للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي


خديجة أم المؤمنين
(٥)

الفصل العاشر [١]
(محمد - عليه الصلاة والسلام - قبل تزوج خديجة)
وإذا العناية صاحَبَتْ مَرْءًا فَلا ... تُكْثِرْ سُؤَالَكَ فِيهِ كَيْفَ ولِمْ وَمَا
ودعِ الترددَ إنْ أتاك حديثُه ... مهما حوى مهما نما مهما سما
لا تسأل كيف أبدع الإنسان من فتق الكواكب من رتق موادها، وقدر مدارات
لحركاتها، ونظامات لتقابلها، وأنشأ منهن المقسمات ليلنا ونهارنا، المدبرات صيفنا
وشتاءنا، الناظمات في أحشائهن شملنا، المادات بنسائمهن نسماتنا، وبأرواحهن
كياننا، ولا تسأل لم خلق لنا الأرض جميعًا نُشَرِّح أحشاءها، ونقطع أوصالها،
ونستخرج أفلاذها، قد حصرناها على عِظمها في يدنا، وحشرنا كل ما فيها في
ذرات صغيرة من دماغنا، إن شئنا نرفع من شأنها بما نركب من أجزائها، فيأتي
منها من البدائع ما يدهش ألبابنا، ويسحر أبصارنا، وإن شئنا لم نعبأ بها،
واستشرقت نفوسنا إلى غيرها، فاطلعنا إلى مصادر الأرواح ومواردها، ومشارق
الأسرار ومغاربها، وارتفعنا إلى ينابيع الأكوان ومظاهرها، وتلمسنا ثمة حياة لا
تحتاج فيها إلى ماء الأرض وهوائها، وترابها ونارها.
ولا تسأل كيف تقاربت صورنا معشر الإنس وتباعدت حقائقنا، ولم طالت
آمالنا وأعمالنا، وقصرت آجالنا وأعمارنا، ولم جشعت نفوسنا بتكثير الصور , ثم
شغفت كل نفس بأنواع منها، وتخالفنا في تمييزها وترجيح بعضها على بعض،
وتدابرنا في مناهج طلابها، وتقاطعنا في سبيل اكتسابها، ولم هذا البون في
أنصبائنا، والفرق في مرامينا، والبعد في مدارجنا، والغبن في معارجنا.
ولماذا منا أناس مع الكواكب مداركهم سابحة في أفلاك الحقائق، وبروج
الرقائق والدقائق، ومع الأنوار سيرهم منتشرة في سابق الدهور ولاحقها، وبادي
الشعوب وحاضرها، وآخرون مع الديدان مشاعرهم دابة بين أوراق الآجام
وأحطابها، أو تحت دخان القفار ونقعها، ومع العصف صورهم منطوية في أحشاء
الأواكل، ومندرجة في الأواخر مع إخوانهم الأوائل.
لا تسأل عن هذا كله إن كانت نفسك قد وقفت عند مطمأنها من معرفة الأول
الآخر، الظاهر الباطن، ذي الحياة الأزلية الساري سرها في الأكوان والوجودات،
البادي خط جلالها وجمالها على لوح الآيات البينات، من الأشكال والتنوعات
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ
لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم
مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
* وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ
تَخْرُجُونَ} (الروم: ٢٠-٢٥) .
إذا وقفت نفسك عند هذا المطمان من المعرفة فلعلها تصل بك إلى معرفة أن ذا
الحياة الأزلية ذو حكمة ليس في وسع استعدادنا أن نحيط بأسرارها خبرًا مهما حامت
حولها آمال مداركنا، ومهما طافت في سوح قدسها صوافي سرائرنا، فأخلق بأحدنا
أن يتذكر في هذه المسابح الفكرية عجز أجنحة عقولنا عن أن تصل بنا إلى ما دون
هذا السر الأعظم، ووقوعها بنا في كثير من أشراك الأوهام في الوجودات التي هي
تحت حسوسنا، وفي جوار جسومنا ونفوسنا.
وعسى أن ترقى بك هذه المعرفة إلى الإذعان بأن هذا الحي الأزلي الحكيم ذو
عناية ربانية لا يحاسب على ما يختص بها ممن يشاء فله الأمر كله فيما يبدئ
ويصور، وله الحكمة فيما ينوع ويميز، منه كل شيء وإليه المآب.
وإن كنت في ريب من الحكمة الأزلية، والعناية السرمدية، فدع نفسك واقفة
ما شاءت في عتمة النفي، أو دائرة في سجن الشك، أو طائرة في جوّ الوهم لا
قرار لها. وإنما نحكي هنا للذين هم بربهم يؤمنون.
سبق في العناية الأزلية أن تكون هداية شعوب كثيرة إلى أقوم سبل الحياة على
يد رجل من العرب يرتفع به اسمهم في العالمين , وكان من هذا الشرف الذي اعتده
الله للعرب أعظم نصيب لعبد المطلب الذي أخرج الله إنسان هذه الهداية من أولاده.
كان عبد المطلب [٢] من كبار أشراف قريش ورزق عَشَرَة أولادٍ مِن الذكور ,
وكان ابنه عبد الله أحبهم إليه فزوجه شريفة من أشراف قريش مِن بني زهرة تُدْعَى
آمنةَ , فحملت منه , وقبل أن تضع حملها تُوفي , فلمّا وضعت كفل وليدها جده ,
وكان هذا الوليد المبارك (محمدًا) صاحبَ القرآن.
فما أسعدك يا عبد المطلب! أكنتَ تدري وأنت في أبواب أبرهة الحبشي
تَتَطَّلب منه ردّ ذلك القليل من الإبل الذي لك مما استاقه من إبل مكة أن سيولد لك في
هذا العام حفيد تنثني أعناق الملوك في الأجيال المقبلة خاضعة لذكره.
أكنت تفكر إذ قصارى أملك حفظ مقامك بين قومك المنقطعين في تلك البرية
أن اسمك سترن به المحافل في الأمصار النائية والشعوب المختلفة على مدى عصور
كثيرة , كلما ذكر نسب حفيدك العظيم الذي أعتده الله لمنصب يتبعه من أجله العالم
ويبقى ذكره فيهم إلى الأبد.
أخطر على قلبك أن بلدك المقدس الذي لم يكن يحج إليه إلا العرب ستحج إليه
كل شعوب الأرض اتباعًا لما جاءهم به حفيدُك من الهداية.
أجاء في خلدك أن كنتك آمنة الزهرية إنما ولدت من يشرف الله به قومك
ويجمع به كلمتهم ويعلي سلطانهم وينشر لغتهم ويقيم لهم مجدًا مع الدهر مذكورًا،
وفي كتاب العالم مسطورًا.
هل كنت ملهمًا إذ سميته محمدًا؟ وكنت على رجاء كبير بأن يقيم له العالمون
تحميدًا لا ينقطع، وتمجيدًا لا يزول.
أعرفتَ أنك بحفظك هذا اليتيم , وكفالتك إياه , وعنايتك به إنما كنت تحفظ
للعالم كله التحفة التي آتاهم الله من كرمه، والوديعة القدوسية التي اختص الله بيتك
لظهورها، وقومك لانتشار مبدأ نورها.
فأنت بما أوتيت من هذه السعادة الخالدة جدير أيها المخصوص بعناية الحي
الأزلي، فليدم ذكرك جمالاً للمحافل واسمك ساميًا مع اسم حفيدك نبي الشعوب وبركة
العالم.
كانت ولادة محمد في القرن السادس من ميلاد المسيح عليهما الصلاة والسلام،
أي حوالي سنة سبعين وخمسمائة منه , وحوالي السنة الثامنة والأربعين من ملك
كسرى أنوشروان. ولم يكن قومه يعرفون سني الأمم وتواريخها ولا سني أنفسهم،
وإنما كانوا يحفظون الأعمار ويوقتون آجال الأشياء بالوقائع الشهيرة والحوادث
العظيمة كما هو شأن الأميين إلى عهدنا.
وُلِدَ عامَ الفِيل، وهي سنة اشتهرت بهذا الاسم لوقوع حادثة فيها عندهم تدور
صفوة حكايتها على حرن فيل القائد الحبشي وإبائه المسيرَ تلقاء مكة، فلذلك سميت
بهذا الاسم. وحادثة الفيل شديدة الشهرة , ويصح أن نقول: إنها من التاريخ المقدس
عند المسلمين أي إنها ذكرت في القرآن , ولكن على أسلوبه في القصص التي
يذكرها لأجل العبرة فقط لا على أسلوب المؤرخين ونقلة الأخبار.
وقد أعطي لمرضعة على عادة قريش في إعطائهم الأولاد للمراضع من القبائل
النازلة قرب مكة ابتغاء أن تتربى أجسامهم في البادية حيثُ الأرضُ النظيفة قد
كسيت من الأزاهر أبدع النمارق الطبيعية، والنسائم متحملة من ذلك العبير تهديه
إلى النفوس رائحة وغادية.
إذا بزغ رأس النهار أرسل إلى أفئدة أهل النشاط روحًا مبشرًا بطيب عقبى
العمل، وسوء منقلب الكسل، وكأن بينه وبين سكان البراري وساسة الأنعام عهدًا
أنْ لا يقبل بطلعته الباسمة إلا وهم مستقبلوه بالتحيات الطيبات من مباسم هممهم،
وثغور اجتهادهم، ورافعون إليه آيات الشكر على ما له من الأيادي البيضاء في
اخضرار عيشهم، وابيضاض وجوه آمالهم.
بزغ الفجر يومًا على نسمتين في أباطح تهامة قد أسفر عليهما البشر، ونفذت
الغبطة من أعماق جوانحهما إلى أسارير وجهيهما، ولم يكن ذلك الأنس والبشر لما
حولهما من مجالي عرائس الطبيعة؛ لأن السماء كانت شحيحة عليهم تلك السنة فلم
تترع حياضهم، ولا أونقت رياضهم، ولو لم يصن الوادي لهم القليل مما أغيثوا به
مرة لقتلهم الظمأ - ولا لما حولهما من وافر الرزق وسابغ النعم؛ لأنهما لم يكونا
يملكان إلا غنيمات قد جارت عليها السنة، وقتلها الجهد والجدب، ولكن كان ذلك
السرور بنعمة جديدة أصاباها فملأتهما فرحًا، وأشبعتهما ابتهاجًا، ولم يكونا يفتران
عن هذا الحديث الذي كانا يتغذيان به صباح مساء، ويجددان به شكرًا على هذه
النعماء، وهذا ما كانا يتحدثان به:
- حقًا يا حليمة إنك قد جئتنا بتحفة سنية ونسمة مباركة.
- إي والله يا حارث وانظر ما أَجْمَلَه، انظر إلى هذه الأشفار الهدب، انظر
إلى هذه العيون الدعج، انظر إلى هذا الجبين الأزهر، انظر ما أبهى انعكاس هذا
الضياء المقبل من الشرق على مرآة هذا الجبين.
كان هذا الحديث يجري بين امرأة وزوجها من قبيلة بني سعد صبيحة يوم كانا
قبله في مكة وكانت هذه المرأة هي التي جاءت بحفيد عبد المطلب لترضعه، وقد
حدثت هي حديثها كيف جاءت به وكيف رأت من بركته، قالت:
خرجت مع زوجي وابن لي صغير على أتان لي قمراء [٣] معنا شارف [٤] لنا
والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا مِن بُكائه من الجوع،
ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج،
فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت [٥] بالركب ضعفًا وعجفًا حتى قدمنا مكة نَلْتَمِسُ
الرُّضَعَاءَ، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه
إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول
يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي
إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: (والله إني لأكره
أن أرجع مِن بينِ صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه)
قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه
فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره. قالت: فلما أخذته رجعت به إلى
رَحْلِي , فلما وضعته في حِجْرِي أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى رَوِيَ ,
وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجي إلى
شارفنا تلك فإذا إنها حافل [٦] فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رِيًّا
وشِبَعًا , فبتنا بخير ليلة، قالت يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة
لقد أخذت نسمة مباركة. قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا
وركبت أتاني وحملته عليها معي , فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من
حمرهم حتى إن صواحبي لَيَقُلْنَ لي: يا ابنةَ أبي ذؤيب وَيْحَكِ أَرْبِعِي علينا [٧] ،
أليست هذه أتانك التي كنت خرجتِ عليها؟ فأقول لهن: بلى , والله إنها لَهِيَ.
فيقلن: والله , إن لها لَشَأْنًا.
قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد , وما أعلم أرضًا من أرض الله
أَجْدَبَ منها , فكانت غنمي تروح عَلَيَّ حِينَ قدمنا به معنا شباعًا لُبَّنًا , فنحلب
ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من
قومنا يقولون لرعيانهم: وَيْلَكُمْ اسرحوا حيث يسرحُ راعي بنت أبي ذؤيب. فتروح
أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لبن , وتروح غنمي شباعًا لبنًا , فلم نزل نتعرف من
الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته , وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان.
فيالك من سعيدة يا حليمةُ إذ كتب لك إرضاع اليتيم الذي تربيه العناية الخاصَّة,
ولم يكشف لك من آثارها إلا هذه البركة التي ملأت بيتك وويلكن أيتها المراضع
الغبيات المعرضات عن اليتيم التماسًا للرضعاء الذين لهم آباء. لقد فاتكن الحظ وما
الحظوظ بالاختيار، وعزاء لكم أيها اليتامى، فقد عاش محمد العظيم يتيمًا.
بعد أن ربي (محمد) صلى الله عليه وسلم، في بني سعد عند السيدة
حليمة جيء به إلى أُمِّهِ , فذهبت به وهو ممتلئ قوةً وهو ابن ست سنين إلى المدينة
لِتُزِيرَهُ أخواله مِن بني عدي بن النجار وفي عودتها إلى مكة توفيت في مكان يسمى
الأبواء. وكان عبد المطلب شديدَ العناية بحفيده , ويتوسم فيه علوّ الشأن , فلما بلغ
الثامنة مِن عُمُرِهِ ودَّعه مفارقًا هذه الدار وأودعه لدى الجناب الإلهي الذي من لدنه
واردات البِرّ والبركات إليه، ونوافح الرأفة والحنان عليه.
وقام مقامه ابنه أبو طالب، شقيق عبد الله أبي النبي - صلى الله عليه وسلم -
فأدخله في آل بيته وتعهد تربيته وتثقيفه.
وكان أبو طالب امرءًا نبيهًا شهمًا صادق المروءة، ماضي العزيمة، نصّارًا
للعدل والإنصاف، عرفنا كل ذلك فيه من تكليفه نفسه أقصى ما يمكن أن تكلف
النفس في حماية ابن أخيه لَمَّا قام بالدعوة، ومن مواقفه أمام قريش في نصره والذود
عنه. وقد خلف أبو طالب أباه عبد المطلب في المقام السامي بين قومه، فكان ابن
عبد الله ينتقل في بروج العِزّ والسؤدد والسعادة في آفاق الشرف الهاشمي، وتنطبع
في جوهره الكريم صور البر والعدل والإحسان على مثال الخلال الشريفة التي كان
يتحلى بها ذلك الرجل السامي التربية (أبو طالب) .
نحن قد رأينا من آثار العناية الأزلية بذلك اليتيم العزيز ما يصحّ القول معها:
إنه كان مستغنيًا عن تربية أحد , ولكن لماذا لا نقول: إن إعداد ذلك العمّ الفاضل
لتربيته في الصغر كان من جملة آثار العناية الفائقة به.
أما تربيته إياه التربية الجسدية فقد كانت على غاية ما يتصور علماء الصحة،
ولذلك جاء من آثارها قوة جسدية لهذا المبارك لا نظير لها، وصار على صورة من
الجمال كانت تجعل الذين يرونه يقولون لم نَرَ مثله. ولا يتم الجمال إلا بصحة البدن
وهي إنما تتم بحسن التربية الجسدية.
وأما تربيته إياه التربية العقلية فكانت جديرة أن يسجد أمامها فلاسفة النفس
وأساطين العقل , وهناك مِن آثارها قبل النبوة ما يجعلنا في حِيرة مِن أمر هذه القبيلة
الصغيرة المبتعدة في دارها عن مناشئ الارتقاء العقلي، ومناجم الإشراق الفكري،
لا كتب يدرسونها، ولا قوانين للمعارف يرتبونها، ولا شيء إلا غرائز طَيِّبَة
يتوارثونها، وقواعد عامة يتناقلونها، وحصافة أُوتوها في نقش أصحّ التجارب في
المدارك، والاحتفاظ بأثبت الفوائد في الذواكر.
وكذلك يفعلون في التربية الأخلاقية ينشئون الذّرّيّة على دروس المشاهدة في
مدارج العمل، ودروس القصد والاعتدال في معارج الأمل، فيأتي من تلك السلائل
التي لم تلحقها عدوى الأجيال الفاسدة نوابغ في العقول والأخلاق، أفذاذ في الهمة
والأعمال، بطبع من المربين، ونقش من المثقفين، وذلك كان شأن أبي طالب
ودأبه مع ابن أخيه العزيز، وربيبه النجيب.
نشأ (محمد) - صلوات الله عليه - في أمثل التربية بأنواعها كلها على يد
ذلك الفاضل العظيم , فجاء منه رجل أحسن الناس خَلْقًا وخُلُقًا، أذكاهم عقلاً،
وأذكاهم نفسًا، وأصدقهم لسانًا، أنداهم في العرف يدًا، وأثبتهم في الأزم قلبًا،
أرحمهم للضعيف، وأشجعهم على القوي، أبرّهم للقريب، وأعدلهم للبعيد، أقربهم
إلى المعروف سمعًا، وأبعدهم في الأمور نظرًا، أسدهم رأيًا، وأشدهم إقدامًا،
ألينهم للصاحب جانبًا، وأكرمهم للخير صاحبًا، وحسبك أنه عُرِفَ منذ صباه بالأمين،
وما زال على هذا المنوال حتى أكرمه الله بذلك المنصب العظيم , فزاده جمالاً
وجلالاً وكمالاً، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
نشأه ذلك المربّي على كل ما يزين الرجال من الأعمال، فلما كان ابن اثنتي
عَشْرَةَ سنةً سار به إلى الشام، وكان أبو طالب تاجرًا , فأوقفه في هذا السفر على ما
تكن الأرض وتعلن من طبائع الأقاليم المتغيرة، وأحوال العالم المتحولة، ففي
طريقهم من مكة إلى الشام منازل أُمم كانت فَبَانَتْ. كانوا على وجه الأرض جمالاً
لها , فلما فسقوا عن السنن التي تحيا بها الأمم شالت نعامتهم طرًا، وطارت نعمتهم
جميعًا، وأصبحوا كأن لم يكونوا {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} (القصص: ٥٨) , وفي رؤية أمثال هذه المنازل الخاوية أو المنتقلة إلى غير أهلها
عِبْرَة عظيمة هي أجل ما في السفر من الفوائد. ولقد كان فيما أوحي إلى هذا المُنْعَم
عليه بعد أن صار نبيًّا قوله سبحانه: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا
عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: ٩) .
وفي طريقهم هذه أوقفه عمه على قرى الشام ودساكرها، ومزارعها ومصانعها
ومتاجرها وحكومتها، وأراه كيف يكدح الناس جميعًا ليأكل نفر منهم خبزه بعرق
جبينه، وليتمتع نفر آخرون بثمرات تلك الأرض الطيبة، ونفائس ما تعمله تلك
الأيدي الثقفة، وكيف يعمل هذا لهذا في الاجتماع ليتمّ قوامه، ويحفظ نظامه.
ومر به على الأديار والصوامع حيث ينقطع نفر آخرون عن المزاحمة في هذا
الحطام الزائل، متوجهة نفوسهم إلى الوطن الذي يليق بالروح الغريبة في هذا
الهيكل الجسماني، غير ممدودة أيديهم إلى شيء من هذه الأرض إلا إلى ما يقي
البدن من جوع وعري , وذلك يتيسر ببعض حبوبها وأعشابها، وبعض أصواف
حيوانها وأوبارها.
في بعض تلك الأديار في (بُصْرَى) وقف به على الراهب (بَحِيرا) وكان
على حظ عظيم من علم الفراسة أو الكهانة، فأنبأه بما سيكون لابن أخيه من الشأن
العظيم , وأوصاه بمزيد العناية به.
وفي هذه السفرة مَرَّنَهُ على أساليب التجارة، وأطلعه على ضروب البضاعة،
وصنوف الأداة والماعون التي يتعاطى التجار تبادلها , وكيف يحمل كل منهم مِن
بلده ما لا يكون في غيره , ثم يحمل إلى بلده ما ليس فيه , وكيف يكون لهؤلاء
الوُسَطَاء في نقل حاج الناس من الفضل العظيم في ترقية البدائع الإنسانية ما ليس
لغيرهم.
فناهيك بما ملأ به أبو طالب ذهنه في هذه السياحة التجارية مِن صنوف
المعارف وأنواع التجارب , وفي درس كهذا من فوائد التربية العملية ما ليس في
ألف درس من التربية الكتابية أو النظرية.
ولما كان ابن أربع عشرة سنة أحضره معه في حرب الفجار، وهي حرب
هاجت بين قريش وبين قيس، فرأى في هذه الواقعة كيف تعبأ الصفوف، وتتقابل
الأبطال، وكيف يصبر الشجعان وإن أَوْدَى بهم الصبر إلى حتفهم، وكيف تكون
نتائجَ الصبر وحسن التدبير في الحروب، وكيف عاقبة الذين تنقطع قلوبهم جبنًا،
وتخور عزائمهم جزعًا.
ولم يباشر في هذه الحرب قتالاً، وإنما كان ينبل على أعمامه، أي يناولهم
النبل أو يرد عنهم النبل. وكان ذلك كافيًا لتمرنه على مواطن النزال، ومواقف
النضال، وليس بِخَافٍ أنّ الأخذ بيد الناشئ إلى معارك أبطال المبايعات، ثم معارك
أبطال المقابلات والمقاتلات، هو أعظم الوسائل التي تجعله أهلاً للمقامات العُلَى بين
الرجال، حتى إذا أتاحه الله للأخذ بقوم إلى سوح العزّ والسؤدد والصلاح والفلاح،
كان نعم الدليل الهادي، ونعم السائق والحادي.
فلما بلغ خمسًا وعشرين سنة عرضت عليه سيدتنا (خديجة) أن يخرج في
تجارة لها إلى الشام , وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مِن التجار، وأشار عليه
عمُّه بقَبُول ذلك، وطلب له أضعافًا فرضيت، وسار بتجارتها مع الركب إلى الشام
ومعه عبد لخديجة اسمه (ميسرة) ، فلما رجع بالبضائع إليها باعتها فربحت أضعافًا،
وكان هذا بدء تاريخ جديد للسيدة (خديجة) معه.
((يتبع بمقال تالٍ))