(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه) (٢٢) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي تعالى لأمتي أن لا يهلكوا بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي عز وجل قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يفني بعضًا. وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) [١] الحديث، السنة: القحط، والبيضة: حوزة الشيء وأصل القوم ومجتمعهم وعشيرتهم، ويقال لجماعة المسلمين بيضة الإسلام، وإذا سألنا التاريخ يخبرنا بأن الأجانب لم يستولوا على بلاد إسلامية، ولم يستبيحوا بيضة طائفة من المسلمين إلا بمساعدة المسلمين، فأهل مراكش كانوا عونًا لفرنسا على أخذ الجزائر، والأفغانيين أعانوا الإنكليز على الهنود، والجندي المصري فتح السودان ورفع الراية الإنكليزية عليه، وما كان المسلمون ليفعلوا هذا إلا بأمر أئمتهم أي أمرائهم، ولذلك كان يخاف النبي عليه السلام على أمته الأئمة المضلين. (٢٣) وقال صلى الله عليه وسلم: (لست أخاف على أمتي غوغاء تقتلهم ولا عدوًّا يجتاحهم؛ ولكني أخاف على أمتي أئمة مضلين إن أطاعوهم فتنوهم، وإن عصوهم قتلوهم) [٢] في هذا الحديث شيء من بيان معنى الخوف في الذي قبله، ومن البلاء أننا لا نرى أميرًا مسلمًا ينزع من نفسه عن الاستبداد ويقيد نفسه بالشرع والمشاروة حتى تكون الأجانب هي التي تغل يده وتقيده. (٢٤) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله؛ ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله) [٣] وقد عرفنا أهله من الأحاديث التي أوردناها في الجزئين السابقين من المنار. (٢٥) وقال صلى الله عليه وسلم: (لكل شيء آفة تفسده وآفة هذا الدين ولاة السوء) [٤] وذلك أنهم يستعينون على إفساده بعلماء السوء الذين يفتونهم بما يهوون ويعظمونهم على ظلمهم وفسقهم فيقتدي الناس بهم فيفسد عليهم دينهم. (٢٦) وقال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي إذا صلحوا صلحت الأمة: الأمراء والفقهاء) [٥] وهذا مؤيد لتفسير الحديث قبله. (٢٧) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته ما لم تُحْدِثُوا عمالاً تنزعه منكم، فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شرار خلقه فالتَحَوْكُم كما يُلْتَحَى هذا القضيب) [٦] وهذا تصريح بأن الملك لا ينزع من المسلمين إلا بواسطة أمراء السوء؛ ولكن الأمير مهما كان ظالمًا لا يعدم أعوانًا يحسِّنون عمله ويغشون الأمة به ما دام أميرًا، فلا تظهر سيئاته للناس كلهم إلا بعد موته يوم لا ينفعهم ظهورها، ولو شئنا لذكرنا شهادات التاريخ الماضي. وتاريخ هذا العصر الجرائد، وأكثرها خاطئة كاذبة، ممالئة مواربة. (٢٨) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) [٧] وهذا الحديث مختصر مما بعده ومصداقه ظاهر مشاهد. (٢٩) (ستكون من بعدي أمراء فأدوا إليهم طاعتهم؛ فإن الأمير مثل المِجَنّ يتقى به، فإن صلحوا واتقوا وأمروكم بخير - وفي نسخة: بمعروف - فلكم ولهم وإن أساءوا وأمروكم به فعليهم، وأنتم منه براء، وإن الأمير إذا ابتغى الريبة بالناس أفسدهم) [٨] أي هذا شأنه. ومن طرق الإفساد ما يبينه الحديث الآتي. وقوله عليه السلام (فلكم ولهم) ظاهر؛ فإن سعادة الأمير على حسب سعادة الرعية، وفي الحديث تقديم ذكر الرعية على ذكر الأمير؛ لأنها الأصل، وأما قوله عليه السلام (فعليهم) أي إذا لم تطيعوهم كما هو الحكم الشرعي، وذكرنا بعض الأحاديث فيه من قبل. (٣٠) وقال صلى الله عليه وسلم: (إنك إذا ابتغيت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) [٩] ومن أمرائنا من يتخذ العيون والجواسيس للبحث عن عيوب الناس وتتبع عوراتهم، وقد أفسدوا بها كثيرًا وأضلوا كثيرًا. (٣١) وقال صلى الله عليه وسلم: (سيكون بعدي سلاطين الفتن على أبوابهم كمبارك الإبل لا يعطون أحدًا شيئًا إلا أخذوا من دينه مثله) [١٠] . (٣٢) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من باطنها، وإذا كانت أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها) [١١] أي فعليكم أن تستميتوا في نصر الحق وتأييده غير وجلين من الموت؛ لأنه خير من حياة كهذه. (٣٣) وقال صلى الله عليه وسلم: (ستكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون فمن ناوأهم نجا، ومن اعتزلهم سلم أو كاد، ومن خالطهم هلك) [١٢] ناوأهم أي عاداهم أو عارضهم، وفي رواية نابذهم. قال العلماء: يجب الإنكار على من أمن على نفسه، فإن خاف أن يقتلوه يسقط الوجوب ويبقى الجواز، فإن قُتل فتلك الشهادة الفضلى، وورد في الحديث ما يؤيد ذلك، وقال في المعتزل (سلم أو كاد) لأن اعتزالهم قد يتضمن إقرارهم على ما هم فيه من الجور والمنكر، وأعظم الجور أن تكون سلطتهم فوق شرع الله تعالى، قال الغزالي في المعتزل: سلم من إثمهم ولكن لم يسلم من عذاب إن نزل يعمه. (٣٤) عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (كيف بك يا أبا عبد الرحمن إذا كان عليك أمراء يطفئون السنة ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها) فقلت فكيف تأمرني يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يسألني ابن أم عبد كيف يفعل! لا طاعة لمخلوق في معصية الله) [١٣] وقد أطفأ أمراؤنا من عدة قرون السنة حتى خرجوا عن هديها في الغالب، وأحيوا في هذا الزمان سنة الإفرنج حتى التهتك الذي يفسد أخلاق الأمة كالمراقص وما في معناها وقصورهم حانات خمور يتقربون بذلك إلى الإفرنج، إلا من عصمه الله تعالى (راجع حديث ٢٥) . آثار السلف عبرة للخلف (١) روى أبو بكر بن أبي شيبة والبخاري والدارمي والحاكم والبيهقي في السنن عن قيس بن أبي حازم قال: (دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ [*] قال بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم ويطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أمثال أولئك يكونون على الناس) ما كانت هذه الأعرابية الفاضلة تعلم أن سيكون للمسلمين مدنية لها رؤساء مكلفون بإقامة شعائر الدين والقيام بشؤون النظام العام فضرب لها المثل برؤساء القبائل في بداوة الجاهلية. (٢) روى البيهقي عن ابن اسحاق قال في خطبة أبي بكر يومئذ، أي يوم البيعة (وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران؛ فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم وأحكامهم وتتفرق جماعتهم ويتنازعون فيما بينهم، هنالك تترك السُّنة وتظهر البدعة وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح، وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله ورسوله واستقاموا على أمره قد بلغكم ذلك وسمعتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: ٤٦) (فنحن الأمراء وأنتم الوزراء إخواننا في الدين وأنصارنا عليه) . وفي خطبة عمر بعده (نشدتكم الله يا معشر الأنصار ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من سمعه منكم وهو يقول: الولاة من قريش ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره؟ فقال من قال من الأنصار: بل الآن ذكرنا، قال: فإنا لا نطلب هذا الأمر إلا بهذا، فلا تستهوينكم الأهواء فليس بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) . إذا كان شرط بقاء الأمر في قريش طاعة الله ورسوله والاستقامة على ذلك فمن أين جاءت لمن عداهم السلطة المطلقة التي يضعون بها القوانين المخالفة للشرع، ويصدرون الأوامر بالعفو عمن أمر الله بإقامة الحدود عليهم؟ ولماذا يطبق المنتصرون للدين بالقول الآيات الواردة فيمن لم يحكم بما أنزل الله على القضاة وحدهم وينسون الأمراء والملوك الذين شرعوا لهم ما لم يأذن به الله وولوهم القضاء وألزموهم الحكم بتلك القوانين؟ (٣) روى البخاري وأبو عبيد وابن سعد والبيهقي عن عائشة قالت: (لما استخلف أبو بكر قال: لقد علمت قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي وقد شغلت بأمر المسلمين فيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين فيه) . (٤) روى ابن سعد عن عطاء بن السائب قال: (لما بويع أبو بكر أصبح وعلى ساعده أبراد وهو ذاهب إلى السوق، فقال عمر أين تريد؟ قال السوق، قال تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين، قال فمن أين أطعم عيالي؟ فقال عمر: انطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إلى أبي عبيدة، فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم وكسوة الشتاء والصيف إذا أخلقت شيئًا رددته وأخذت غيره) في هذا الأثر فوائد جمة منها فضل الاحتراف الذي ترفع عنه كبراؤنا حتى افتقر كثير من البيوتات لذلك، ومنها أن الحاكم العام ليس له أن يحترف لئلا يشغله ذلك عن المصلحة العامة، ومنها أن سنة الراشدين أن لا يفرض الإمام الأعظم لنفسه شيئًا حتى تكون الأمة هي التي تفرض له وعليه الرضا بحكمها ومنها أن العدل أن يفرض له ما يكفي للمعيشة المتوسطة بالنسبة إلى صنفه، فيكون قريبًا من كل طبقات الأمة في حاله، من أعطى أمراء المسلمين بعد ذلك أن يأكلوا أموال الأمة بغير حساب ويهبوا منها بحسب أهوائهم وشهواتهم؟ أيصح أن يكون رئيس جمهورية سويسرة وقومه أقرب إلى العمل بسنة سلفنا من أئمتنا وأمرائنا إذ فرضت له الأمة راتبًا يكفيه أن يعيش كالمتوسطين في بلده، ومن ذلك أنه يركب في الدرجة الثانية إذا أراد السفر، وقد اشترطت الأمة عليه ذلك فإذا خالف لا يعيدون انتخابه، ديننا وضع هذه الأصول الإصلاحية وغيرنا يتمتع بسعادة العمل بها ويفوز بثمراتها، ونحن نقدس أمراءنا الذين أضاعوها، ونقول لجهلنا: ما بالنا ننكسر والأجانب ينتصرون، ما بالنا نذل وهم يعزون، ما بالنا نفتقر وهم يستغنون، ما بالنا نُستعبد وهم يسودون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٧) القرى: الأمم، والمراد بالظلم: الشرك والكفر، كما ورد في الحديث الصحيح، وقد أوضحنا أسباب هلاك الأمم بالعقل والنقل في المجلد الأول من المنار فليراجع. (٥) وفي رواية البيهقي عن الحسن أن أبا بكر لما غدا إلى السوق فمنعه عمر (قال: قد جاءك ما يشغلك عن السوق، قال: سبحان الله يشغلني عن عيالي، قال: نفرض لك بالمعروف، قال: ويح عمر إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا، فأنفق سنتين في وبعض أخرى ثمانية آلاف درهم فلما حضره الموت، قال: قد كنت قلت لعمر: إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا فغلبني فإذا أنا مت خذوا من مالي ثمانية آلاف درهم وردوها في بيت المال، فلما أُتي بها عمر قال: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا) .