلبه ملك الحجاز من منعهما.
***
(حكم المحمل سياسة وشرعًا)
٢- المحمل , وما أدراكم ما المحمل!! نعني بالمحمل هذا الشي الذي يوضع
على الجمل كالمحفة أو الهودج أو الخيمة المجلل بالنسيج الحريري الموضون
بالنصب الذي يتبرك به العوام , ويعدونه من شعائر الإسلام , ومشاعر الحج إلى
بيت الله الحرام , الذي يحمل إلى مكة المكرمة , فمنى , فعرفات , ثم من عرفات إلى
المزدلفة فمنى فالحرم الشريف بمكة؛ فيطاف به في معاهد النسك كلها وآخرها
الكعبة المشرفة كأنه أحد الحجاج , ثم يوضع قبالتها فيتبرك به العوام الجاهلون
بأحكام الإسلام وشرعه كما كانت الجاهلية تتبرك بالأصنام المنصوبة حولها.
هذا هو المحمل الذي نعنيه , والذي هو محل الخلاف بين الحكومتين في
هاتين السنتين دون غيره , هو بهذه الصفة بدعة دينية؛ لأنه عمل يشبه المشروع ,
وما هو بمشروع , هو محدثة في مناسك الدين، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة
كما كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه على المنبر , وإنما
البدعة التي تكون حسنة أو سيئة , ويختلف فيها اجتهاد الناس باختلاف آرائهم في
النفع والضر والحسن والقبح , فهي البدعة في غير التعبدات التي تتوقف على نص
الكتاب والسنة وإلا لما كان قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل بدعة ضلالة) صحيحًا
(راجع الصفحة ٢٠٦ من الفتاوى الحديثية للعلامة ابن حجر) , وبناءً على هذه
القاعدة؛ قال صاحب منهاج الفقه: (وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان
مذمومتان) .
فإذا كانت الصلاة لله تعالى على وجه غير مشروع في توقيتها , وما يقرأ
بدعة قبيحة مذمومة , وهي عبادة لله تعالى فكيف يكون حكم البدعة في عبادة غيره
سبحانه؟ وكل عمل يعمل تدينًا , ويقصد به القربة والثواب أو جلب نفع , أو كشف
ضر من غير طريق الأسباب؛ فهو عبادة , وقد حكى الله تعالى عن المشركين أنهم
كانوا يقولون في أصنامهم وأوثانهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: ٣) الآية , فكل من يتبرك بالمحمل تدينًا , ويعد ما ذكرنا في شأنه
مشروعًا؛ فهو مثلهم.
هذه مسألة لا يختلف فيها أحد يعرف أحكام الإسلام , فيجب على المسلم أن
يدع أقوال غير العارفين بها , وأقوال غير المسلمين في ذلك بالأولى , وأن يفرق
بين الأمور الدينية والأمور الدولية والحكومية، فلا يتعصب للمحمل لأجل حكومة
مصر , فلهذه الحكومة أمور كثيرة مخالفة للشرع لا يجوز لمسلم أن يوافقها عليها ,
بل يجب عليه دائمًا أن يطالبها بتركها , فقد صار متمكنًا من ذلك في عهد الدستور.
***
(سبب إذن ابن السعود بدخول المحمل)
(٣) كان يجب على ملك الحجاز أن يمنع دخول المحمل في بلاد الحجاز
ألبتة كما قال أمين بك الرافعي؛ لأنه يعتقد أنه بدعة وضلالة؛ ولكنه خشي في
العام الماضي أن تمنع الحكومة المصريين من أداء فريضة الحج , وتمنع ما لأهل
الحجاز من الغلال والأموال المفرقة , ويكون ذلك سببًا للتعادي بين الحكومتين
والشعبين؛ فاختار ما رآه بحسب القاعدة الشرعية ارتكاب أخف الضررين عند
تعارضهما , فأذن بدخول المحمل وحاول منع منكراته؛ ولكن ترتب على ذلك ما
ترتب عليه من إنكار بعض النجديين الذين تربوا على إنكار كل منكر في بلادهم
عملاً بحديث: (من رأى منكم منكرًا؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم
يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) , رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن
الأربعة , ومن إطلاق حرس المحمل الرصاص والرشاشات , وقتل كثير من
المعتدين على المحمل وغيرهم.
وهذه فتنة جديدة نشير إلى حكمها الشرعي بصرف النظر عن كونها فتنة بين
حكومتين إسلاميتين يجب اتقاء الوقوع في مثلها.
***
(تحريم القتل والقتال وحمل السلاح بمكة)
(٤) من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن حرم مكة المعروف
بحدوده , والذي تدخل فيه (منى) الذي وقعت فيها حادثة المحمل قد حرم الله تعالى
فيه القتل والقتال؛ بل حرم فيه الصيد , وقتل الحيوانات والحشرات إلا ما استثنى من
الفواسق الخمس بنص الحديث , وما ألحق بها من الوحوش المفترسة , وكذا قطع
الأشجار , وقلع النبات إلا إلاذخر الذي يضعونه على الموتى عند الدفن , وفي سقوف
البيوت.
والأحاديث في تحريم القتال في حرم مكة مشهورة في الصحيحين والسنن
منها: قوله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في خطبة له: (إن مكة حرمها الله , ولم
يحرمها الناس , فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا , ولا
أن يعضد بها شجرة , فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؛
فقولوا: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم , ولم يأذن لكم , وإنما أذن لي
ساعة من نهار , وقد عادت اليوم كحرمتها بالأمس , وليبلغ الشاهد الغائب) . قال
الماوردي في الأحكام السلطانية: من خصائص الحرم ألا يحارب أهله (أي من فيه؛
لأن الحرمة له) , فإن بغوا على أهل العدل (أي: على حكومة الإمام الأعظم)
قال بعض الفقهاء: يحرم قتالهم , بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ,
ويدخلوا في أحكام أهل العدل - وقال جمهور الفقهاء: يقاتلون على بغيهم إذا لم
يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال إلخ , فانظر إلى هذا القيد بل قال القفال من فقهاء
الشافعية: (حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها؛ لم يجز لنا قتالهم فيه) ,
وغلطه النووي ثم قال: وأما الجواب عن الأحاديث المذكورة هنا (أي: في صحيح
مسلم في إطلاق تحريم القتال) , فهو ما أجاب به الشافعي في كتابه سير الوافدين -
أن معناها تحريم نصب القتال عليهم، وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن
إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا تحصن الكفار في بلد آخر، فإنه يجوز
قتالهم على كل وجه، وبكل شيء، والله أعلم اهـ.
فانظر إلى هذه القيود في قتال البغاة الخارجين على الخليفة، وقتال الكفار في
أرض الحرم، وكيف منعه بعضهم مطلقًا، ولا يخفى أن إطلاق الرشاشات والمدافع
هي مما يعم كالمنجنيق لا كالسيف، والرمح الذي لا يقتل به إلا من قصد قتله
بشخصه , ومنه تعلم أن إطلاق الرصاص الذي استعمل في حادثة المحمل من المحرم
بالإجماع الذي لا يباح بحال ما، ولا عذر ما.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر قال: سمعت النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: " لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح ".
إذا كان هذا حكم الله في حرم مكة في كل حال، فكيف يكون تأكيده في الشهر
الحرام، وفي حال الإحرام، وأداء المناسك؟ وكيف يكون حكم حمل السلاح إذا
كان يقصد به الاستعداد للقتال دفاعًا عن بدعة المحمل؟
***
(منع النجديين والمصريين من حمل السلاح بمكة وحرمها)
(٥) قد رأى جلالة ملك الحجاز الاحتياط؛ لمنع هذه الجريمة العظمى
المحرمة بإجماع المسلمين لذاتها، بصرف النظر عما يتبعها من العداوة بين الممالك
الإسلامية، ومن تعطيل إقامة ركن الدين العام بمنع حمل السلاح مطلقًا , منع
النجديين، ومنع المصريين جميعًا , فهل يرضي مسلمًا، أو منصفًا غير عدو
للمسلمين، والحال على ما علمنا، أن يمنع النجديين من ذلك وحدهم، ويسمح به
للمصريين مع العلم بأن الحكومة المصرية إنما تطلب زيادة حرس المحمل، وزيادة
سلاحه، وسير الموسيقى معه؛ لأجل التنكيل ممن يتعرض له من النجديين.
أليس الواجب المحتم أن نتفادى من هذه الشرور، والجنايات المحرمة
بالإجماع بالاستغناء عن إرسال المحمل، وإرسال الجيش لأجله! بلى، وإن ملك
الحجاز كان يرجو أن تفعل الحكومة ذلك من تلقاء نفسها تكريمًا لها وحرصًا على
مودتها، وقد دفع في العام الماضي دية جميع قتلى النجديين من ماله، ودفع لهم ثمن
ما قتل لهم من الأباعر أيضًا , ولم يطالب الحكومة المصرية بشيء , ولا كتب لها
بذلك فيما نعلم.
فيأيها المسلمون المعتصمون بعروة دينهم المخلصون لربهم , افرضوا أن
هودج المحمل ليس بدعة محرمة بالمعنى الذي تقدم , وأنه من تقاليد الحكومة
المباحة؛ أيجوز لنا أن نتعصب لإرساله للحجاز بالصفة التي ينتظر أن تثير الفتنة
بيننا , وبين النجديين , وتتحول بها العبادة المفروضة إلى جرائم سفك الدماء , وانتهاك
حرمات الله تعالى , وإهانة حرمة الدين الذي فرض علينا تعظيمه؟
هبوا أن النجديبن مخطئون في الإنكار على المحمل؛ لقلة علمهم، ولغلوهم
في دينهم، وأنه يجب على ملكهم أن يصحح لهم معلوماتهم في ذلك.
ألستم تعلمون أن هذا عمل يتعذر في مدة قصيرة لو كان صحيحًا، وفي وسع
الحكومة المصرية السياسية أن تترك هذا المظهر من تقاليدها كما تريد ترك تقليد
الأئمة الأربعة في بعض أحكام الأمور الشخصية؟ والمصلحة في ترك تقليد ابتدعته
امرأة كان حكمها لمصر غير صحيح شرعًا أظهر من المصلحة فيما تريد من مخالفة
الأئمة الأربعة به.
دع ما هي مخالفة فيه للكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس من إباحة البغاء،
وأمثاله.
***
(إبطال إيهام الخطر على الحجاج المصريين)
(٦) أوهم كلام بعض الجرائد الداعية إلى منع الحج أن على حجاج
المصريين خطرًا من تعدي النجديين عليهم أخذًا بثأر من قتل منهم في العام الماضي،
ومن الأسف أن جاء بلاغ الحكومة الرسمي يؤيد هذا الوهم، وهو مدفوع من
وجوه:
(أولها) إن أولياء الدم من النجديين طالبوا جلالة الملك بعد انتهاء أعمال
الحج الماضي بالقود من قاتليهم، فأجابهم بأنه قتل خطأ لا قصاص فيه، بل تجب
فيه الدية فقط، فطلبوا منه أن يجمع لهم علماءهم الخمسة الذين كانوا بمكة؛
لاستفتائهم، فجمعهم، فأفتوا بوجوب الدية، فدفعها جلالته من ماله مع التعويض
كما تقدم.
(ثانيها) إن مسلمي نجد قد أبطلوا مسألة أخذ الثأر الجاهلية، وهم خاضعون
في ذلك لأحكام الشريعة، وهي لا تبيح عقاب كل مصري بذنب أمير الحج،
وعسكره.
(ثالثها) إنهم لا يخرجون عن أمر إمامهم؛ لأن علماءهم نشروا في جميع
البلاد أن مذهب أهل السنة لا يجوز الخروج على الإمام، وإن ظلم إلا إذا أعلن
الكفر.
(رابعها) إن المصريين إذا كانوا حجاجًا غير مسلحين يتعذر التمييز بينهم،
وبين سائر الحجاج كما قال حضرة أمين بك الرافعي في أخباره الإسلامية، فكيف
يعرفهم الوهابيون، فينتقموا منهم؟
(خامسها) إن حرس المحمل لم يكن في العام الماضي حارسًا للحجاج , ولا
كانوا هم ملازمين له , وقد ذهب بعد أداء الحج كثير منهم إلى المدينة المنورة , ولم
يذهب المحمل إليها , ولم يتعرض أحد من النجديين , ولا من غيرهم لهم بسوء.
(سادسها) إنه قد ثبت بالتواتر لدى شعوب العالم الإسلامي , وغيره أنه لم
يعرف في تاريخ الحجاز أن أحدًا من حكامه السابقين كان أقدر من الملك عبد العزيز
السعود على حفظ الأمن فيه أو مثله أو على مقربة منه؛ فهو إن عجز في هذا العام
عما كان قادرًا عليه فيما قبله؛ فلن تستطيع الحكومة المصرية أن تغني غناءه بحرس
محملها.
(سابعها) إن الحكومة المصرية لم تقم دليلاً على الخطر الموهوم الذي ادعته ,
وقد طالبها حضرة أمين بك الرافعي ببيان ذلك؛ فلم تجب مع أن المقرر في
أصول الفقه الإسلامي عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
(ثامنها) إن الحكومة المصرية قالت في موسم سنة ١٣٣٤: إنه قد ثبت
لديها أن طريق الحج غير آمن بسبب الحرب بين الشريف علي , وابن السعود.
وأمكنها بتلك الشبهة أخذ فتوى شرعية رسمية بجواز تأخير الحج , ثم ظهر للعالم
كله أن طريق رابغ التي أعلن ابن السعود أنه كافل للأمن فيها كانت آمنة لم يصب
أحد ممن سلكها إلى مكة المكرمة بسوء في نفسه , ولا في ماله.
(تاسعها) جاء في رسالة من مكة المكرمة إلى جريدة المقطم أن جلالة ابن
السعود عقد مؤتمرًا كبيرًا في نجد حضره زهاء ثلاثة آلاف رجل منهم جميع قواد
قواته الحربية , وجددوا مبايعته على السمع والطاعة , وأنه أمرهم بعدم حمل السلاح
في الحجاز , وأن الإخوان قرروا بعد ذلك عدم الحج في هذا العام؛ توسعة على حجاج
البحار الكثيرين. على أنه قلما يوجد منهم أحد يجب عليه الحج , ولم يحج في هذه
السنين التي استولى فيها إمامهم على الحجاز.
(عاشرها) إن السواد الأعظم من الراغبين في الحج , والمستعدين له لم
يبالوا ببلاغ الحكومة , ولا بإرجاف جريدة السياسة , فهم يتهافتون على البواخر
التي تحملهم إلى الحجاز كما نطقت بذلك جميع الجرائد - بلغهم الله السلامة -.
***
(مكانة المصريين بالحجاز)
(٧) أختم هذه المباحث بالشهادة لله تعالى: إنني لم أر جلالة الملك عبد
العزيز بن السعود أحرص على مودة شعب من الشعوب الإسلامية حرصه على
مودة الشعب المصري , ولا على مصافاة حكومة كمصافاته للحكومة المصرية,
إن القنصل المصري في جدة لأشد تعاليًا في الحجاز من المندوب السامي البريطاني
في مصر , وإن ناظر التكية المصرية بمكة حاول الاحتفال بالمولد بتزيين الشارع
العام أمام الحرم الشريف من جهة التكية , وهنالك دار الحكومة الحجازية , وهو يعلم
أن هذه الاحتفالات المبتدعة بما لها من الصبغة الدينية ممنوعة في الحجاز , ولما
بلغت الحكومة جلالة الملك ذلك مستأمرة له بمنع الزينة؛ تولى جلالته بنفسه
مخاطبة حضرة الناظر بالتليفون يرجوه بأن يترك تزيين الشارع , وأبواب الحرم ,
ويفعل في التكية ما شاء؛ فلن يعارضه أحد.
أتعلمون بماذا قابل حضرة الناظر هذا التواضع , واللطف من الملك؟ قابله
بعدم المبالاة به , وعدم الكف عن تزيين الشارع؛ فاضطر جلالته إلى أمر إدارة
الأمن العام بإزالة الزينة من الشارع فقط.
وإنما جرأ ناظر التكية على هذه المخالفة لكل شرع وقانون وأدب أنه رأى
الحكومة الحجازية في موسم الحج الماضي تأمر بمنع سير الأتومبيلات في شوارع
مكة؛ لنفور الأباعر التي تحمل شقادف الحجاج من صوتها , وحركتها - وضرر
ذلك ظاهر -؛ فامتثل جميع الناس الأمر , وفي مقدمتهم رجال الحكومة أعضاء
المؤتمر الإسلامي إلا أمير الحج المصري ورجاله؛ فإنهم ظلوا يغدون
ويروحون بأتوموبيلاتهم!! .
وأنشئت في الحجاز شركة أوتوموبيلات مصرية بين جدة ومكة بشروط كلها
في مصلحة المصريين والغبن على حكومة الحجاز , وكان من تعزز الشركة
بمصريتها أنها لم تقم بالشروط الرسمية المفروضة عليها , وأهمها إصلاح الطريق ,
ومنه مواضع ضرورية؛ فأنذرتها الحكومة المحلية المرة بعد المرة بإلغاء الامتياز
إذا لم تفعل , فلم تحفل بالإنذار؛ فألغته الحكومة بعد الإنذار الثالث في جريدة أم
القرى على ما نتذكر.
مع هذا كله نرى جريدة مصرية [٢] تتهم الحجاز , وحكومة الحجاز , وملك
الحجاز بحرمان المصريين من الاشتراك في حكومة الحجاز , وتفضيل السوريين
عليهم , ولم يخطر في بال حكومة الحجاز أمر التفاضل بين قطرين شقيقين في
الجامعات الدينية واللغوية , والجوار إلا أن أحدهما في بحبوحة الثروة والأمان ,
والآخر منكوب تدمر مدائنه وقراه ومزارعه ويشرد خيار رجاله ويموت ضعفاؤه
جوعًا وعطشًا وعريًا.
على أنني قد أرسلت في هذا العام عدة أساتذة من المصريين إلى مكة المكرمة ,
وأوصيت بهم , فمنهم المدرسون في المعهد السعودي الجديد , وهو أعلى معاهد
التعليم العصري في الحجاز , وبعضهم مدرسون في الحرم الشريف.
ومما يجب ذكره والتنويه به أن أحدهم يقرأ عقائد الإسلام لبعض النجديين
الذين يتهمون بتكفير المصريين كافة عامة , ومما يجب أن يذكر أن الإمام الحنبلي
النجدي في الحرم الشريف سافر , فوكل هذا الأستاذ المصري بأن ينوب عنه
بالإمامة.
***
(المصريون والنجديون)
(٨) إن النجديين كانوا يعيشون في عزلة عن العالم كله إلا قليلاً من
مهاجري التجار في الهند والشام ومصر، وقد فتح لهم باب آخر للتعارف مع سائر
الشعوب الإسلامية باتحاد حكومتهم بحكومة الحجاز في السياسة العامة دون الإدارة
الخاصة , وصار من الضروري أن يسعى أهل الرأي والبصيرة لإزالة ما كان من
سوء التفاهم بينهم وبين هذه الشعوب , ولا سيما الشعب المصري.
المعلوم عند أهل نجد بالإجمال أن الشعوب الإسلامية التي غلب عليها حكم
الإفرنج على حكم الإسلام قد فشت فيها حرية الكفر , والفسق؛ فكثر فيها التاركون
لأركان الإسلام , والمستحلون لمحرماته المعلومة من الدين بالضرورة , واستحلالها
كفر بإجماع المسلمين , ناهيكم بما تكثر فيها من البدع التي لا دخل للإفرنج فيها
حتى كثر فيها المرتدون , والجاهلون بالدين الصحيح الذي كان عليه السلف الصالح -
فبهذا قلت ثقتهم بدين أهل هذه البلاد , وصاروا يطعنون فيهم على الإطلاق إلا
من ساح منهم في البلاد أو عاشر السائحين.
وكان المشهور عن أهل نجد في مصر , والشام , والعراق , والهند , وغيرها
من الأقطار أنهم مبتدعة أصحاب مذهب خامس اخترعه لهم دجال يسمى محمد
عبد الوهاب، من أصوله: تكفير جميع المسلمين الذين لا يتبعون مذهبهم , واستحلال
دمائهم وأموالهم وتحريم جميع العلوم والفنون العمرانية.
ومن أهل هذه الأمصار من كان يزيد على ذلك بهتانًا أنهم يطعنون في الرسول
الأعظم , وينكرون شفاعته , ويحرمون الصلاة والسلام عليه إلخ , وإنما كان يعلم
بطلان هذه الدعاوى , والمطاعن فيهم المطلعون حق الاطلاع على التاريخ , وأعلمهم
بذلك المطلعون على كتبهم.
قد زال في هاتين السنتين كثير من خطأ الفريقين، والواجب السعي للإصلاح ,
والتأليف التام , والمصريون أجدر الناس بذلك؛ لأنهم أعلم بوجه الحاجة إليه ,
فإن الأساس المحكم الذي وضع لاتحاد الشرقيين كافة , والمسلمين خاصة إنما وضع
بمصر بيد الحكيمين المصلحين الشهيرين السيد جمال الدين الأفغاني , والشيخ محمد
عبده المصري , وهما اللذان أذاعاه في العالم كله بجريدة العروة الوثقى التي نشراها
في باريز وظلت دعوتها مستمرة في المؤيد، فالمنار، وغيرهما من الصحف، وقد
ألفت في هذه السنين جمعية مصرية لإحياء الرابطة الشرقية، فانبذوا أيها
المصريون المصلحون كل دعوى للشقاق، وكل طعن في إخوانكم النجديين، ولا
توسعوا الخرق على الراقعين، فالاتفاق خير لكم ولهم، والتعادي شر للجميع،
ومصلحة لخصوم الجميع.
قد اتفقت كلمة جميع الكتاب والباحثين على حسن نية جلالة ملك الحجاز،
ونجد عبد العزيز آل سعود، وإخلاصه في خدمة الإسلام والمسلمين، وقوة نفوذه
في شعبه كما دلهم على ذلك مسلكه في أعماله كلها، وفي المقاصد التي أعلنها في
المؤتمر الإسلامي العام، فعلينا أن نكل إلى حكمته، وحزمه، وحلمه نشر ما ينقص
النجديين من المعارف العصرية من طريق الدين , وقد بدأ بذلك بما أسسه من المعهد
السعودي للعلوم والفنون واللغات بمكة المكرمة , ولا تهوشوا عليه في سعيه.
أيها المسلمون لا يغرنكم كلمة من يقول: إن الحجاز للمسلمين عامة. فهي كلمة حق
يراد بها باطل قد صرح به قائلوه , وهو جعل حكومة الحجاز مؤلفة من هيئة
إسلامية مؤلفة من جميع الممالك الإسلامية , وأن يكون كل من ينتسب إلى الإسلام
حرًّا في رأيه وعلمه , وقوله فيه بحيث يصح لمثل الدكتور طه حسين أن يصرح
في حرم الله تعالى أمام بيته بإنكار ما في كتابه العزيز من إثبات بناء إبراهيم صلى
الله عليه وسلم , وإسماعيل صلى الله عليه وسلم له إلخ.
إن حرم الله تعالى , وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم مثابة لجميع المسلمين
في أداء مناسك الحج , والصلاة , وزيارة مهد الإسلام , وأفضل مساجده , وقبر
خاتم رسله , ومن المستحب لمن وصل إلى تلك البقاع زيارة قبور من دفن هنالك
من الصحابة , وغيرهم من السلف الصالح.
ولكن ليس لأحد إحداث بدعة دينية فيه ليست في كتاب الله , ولا في سنة
رسوله صلى الله عليه وسلم , وهدي السلف الصالح , وليس لحكومة حق الاشتراك
في حكم البلاد؛ لأن ذلك مثار فتن لا أسوأ من عاقبتها , وحادثة المحمل في العام
الماضي , وفي هذا العام أظهر دليل على ذلك.
لا خلاف بين المصريين , والنجديين في شيء مما ذكر من أعمال الحج ,
ومناسكه إذا كانوا يتبعون ما في كتب مذاهبهم دون البدع التي ينكرها جميع علمائهم
إذا سئلوا عنه.
وقد صرح الملك مرارًا بأنه يخضع لكل ما ثبت عن الأئمة الأربعة , وإذا
كابر دعاة الفتنة في المسألتين , فإننا نوضحهما في مقال آخر , والسلام على من
اتبع الهدى , ورجح الحق على الهوى.
***
كسوة الكعبة المعظمة
بعد أن قررت الحكومة المصرية منع إرسال المحمل إلى الحجاز , فأحسنت
صنعًا , وما أساءت إلا تعليلاً , وتأويلاً , قررت منع إرسال كسوة الكعبة , فسئل
رئيس الوزراء عن ذلك في مجلس النواب؛ فقال: إن الحكومة بعد أن قررت
إرسالها لتصريح ملك الحجاز بقبولها عادت , ففكرت أن الوهابيين ربما يعدونها
بدعة؛ فقررت عدم إرسالها! فأساءت الحكومة بهذا عملاً , وتعليلاً , فنشرت مقالاً
طويلاً في جريدة البلاغ في ذلك أودعته فصلاً للحافظ ابن حجر في تاريخ كسوة
الكعبة قبل الإسلام , وبعده.