للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة ملك الحجاز إلى الأمة البريطانية

لما أراد ملك الحجاز زيارة شرقي الأردن من أطراف البلاد السورية؛ قدم بين
رحلته هذه الرسالة متوهمًا أن يكون حاملاً للحكومة الإنكليزية على العطف عليه بما
يتقرب به إلى أهل فلسطين وينال موافقتهم على المعاهدة العربية، فجاءت هذه
الرسالة حجة لنا عليه وعلى أنصاره، ولو كانوا منصفين أو مخلصين لقلنا: (أقر
الخصم وارتفع النزاع) ولكن كم أقر الخصم قبل هذا بما كان حجة لنا في سائر ما
انتقدنا عليه , ولم يرتفع النزاع بيننا وبين الغارين والمغرورين من أنصاره , وأما
المخلصون فهم يرجعون إلينا آنا بعد آن (والعاقبة للمتقين) وقد نشرت الرسالة في
جرائد لندن فرد عليها (اللورد رجلان) بمقالة شديدة اللهجة في إهانة ملك الحجاز
وأولاده الملوك والأمراء خلاصتها أنهم كانوا أجراء للدولة البريطانية ووفتهم
أجورهم بأكثر مما يستحقه عملهم؛ إذ جعلت حسينًا ملكًا للحجاز وفيصلاً ملكًا في
العراق وعبد الله أميرًا في شرق الأردن ... وإننا ننقل ترجمة الرسالة بالعربية عن
المقطم وهذا نصها:
تلغراف خصوصي للمقطم
لندن الإثنين في ٣١ ديسمبر الساعة ٩ صباحًا
تلقت الصحف الكبرى بلندن نداءً بالإنكليزية من جلالة ملك الحجاز , وجه
فيه الخطاب إلى الأمة البريطانية , وقد أرسلت نسخ منه إلى أعضاء مجلس الأعيان
وغيرهم من الكبراء وأصحاب الكلمة النافذة , فرأيت أن أرسل إليكم صورته كما
تلقيناه وهو:
***
إلى الأمة البريطانية الكريمة
من الحسين بن علي
بناءً على ما اشتهر به الشعب البريطاني الكريم من الثبات والنزاهة وهي
الصفات المعروفة لي شخصيًّا , رأيت أن أعرض على ضميره الصادق , وحكمه
السليم آرائي في الحيف الذي أصاب قومي العرب في بلدانهم المختلفة.
لقد لبيت دعوة حكومة جلالة الملك؛ لأني كنت أعتقد أن في دعوتها منافع
مادية وأدبية متبادلة , وهو اعتقاد أعترف بأن الحكومة البريطانية كانت تشاطرني
إياه.
ولم تكن لتلبيتي لهذه الدعوة تنافر ما مع شيء من العواطف القومية أو الدينية،
بدليل ما جاء في منشوراتي الرسمية العديدة , فنهضت مع شعبي بعد نيل ضمانات
تضمن مصالحهم ومستقبلهم , وخضت معهم غمار القتال جنبًا إلى جنب , وكنت
وطيد الإيقان بأننا نحارب في جانب شرف الأمة البريطانية كلها , لا بجانب أفراد
تفصم العرى التي تربطنا زوالهم، ومثل لعيني شرف الأمة البريطانية وشهامتها
وعظمتها , فأقدمت على خوض القتال وأنا ممتلئ ثقة , في حين كانت فيه كفة
الخصم راجحة في كوت الإمارة والقنال والدردنيل وجميع ساحات الحرب في
أوربا , وواصلت اشتراكي وشعبي إلى النهاية وإلى أن تقشعت السحب السوداء
الملبدة , التي كانت تنذر بحرب دينية في الشرق , تكون بعيدة المدى والعواقب،
وضربت المثل الأعلى للعالم في سعة الصدر والتسامح والدفاع عن المبادئ السامية،
فلبى العرب دعوتي في العراق وفلسطين وسورية.
وكان بيدي وثائق الساسة المسؤولين وتصريحاتهم الرسمية والخصوصية التي
فاهوا بها على رؤوس الأشهاد، وكلها مجمع على أن العرب سيفوزون بوحدتهم
واستقلالهم مكافأة على ولائهم، وأن مصائبهم ومحنهم ستزول. وقد وضعوا أقصى
ثقتهم وآمالهم - بعد الله - في شرف الأمة البريطانية. ومما يشهد بذلك ويثبته أيضًا
أنهم أبوا صلحًا منفردًا , يعقد مع العدو الذي عرض عليهم أن ينيلهم استقلالهم،
وقطع لهم المواثيق الرسمية والضمانات المؤكدة؛ وذلك لأن العدو أخذ يشعر
بتأثير الصدمة الشديدة الأدبي والمادي من جراء قتال العرب في جانب بريطانيا
العظمى وحلفائها.
وكان من نتائج هذا الولاء والوفاء تلغراف رسمي ورد من وزير الخارجية
البريطانية يؤكد به وحدة العرب واستقلالهم , وتصميم الحلفاء على تحقيقهما، وأنه
يستحيل أن يعقدوا صلحًا إلا إذا نص في شروطه الأساسية على حرية شعوبنا
واستقلال بلدانهم، وقد أرسل هذا التلغراف باسم حكومة جلالة الملك البريطانية
وأبلغنيه المعتمد البريطاني في جدة يوم ٨ فبراير ١٩١٨.
فلهذه الأسباب ألفت نظر الأمة البريطانية إلى ما حل بحلفائها العرب , الذين
لا يزالون يعدون أنفسهم حلفاءها على قلة ما في العالم من الحلفاء الحقيقيين اليوم
فقد مزقت وحدتهم وقطعت أوصالها، وتفككت بلدانهم وصارت محتلة، وأخذ العالم
الإسلامي خاصة والسواد الأعظم من قومي يرميانني بتهمة أني بعت بلدانهم
لبريطانيا العظمى وحلفائها , وهي تهمة تكفي لتلطيخ كرامة بيتي وتسويد تاريخه.
وصمة لا يصبر عليها حتى الذين تجردوا من كل معاني الشرف وكرم الشيم [١] ,
ولا أعرف أن العرب ارتكبوا ما يستحقون أن يعاملوا لأجله هذه المعاملة إلا ثقتهم
المطلقة ببريطانيا العظمى , ووفاؤهم لها إن صح أن يعد هذا جناية حقيقية [٢] .
فالعرب المدفوعون بآخر شرارة في جوانحهم من الوفاء لحليفتهم العظيمة،
وبما فطر عليه جنسهم من عرفان الجميل والوفاء بالعهود، يرغبون إليَّ أن أبلغ
الشعب البريطاني أنهم لا يبغون بهذه الأقوال أن يباهوا بفعلهم , أو يمنوا بمساعدتهم
أو ينكروا على بريطانيا العظمى حقها في ضمان مصالح شعبها , أو يعارضوا في
صدق وطنية الأمة البريطانية، ولكنهم يرون من الإنصاف أن لا تنحصر هذه
الصفات فيها بل أن تكون في سواها أيضًا، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف
(حب الوطن من الإيمان) [٣] فالعرب - والحالة هذه - حائرون كيف يوفقون
بين وطنيتهم ووفائهم وولائهم لحلفائهم.
ولهذا أرغب في أن أصف في رسالتي هذه دهشتي وحالتهم الحاضرة للشعب
البريطاني الكريم؛ لئلا يقع عليهم لوم ما إذا توسلوا بوسائل أخرى إلى درء هذا
الذل العظيم الذي يسود تاريخهم المجيد , غير مكترثين للعواقب مهما كانت، وإلا
انطبق عليهم بحق المثل القائل: (فر من الموت وفي الموت وقع) وهذه أبسط تهمة
يلصقها بهم أعداؤهم؛ إذ يحق لهم أن يخاطبوهم بقولهم: (لو بقيتم كما كنتم قبلاً
لنجوتم من جميع هذه البلايا والرزايا) .
أما الحجاز فقد كان متمتعًا بامتيازاته واستقلاله في الماضي.
ويستحيل الصبر على موقف الأمة العربية في عيون العالم الإسلامي والشرق
عامة , وفي عيونهم أنفسهم وفي مرآة تاريخهم , وأن ينظر إليهم كخونة ظالمين.
إن هذا الموقف الشائن مما يستحيل قبوله والتسليم به.
ولست في ما أقول منذرًا، ولكنني مذكر، فقد كانت شهرة بريطانيا العظمى
أساس عظمتها في الشرق , وهذه الشهرة أعظم نفوذًا من أساطيلها العظيمة وجيوشها
الجرارة، فهي في حاجة عظيمة إلى تجديد مكانتها. أقول ذلك بصراحة العربي
وإخلاصه , وعلى بريطانيا العظمى أن تبدأ بمعاملة العرب الذين حالفوها ووالوها
إلى يومنا هذا مع كل ما طرأ من الطوارئ من اليوم الذي كانت فيه الحرب حقيقة
بادية للعيان إلى أن صارت خفية مستورة. ولا أطيل الكلام في هذا الصدد ولكني
أرجو أن تشرع الأمة البريطانية في أن تلقي عن عاتقها جميع هذه الأعباء، وأن
تنصف العرب حلفاءها الأوفياء، وخير لها أن يكون لها حليف متحد قوي مستقل،
من أن يكون هذا الحليف ممزقًا مقطع الأوصال ذليلاً كما هي حالة العرب الآن،
ولا يعلم إلا الله إلى أين يسوقهم قنوطهم بعد ما طفح الكيل.
أقول ما تقدم مدفوعًا إليه بعامل الإخلاص والوفاء , لما علي من العهود
والواجبات.
... ... ... ... ... ... ... ... البلاط الهاشمي بمكة
... ... ... ... ... ... ... في٢٤ نوفمبر سنة ١٩٢٣

(المنار)
إن هذا الخطاب يشرح للناس كنه عقل السيد حسين المكي ومبلغه من العلم
والسياسة , فهو صريح في أنه قد أسس سياسته في نصر الإنكليز على الترك على
شفا جرف هار من تخيل ما يسميه (الحسيات النجيبة البريطانية) , وتوهم أن
الإنكليز يعاملون الناس بمقتضى الحس والشعور بالوفاء والنجدة والكرم والإيثارعلى
أنفسهم , والوفاء بوعودهم وعهودهم مضاعفة. وجميع ذوي الإلمام بشؤون العالم
في الشرق والغرب يعلمون أن السياسة ليس فيها عواطف ولا فضائل ولا تقرب إلى
الله تعالى بإسداء المعروف إلى الناس - وأن الإنكليز خاصة أبعد البشر عن بناء أي
عمل من أعمالهم على الشعور والعواطف، وأنهم تجار ماديون قليلو التأثر والشعور ,
ولذلك لقبوا في كل العالم بأصحاب الدم البارد , وأنهم أبعد خلق الله عن الوفاء فيما
لا يعدونه من مصلحتهم التي يفتدون بها مصالح الخلق كله , ولكنهم لبراعتهم في
الرياء الفريسي - كما يصفهم أهل أوربة - يدعون الوفاء بتأويل ما يقع منهم من الغدر
والإخلاف، كتأويل معاوية وعمرو بن العاص لقتل عمار، وقد قال فيهم إمام
السياسة الأوربية ودهقانها في عصره (البرنس بسمارك)
إن الإنكليز أبرع الأمم في التفصي من المعاهدات بالتأويل. ونقول نحن:
إن هذا شأنهم مع الدول العظمى , وأما الضعفاء فإنهم لا يهتمون بتأويل غدرهم
وإخلافهم معهم.
ولنا من سياستهم في مصر والسودان مئات من الأدلة القطعية على ذلك ,
ولكن هذا الرجل لا يعرف من تاريخ مصر المجاورة له - دع تاريخ الهند وغيرها من
البلاد التي ابتليت بالإنكليز. اعترف الزعيم العربي بهذا الأساس الخيالي لسياسته ,
وأنه لم يبال برمي أمته له بالخيانة لثقته بهذه الخيالات , وأنه مصر على ذلك إلى
الآن، فهل يجوز أن يتخذ مثل هذا زعيمًا لشعب أو أمة , وخليفة للرسول الأعظم
على أمته وهو يخالف كتاب الله وسنته في كل خطوة من خطوات سياسته؟
سيقول الجاهلون بالتاريخ الحديث والسذج الذين لا يتفكرون في عواقب
احتلال الأجانب لأخصب البلاد العربية، والطامعين في الاستيلاء على ما بقي
منها وهو مركز القوة الدفاعية: ما بال صاحب المنار يوالي الطعن في الملك حسين
وأولاده دون غيرهم؟ ونقول لهؤلاء: إن الأمر أعظم مما وصلت إليه عقولكم،
وإن خطر هؤلاء على أمتكم أبعد مما تصورته أفكاركم، فانظروا وتفكروا، ثم
انظروا وتفكروا، ثم انظروا وتفكروا.
((يتبع بمقال تالٍ))