إذا أراد الإنسان أن ينظر في نفسه وما حوله؛ ليتأمل في الوجود ونشأته، وما في الطبيعة من مخلوفات، يرى نفسه قد خلق من نطفة، وأصله أبونا آدم عليه السلام، وقد خلق من تراب، يرى في السماء والأرض وما بينهما مخلوقات كثيرة الأنواع سائرة في حياتها بنظام متحد، والبعض منها له مواعيد منتظمة، وكل نوع من هذه المخلوقات كالإنسان والحيوان والنبات والجماد إلخ خلقت بشكل منتظم، وصنع دقيق؛ يزعم بعض الطبيعيين أن هذه الطبيعة وُجدت من تلقاء نفسها أو من لا شيء، ونسائلهم: هل نظامها وجد معها أيضًا في كل نوع من المخلوقات؟ وإذا حدث ما يخل بنظام شيء منها، كيف يعاد نظام سيرها؟ لو صح زعمهم لما أمكن سير الطبيعة في نظامها سنين طويلة، ولرأينا منها اعوجاجًا واختلافًا كثيرًا من حين لآخر؛ إذ أمد من حاد منها عن نظام سيرها لا يهتدي لطريقه، ولضل عنه واضطرب في سيره. بل الحقيقة أن المخلوقات التي نشاهدها في الطبيعة على اختلاف أنواعها، خلقت بدقة ونظام، وهي تحيا حياة منتظمة مما يدل على أن نظامها هذا سائر بقوة كبيرة جدًا تديره بعناية تامة ولا تفتر عنه لحظة واحدة، وهذا القدرة العظيمة لا تراها العيون، ولا تدركها العقول. وإذا رجع الإنسان إلى تاريخ أصله، يجد بالكتب السماوية قصة آدم من وقت نشأته، ومنها يعرف أن الذي أنشاه وصوره في أحسن صورة إله عظيم الشأن، هو صاحب هذه القوة العظيمة، وهو الخالق لهذا الكون الكبير وما فيه من مخلوقات. عاش آدم في الأرض، وعلّم بنيه بما علم، وعرفهم ربهم لعبادته وتكاثر النسل جيلاً بعد جيل، حتى صارت الذرية قبائل وشعوبًا في أنحاء الأرض، وبعضًا منهم أغواهم الشيطان وأضلهم، فبغوا وطغوا وازدادوا في الأرض فسادًا، ولقد اتخذ بعض المضلين منهم آلهة من دون الله، وهم لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، فأنذرهم ربهم وحذرهم بأن أرسل لهم رسلاً مبشرين ومنذرين، يرشدونهم للطريق القويم، ويأمرونهم بالإيمان بالله الذي خلقهم وخلق هذه الكائنات، واتباع أوامره، ومن عهد آدم للآن أرسل الله تعالى الرسل للناس في أوقات مختلفة، وأنذرهم بالإيمان بالله الذي خلقهم ولطاعته، فبعضهم كفروا بالله وأنكروه ولم يؤمنوا لهم استكبارًا وعنادًا، ولقد كان في الناس أمم شديدة البأس، ظلموا أنفسهم بما كفروا، فأخذهم الله بظلمهم {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: ٤٩) ، وصاروا عبرةً لأمم من بعدهم. بعد الذي ذكر ما على الإنسان إلا أن يؤمن بما أنزل الله تعالى من كتب على رسله الكرام من عهد آدم للآن، وعليه أن يعلم بما أمره أخيرًا بكتابه المنزل على رسوله آخر الأنبياء {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢) ، وبذلك يعتبر نفسه مؤمنًا بالله وكتبه ورسله جميعًا. إن من يؤمن ببعض ما أنزل الله، ويترك البعض كالذين لا يؤمنون بالقرآن لأي سبب كان، يدل على أنه مكابر، وقد ظلم نفسه أو لم يعقل شيئًا في نظام الوجود، وليس له عذر بل عليه أن يبحث ويسأل أولي الألباب إذا كان لم يفهم ما جاء بالكتب السماوية، ولا ريب أنه تظهر له الحقيقة، أما إذا عاش جاهلاً في طريق حليته دون أن يفكر فيها، فقد جازف بنفسه في طريق الضلال دون أن يشعر، وربما تمادى في جهله وتبعه بعض الجهلاء؛ لعقيدة حسنت في نظرهم، وهو في الحقيقة كسراب اغترت به أنظارهم، وتمشت معها أفكارهم، وصاروا حزبًا من الأحزاب له مبدأ العقيدة وبرنامج الطريق. ومن هنا، اختلف الناس في عقائدهم في الأزمان الغابرة، فإذا بحثنا في مبدأ كل عقيدة على ما جاء بالكتب السماوية، وجدنا أنها أجمعت على أن الله سبحانه وتعالى إله واحد لا شريك له في ملكه، ولنترك ما قيل فيها للذين يعقلون، ولنجعل بحثنا في الطبيعة ونظام الحياة فيها، فالناس جعلهم الله تعالى قبائل وشعوبًا وولى عليهم ملوكًا وحكامًا، وزين للناس حب البنين ليكونوا لهم ورثة من بعدهم، ولا يكتفي الإنسان من الذرية بواحد أو اثنين، بل يلتمس المزيد، وكذلك الملوك يلتمسون من البنين والحفدة أكثر من واحد حفظًا لملكهم، حتى إذا خلا ملكهم من الوراث الأول شغله الثاني وهكذا؛ لكيلا يأخذه ملك غريب، أو يغتصبه قوي رقيب. علمنا أن الله تعالى إله واحد ولا شريك له في ملكه، وأنه يحيي ويميت؛ لأنه على كل شيء قدير، وهو باق لا يموت أبدًا، وكل مخلوق في هذه الحياة سيفنى بانحلال عناصر حياته أو بموته، والأرض وما عليها من ميراث ونعيم يرثها رب السموات والأرض، ثم بإذنه تعالى تحيا الناس في الآخرة حياة أبدية، وفي مبدئها يحاسبهم ربهم على حياتهم الأولى، ويفعل ما يشاء بهم حسبما بشرهم وأنذرهم في كتبه السماوية، ومما ذُكر يُعلم أن الله سبحانه وتعالى حقيقة غني عن كل شيء، وقادر على كل شيء، وملك ومالك لملكه يفعل به ما يشاء {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: ٢٩) ، ولا وارث له إلا هو؛ لأنه باق لا يفنى. ومن العقائد القديمة التي سار الناس عليها بالوراثة للآن؛ اعتقاد النصارى بأن لله تعالى ولدًا - وحاشا لله أن يكون له ولد لأنه غني عن ذلك - ونسائلهم في عقيدتهم هذه: لأي شيء يتخذ لنفسه ولدًا واحدًا؟ ولماذا لم يتخذ أكثر من ذلك وهو قادر على كل شيء؟ وكيف يسمح بصلب ولده والتمثيل به؛ فداء للعالم مع أنه سبحانه وتعالى فدى إسماعيل بكبش، ولم يرض بتضحيته في سبيل طاعته؟ وهل يعز العالم على ولده فيتركه لأعدائه يمثلون به تمثيلا؟ إن ذلك لا يعقل أبدًا؛ إذ لا يوجد مخلوق يرضى بتسليم ولده لأعدائه لا سيما إذا كان وحيدًا والله أعز وأرحم وأعدل، وحيث إن الله تعالى قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يغفر لمن يشاء من خلقه خطاياهم بدون حدوث فداء لأحد من العالمين، ولقد خلق في السموات ملائكة يسبحون بحمده ويستغفرون لمن في الأرض كما ذكر في القرآن الشريف. ثم إن حقيقة مسألة الصلب؛ هي أن الذي صلب كان أكبر أعداء المسيح، فأراد الله تعالى رفع المسيح إلى السماء، وألقى شبهه في الخلقة على الذي صلب، فبحث الأعداء عن المسيح للتنكيل به، فوقع الذي هو شبهه في أيديهم، وعرفهم باسمه الحقيقي. ولكنهم لم يصدقوه فأخذوه وصلبوه ودفنوه بعد موته، فإذا قالت اليهود والنصارى: إن ما نجادلهم فيه مذكور في الكتب السماوية التي تؤمن بها، لقلنا لهم: إن ربنا أرسل كتبه بالحق لا يقول إلا الحق للذين يعقلون، وعليهم أن يبحثوا عن حقيقة ما أسند إلى الله تعالى بغير الحق، وأن لا يتبعون إلا ما يجدونه أمامه حقًا؛ إذ ربما حصل شيء لم يكن في الحسبان، وخال على قوم كانوا في غفلة منه فضلوا الطريق القويم، وضل من تبعهم من الذرية بغير علم. ويدهشني أن يعرف بعض الناس الحقيقة ولا يرضى بها؛ إما حياء من عشيرته أو اقتناعًا بميراث أبيه من الدين وإن كان على غير هدى، وبذلك يضحي بنفسه في سبيل آبائه وأجداده، والله تعالى أحق منهم بذلك؛ إذ خلقه ورباه ووالاه جنينا في بطن أمه قبل أن يراه والده ثم طفلاً ورجلاً وكهلاً، وهو الذي أحياه مدى عمره ثم يميته ثم يحييه تارة أخرى كما ذكر آنفًا. أفبعد ذلك يقول: أتبع أبي إلا إذا كان على غير هدى من ربه؟ وكل إنسان مسئول عن نفسه لا ينفعه أحد إلا إيمانه وعمله. وفي الختام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضاه، ويحسن لنا العاقبة ولجميع المسلمين إنه سميع مجيب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... طبيعي