(٨) موسيو (جوفنيل) وسياسته من أساليب السياسة الأوربية التي صارت معروفة بين جميع الباحثين في الشرق أن الجرائد والشركات البرقية تُخفي عن الشعوب ما يأتيه رجال الاستعمار من المنكرات، وأن تبدل سيئاتهم حسنات؛ خوفًا من حملات الأحزاب المعارضة للحكومة ومن انتقاد مستقلي الفكر أو أنصار الفضيلة، وقلما تصل إلى الرأي الأوربي العام أو الخاص بدولة استعمارية حقيقة ما ترهق به البلاد من المظالم والمآثم، إلا أن يكون المُبلِّغ لها لسان ثورة عامة أو قريبة من العامة في تعذر إنكارها. لهذا أقول لكل من يسألني عن رأيي في ثورة سنة ١٩١٩ على الإنكليز في مصر: إن أكبر فائدتها تكذيب رجال الإنكليز والجرائد المشايعة لهم في دعوى اغتباط جميع المصريين - ولا سيما الفلاحين - بالسلطة البريطانية في بلادهم، وإنما المتبرمون والطاعنون فئة قليلة من المتطرفين أصحاب الأهواء الشخصية أو الحزبية. كذلك كان من تأثير ثورة سورية الحاضرة وما كان من التخريب والتدمير في دمشق أن علم الشعب الفرنسي بالإجمال شيئًا يشين سمعة فرنسة وصِيتَها، ويحمِّلها خسائر تنوء بها خزينتها، ولم تعد دعاية شركات (هافاس) البرقية، وخلابة جرائد الاستعمار الفرنسية تستطيع إخفاء هذه الفظائع أو تأويلها، فأرادت الحكومة الجمهورية تدارك هذا الخطر الملصق بسلطة المندوب السامي العسكري (الجنرال سراي) الذي أوبقه الكائدون له من قومه حتى حملوه على ما فعل في دمشق وغيرها، فأخرجته من سورية واستبدلت به مندوبًا من أذكى رجال السياسة لديها، وهو موسيو (جوفنيل) الكاتب الصحفي والعضو الفرنسي في جمعية الأمم، عسى أن تفعل السياسة ما لم يفعل الحديد والنار، وتغني الكياسة ما لم يغن الدرهم والدينار، وماذا فعل (جوفنيل) ؟ شغل نفسه زمنًا طويلاً في درس المسألة في باريس، ثم بمعالجتها في لندن، ثم بدرسها في مصر، ثم بدرسها في سورية، وسمع فيهما أقوال الصادقين والمنافقين، وغلاة التعصب الديني والطائفي من اللبنانيين. ثم بمعالجتها في فلسطين، ثم بمعالجتها في أنقرة عاصمة الترك. وقد مرت بضعة أشهر على ندبه لهذه المعالجة على إثر الفظائع التي اقتُرفت في دمشق، فاهتز لهولها الشرق والغرب، ولم تزدد نيران الثورة إلا اشتغالاً، ولم تزدد البلاد إلا خرابًا، ولم يزدد المشاقُّون فيها إلا شقاقًا، ولم تزدد فرنسة إلا خسارًا لمالها ولرجالها ولصيتها، ولماذا؟ إنه أعد لمعالجة المسألة ما لا تحتاج إليه، ولا يتوقف علاجها عليه، والعلاج الوحيد نصب عينيه ولكنه لم يره، وبين يديه ولكنه لم يمسه، وكان يجب أن يُعوِّل عليه وحده، بيد أنه فكر في كل شيء دونه ولم يفكر فيه، فكر في أن إرضاء الإنكليز ضروري، وفي أن إرضاء الكاثوليك ضروري، وفي أن إرضاء الترك ضروري، وفي أن إرضاء ابن السعود ضروري، ولم يفكر في إرضاء السواد الأعظم من أهل سورية المسلمين السنيين، والشيعة والدروز، والعلويين، ومعتدلي المسيحيين، وإنما قدر ودبر وفكر في وسائل التفريق بينهم، وفكر في التهديد، وفي الوعد والوعيد، نعم إنه وعد وأوعد، وقال: ما عندي إلا السلم لمن يريد السلم، وإلا الحرب لمن يريد الحرب، وأنه يجب على الثوار أن يُلقوا السلاح ويستسلموا بدون قيد ولا شرط، وإنني أمنح.. . وأمنع.. . وأعفو وأصفح، وأضر وأنفع، وأمُنّ بالحياة، وأؤَمِّن على الأرواح. وفاته أنه لا يوجد سوري ولا شرقي يصدق قول سياسي أوربي، وأن الذين يبذلون أنفسهم ونفائسهم في سبيل الحرية والاستقلال، ولم يبالوا برؤية دورهم وقصورهم كدارس الأطلال، لا يرغبون في حياة ذليلة يمُنُّ عليهم بها مستعمر أجنبي منًّا، ويمنحها إياها - إن صدق - هبة وفضلاً. ولعنة الله على من يحب مثل هذه الحياة من الأنذال، ولن يكونوا إلا من أخساء الأنذال. كان مَثَل (موسيو جوفنيل) فيما ذكرنا من سعيه، كمثل صاحب الكنز مع الخضر في المبالغة في طلبه، فقد حكي في أساطير الأولين أن الخضر (عليه السلام) مر برجل فلاح فقير يجهد نفسه في أرض يصلحها للزراعة، فقال له: علام هذا التعب الكبير الذي لا يأتي إلا بربح صغير، والثروة واسعة بين يديك وأنت لا تدري؟ قال: ما هي؟ قال: إن في أرضك هذه كنزًا قريب المنال، يغنيك ويغني ذريتك من بعدك، قال: أين هو؟ أين هو؟ قال الخضر: خذ هذه القوس المعلقة في جدارك وضع فيها سهمًا وألقه أمامك ثم احفر حيث وقع يظهر لك الكنز. فلما ولى قام الرجل وأخذ القوس، فرأى وترها ضعيفًا غير مشدود، فألقاه، والتمس لها وترًا جديدًا شده أحكم الشد، وأخذ سهمًا ففوقه وألقاه وحفر حيث وقع، فلم يجد شيئًا، فظن أن السبب تقصيره في الرمي، فأخذ سهمًا آخر، ونزع في القوس أشد النزع، ورمى فبلغ سهمه مكانًا أبعد من الأول؛ فحفر فلم يجد شيئًا، فقال: لعل الكنز في غير هذه الجهة التي ذكرها الخضر، فما زال يرمي ويحفر حتى حفر جوانب الأرض البعيدة كلها، وترك المكان القريب الذي أمامه وهو الذي أشار إليه الخضر. فلما عاد الخضر من سياحته مرَّ به فإذا هو قد أعيا من التعب ويئس من الكنز وعاد إلى عمله الأول، فقال له الرجل: قد غششتني وأتعبتني زمنًا طويلاً في الرمي والحفر، وأنا لم آلُ جهدًا، فقد غيرت وتر القوس وأحكمت شده مرارًا وفعلت وفعلت كما ترى. فقال الخضر: إنك فعلت كل شيء إلا الذي قلته لك، أنا قلت لك: خذ هذه القوس المعلقة وضع فيها سهمًا وألقه أمامك واحفر حيث تقع تجد الكنز، وأنت لم تفعل هذا. ثم أخذ الخضر القوس، وكانت قد عادت كما كانت من كثرة الاستعمال، ورمى بها سهمًا من غير شد ولا جهد، ولا إغراق في النزع، وقال للرجل: احفر ههنا، فحفر فلم يلبث أن ظهر له الكنز بأقل عناء. إن (موسيو جوفنيل) لم يعدم ناصحًا صادقًا كالخضر، وإن للإنسان (خضرًا) من وجدان الحق والعدل هو أخلص نصحًا من (خضر) الأولياء والقديسين الذي يتناقل كثير من المسلمين والنصارى أخبار ظهوره لبعض الناس وإسعاده لهم، (ومسيو جوفنيل) وهو لم يُزيِّل بين نصيحة الصادقين وخديعة المنافقين، وكان بما اشتهر من ذكاء قريحته وسعة تجربته جديرًا بأن يفضل نصح هذا الخضر الذي يُهينم له المرة بعد المرة: دع الأهواء السياسية، وتقاليد الدولة الاستعمارية. وابحث في هذا الوطن السوري ذي التاريخ المجيد تاريخ الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين، وحضارة العرب الأمويين، وملك نور الدين وصلاح الدين - عن ذلك الكنز الذي به سعدوا وأسعدوا العباد، وبه عمروا البلاد، فهو يغنيك عن كل ما بذلت من الجهد ولا يغني عنه شيء. ذلك الكنز المدفون، والسر المصون، هو الحق والعدل وتبادل المنافع بالتراضي، حق سورية في الحرية القومية والاستقلال الوطني الذي يجب أن يتساوى فيه الفرنسي والسوري، وأن تكون الثورة في طلبه على حكومة أجنبية، أشرف منها على حكومة وطنية، والعدل في الحقوق بين جميع الملل والنحل على سواء بدون تفرقة بين الأولياء والأعداء، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: ٨) أي: ولا يحملنكم بغض قوم واحتقارهم على ترك العدل فيهم، بل اعدلوا فالعدل أقرب للتقوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: ٨) أي: عالم ومُطَّلع على دقائقه وخفاياه. لقد كان ينبغي "لمسيو جوفنيل" أن يعلم أن مسلمي سورية الشمالية غير راضين عن أعمال الإنكليز في سورية الجنوبية (فلسطين وشرق الأردن) ولا غافلين عن خطرهم على العراق، وأنهم فوق ذلك غير آمنين منهم على الحجاز وسائر جزيرة العرب، وأن يعلم أن جمهورية أنقرة التركية، صارت أبعد من جمهورية فرنسة عن الأمة العربية؛ لطمعها في أهم بقاع العراق وسورية، مع قطعها لرحم الأخوة الإسلامية. فهذه فرصة سانحة لفرنسة إذا أرادت أن تتودد إلى العرب والمسلمين بما يناسب الطور الجديد الذي دخل فيه الشرق توددًا صحيحًا لا كيد فيه ولا خداع، لا كإظهار التودد أخيرًا لملك الحجاز وسلطان نجد، ولا كإظهار التودد قبله للخلافة التركية، وأعني بهذا التودد أن تسبق إلى عقد اتفاق مع سورية جارة الحجاز ونجد، وأول قطر فتحه الصحابة، ومهد الحضارة لأول سلطنة (إمبراطورية) عربية إسلامية، على قاعدة الاستقلال المطلق والتعاون المتبادل. ألا فليتذكر (موسيو جوفنيل) أن الشرق قد استيقظ، وأن صداقة ثلاثمائة مليون ونيف فيه أنفع لفرنسة من صداقة ثلاثمائة ألف كاثوليكي في لبنان، وأن العدوان على ثلاثة ملايين من المسلمين في سورية، وسلب استقلالهم، وتخريب ديارهم يسوء ثلاثين مليونًا من المسلمين الخاضعين لفرنسة وهم يدينون دين الإسلام ويتكلمون كالسوريين بلغة القرآن، كما يسوء ثلاثمائة مليون مسلم في سائر أقطار الشرق. وإذا كان لم يعرف هذا فلا يصعب عليه أن يبحث عما كتبت الجرائد الهندية في كارثة سورية. إن سياسة إثارة العصبية والعداء بين المسلمين والنصارى في سورية كانت معقولة ولم تعد اليوم معقولة، فإذا تركتها فرنسة رضي نصارى سورية ولبنان بحقهم حينئذ أن يزيدوهم على حقهم والمسلمون لا يأبون عليهم، وأما العداوة فلا خير فيها لهم ولا لفرنسة، وحسبها خسارة ستة مليارات أو أكثر في سورية وخسارة صيت فرنسة الأدبي والمدني. كتبت جل هذا المقال منذ عدة أشهر، وها أنا ذا أختمه، ولم يبدُ من الرجل ما يدل على اهتدائه إلى حل عقدة سورية، فكيف يُرجى منه أن يبتكر لفرنسة سياسة جديدة تُحيي بها مجدها، وتسابق الشعوب التي كانت وراءها فصارت أمامها؟ ولو فقه (مسيو جوفنيل) هذه الحالة، وانتهز هذه الفرصة، لأمكنه أن يقنع وزارتي المستعمرات والخارجية في باريس أنه لا يزال في الإمكان السير في سورية على سياسة جديدة تصلح بها ما أفسده مَنْ قبله من المفوضين والمندوبين العسكريين، وتكون لفرنسة بها المنزلة العليا لدى الأمة العربية وجميع شعوب المسلمين، فقد زالت زعامة المسلمين من الترك، وعادت إلى أهلها العرب، وستدخل في طور نظامي جديد تكون به قوة كبيرة لمن يصادقها، وبلاء عظيمًا على مَنْ يناوئها، وإذًًا لترك التهديد والوعيد، والاتكال على النار والحديد، وسلك هذا المنهج الجديد قبل أن يسبق دولتَه إلى هذه السياسة تلك الدولةُ التي مازالت تسبقها في كل ميدان، من قبل ظهور نابليون الكبير إلى الآن.