للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى

ثم إذا انقلبنا في البحث إلى ما هو الشرك في نظر القرآن وأهله لنتقيه، نجد
أن الله تعالى قال في اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن
دُونِ اللَّهِ} (التوبة: ٣١) مع أنه لم يوجد من قبل ولا من بعد من الأحبار والرهبان
من ادعى المماثلة ونازع الله الخالقية أو الإحياء أو الإماتة كما يقتضيه انحصار
معنى الربوبية عند العامة من الإسلام، حسبما تلقوه من مروجي الشرك والإيهام،
بل الأحبار والرهبان إنما شاركوا الله تعالى في التشريع المقدس فقط فقالوا: هذا
حلال وهذا حرام. فقبل منهم أتباعهم ذلك فوصفهم الله بأنهم اتخذوهم أربابًا من دون
الله.
ونجد أيضًا أن الله تعالى سمى قريشًا مشركين مع أنه وصفهم بقوله: {وَلَئِن
سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: ٢٥) أي يخصصون
الخالقية بالله. ووصف توسلهم بالأصنام إلى الله بالعبادة فحكى عنهم قولهم: {مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: ٣) والمعظمة من المسلمين يظنون أن
هذه الدرجة التي هي التوسل ليست من العبادة ولا الشرك ويسمون المتوسَل بهم
وسائط ويقولون: إنه لا بد من الواسطة بين العبد وربه (وإن الواسطة لا تنكر) .
ويُعلم من ذلك أن مشركي قريش ما عبدوا أصنامهم لذاتها ولا لاعتقادهم فيها
الخالقية والتدبير بل اتخذوها قبلة يعظمونها بندائها والسجود أمامها وذبح القرابين
عندها أو النذر لها على أنها تماثيل رجال صالحين كان لهم قرب من الله تعالى
وشفاعة عنده فيحبون هذه الأعمال الاحترامية منهم فينفعونهم بشفاء مريض أو
إغناء فقير وغير ذلك، وإذا حلفوا بأسمائهم كذبًا أو أخلوا في احترام تماثيلهم
فيضرونهم في أنفسهم وأولادهم وأموالهم.
ونجد أيضًا أن الله تعالى قال: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: ١٨)
وأصل معنى الدعاء النداء، ودعا الله: ابتهل إليه بالسؤال واستعان به، والدليل
الكاشف لهذا المعنى هو قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ} (الأنعام: ٤١) وكذلك أنزل الاستعانة به مقرونة بعبادته في قوله جلت كلمته:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) .
وبما ذكر وغيره من الآيات البينات جعل الله هذه الأعمال لقريش شركًا به
حتى صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحلف بغير الله أنه شرك فقال:
(من حلف يغير الله فقد كفر وأشرك [١] ) وجعل الله القربان لغيره والإهلال والذبح
على الأنصاب شركًا وحرم تسييب السوائب والبحائر لما فيها من ذلك المعنى، وكان
المشركون يحجون لغير بيت الله بقصد زيارة محلات لأصنام يتوهمون أن الحلول
فيها يكون تقربًا من الأصنام، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام أمته عن مثل ذلك
فقال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد
الأقصى [٢] ) . فلا ريب إذن أن هذه الأعمال وأمثالها شرك أو مدرجة للشرك.
(مرحى)
فلينظر الآن هل فشا في الإسلام شيء من هذه الأعمال وأشباهها في الصورة
أو الحكم؟ ومن لا تأخذه في الله لومة لائم لا يرى بدًّا من التصريح بأن حالة السواد
الأعظم من أهل القبلة في غير جزيرة العرب تشبه حالة المشركين من كل الوجوه
وإن الدين عندهم عاد غريبًا كما بدأ كشأن غيرهم من الأمم. فمنهم الذين استبدلوا
بالأصنام القبور فبنوا عليها المساجد والمشاهد وأسرجوا لها السرج وأرخوا عليها
الستور يطوفون حولها مقبلين مستلمين أركانها، ويهتفون بأسماء سكانها في الشدائد
ويذبحون عندها القرابين يُهلُّ بها عمدًا لغير الله وينذرون لها النذور ويشدون للحج
إليها الرحال ويعلقون بسكانها الآمال، يستنزلون الرحمة بذكرهم وعند قبورهم،
ويترجونهم بإلحاح وخضوع ومراقبة وخشوع أن يتوسطوا لهم في قضاء الحاجات
وقبول الدعوات، وكل ذلك من الحساب والتعظيم لغير الله [٣] والخوف والرجاء من
سواه.
ومنهم مَنْ استعاضوا عن ألواح التماثيل عند النصارى والمشركين بألواح فيها
أسماء معظَّميهم مصدرة بالنداء تبركًا وذكرًا ودعاءً يعلقونها على الجدران في بيوتهم
بل في مساجدهم أيضًا [٤] ويتوّجون بها للأعلام من نحو (يا علي، يا شاذلي، يا
دسوقي، يا رفاعي، يا بهاء الدين النقشي، ويا جلال الدين الرومي، يا بكتش ولي)
ومنهم ناس يجتمعون لأجل العبادة بذكر الله ذكرًا مشوبًا بإنشاء المدائح لغُلاة شعراء
المتأخرين التي أهون ما فيها الإطراء الذي نهانا عنه النبي عليه الصلاة والسلام
حتى لنفسه الشريفة فقال: (لا تطروني كما أطرت اليهود والنصارى أنبياءهم [٥] )
وبإنشادهم مقامات شيوخية تغالوا فيها في الاستعانة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ
لو سمعها مشركو قريش لكفروهم؛ لأن أبلغ صيغة تلبية لمشركي قريش قولهم:
(لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك غير شريك واحد تملكه وما ملك) وهذه أخف
شركًا من المقامات الشيوخية التي يهدرون بها إنشادًا بأصوات عالية مجمتعة وقلوب
محترقة خاشعة كقولهم:
عبد القادر يا جيلاني ... يا ذا الفضل والإحسان
صرت في خطب شديد ... من إحسانك لا تنساني
وقولهم:
الآهم يا رفاعي لي ... أنا المحسوب أنا المنسوب
رفاعي لا تضيعني ... أنا المحبوب أنا المنسوب
إلى غير ذلك مما لا يشك فيه أنه من صريح الإشراك الذي يأباه الدين الحنيف.
ومنهم جماعة لم يرضوا بالشرع المبين فابتدعوا أحكامًا في الدين سموها علم
الباطن أو علم الحقيقة أو علم التصوف، علمًا لم يعرف شيئًا منه الصحابة والتابعون
وأهل القرون الأولى المشهود لهم بالفضل في الدين. علمًا انتزعوا مسائله من
تأويلات المتشابه من القرآن مع أن الله تعالى أمرنا أن نقول في المتشابه منه:
{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: ٧) وقال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللَّهُ} (آل عمران: ٧) وقال عز شأنه في حقهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام: ٦٨) وقال
تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (هود: ١١٢) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (النور: ٦٣) وانتزع هؤلاء المداحون أيضًا بعض تلك
المزيدات من مشكلات الأحاديث والآثار ومما جاء عن النبي عليه السلام من قوله
على سبيل الحكاية أو عمل على سبيل العادة، أي لم يكن ذلك منه عليه السلام من
قول على سبيل التشريع. أو من الأحاديث التي وضعها أساطينهم إغرابًا في الدين
لأجل جذب القلوب كهذا الحديث الذي ننقله بالمعنى وهو (يفتح بالقرآن على الناس
حتى يقرأه المرأة والصبي والرجل فيقول الرجل قد قرأت القرآن فلم أتبع لأقومن
بهم فيه لعلي أُتَّبَع فيقوم به فيهم فلا يُتبع، فيقول قد قرأت القرآن وقمت به فلم أتبع،
لأحتظرن من بيتي مسجدًا لعلي أتبع فيحتظر من بيته مسجدًا فلا يتبع، فيقول قد
قرأت القرآن وقمت به واحتظرت من بيتي مسجدًا فلم أتبع، والله لآتينهم بحديث لا
يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه عن رسول الله لعلي أتبع) .
ومنهم فئة اخترعوا عبادات وقربات لم يأت بها الإسلام ولا عهد له بها إلى
أواخر القرن الرابع فكأن الله تعالى ترك ديننًا ناقصًا فهم أكملوه، أو كأن الله جل
شأنه لم يُنَزِّل يوم حجة الوداع {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣) أو كأن النبي عليه السلام لم يتمم كما
يزعمون تبليغ رسالته فهم أتموها لنا، أو كتم شيئًا من الدين وأسرَّ به إلى بعض
أصحابه وهم أبو بكر وعلي وبلال رضي الله عنهم، وهؤلاء أسروا به إلى
غيرهم وهكذا تسلسل حتى وصل إليهم فأفشوه لمن أرادوا من المؤمنين؛ تعالى الله
ورسوله عما يأفكون , أليس من الكفر بإجماع الأمة اعتقاد أن النبي عليه السلام
نقص التبليغ أو كتم أو أسرَّ شيئًا من الدين (مرحى) .
ومنهم جماعة اتخذوا دين الله لهوًا ولعبًا فجعلوا منه التغني والرقص ونقر
الدفوف ودق الطبول ولبس الأخضر والأحمر واللعب بالنار والسلاح والعقارب
والحيات يخدعون بذلك البسطاء ويسترهبون الحمقى.
ومنهم قوم يعتبرون البلادة صلاحًا والخبل خشوعًا والصرع وصولاً والهذيان
عرفانًا والجنون منتهى المراتب السبع للكمال.
ومنهم خلفاء كهنة العرب يدَّعون علم الغيب بالاستخراج من الجفر والرمل أو
أحكام النجوم أو الروحاني أو الزايرجه أو الأبجديات أو بالنظر في الماء أو السماء
أو الودع أو باستخدام الجن والمردة، إلى غير ذلك من صنائع التدليس والإيهام
والخزعبلات وليس العجب انتشار ذلك بين العامة الذين كالأنعام في كل الأمم
والأقوام، بل العجب دخول بعضه على كثير من الخواص وقليل من العلماء كأنه من
عزيز الكمالات في دين الإسلام (مرحى) .
فهذه حالات السواد الأعظم من الأمة وكلها إما شرك صراح أو مظنات إشراك
حكمها في الحكمة الدينية حكم الشرك بلا إشكال، وما أخر الأمة إلى هذه الحالات
الجاهلية، وبالتعبير الأصح: رجع بها إلى الشرك الأول إلا الميل الطبيعي للشرك
كما سبق بيانه مع قلة علماء الدين وتهاون الموجودين في الهدى والإرشاد.
نعم، إن رد العامة عن ميلها أمر غير هين وقد شبه النبي عليه السلام معاناته
الناس فيه بقوله: (مثلي كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حولها جعل
الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن
فيها فأنا آخذ في حجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها [١] ) وقد قال الله تعالى في
العلماء المتهاونين عن الإرشاد كيلا يقابلوا الناس بما لا يهوون: {إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
إِلاَّ النَّارَ} (البقرة: ١٧٤) ، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لما وقعت بنو
إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم
وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن
مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) فالتبعة كل التبعة على العلماء الراشدين، ولم
يزل والحمد لله في القوس منزع ولم يستغرقنا بعد انتزاع العلماء بالكلية كما أنذرنا
به النبي عليه السلام في قوله: (إن الله لا يقبض العلماء انتزاعًا من الناس ولكن
يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهلاء؛ فسئلوا فأفتوا بغير
علم؛ فضلوا وأضلوا) ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ثم قال: ولننتقل من بحث الشرك والإعراض عن ذكر الله إلى بيان أسباب
التشديد في الدين وحالة التشويش الواقع فيه المسلمون فأقول ...
((يتبع بمقال تالٍ))