للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدكتور شبلي أفندي شميل

اطلعت في مجلة الهلال شهر حزيران سنة ١٩٠٩ على مقالة للدكتور المومأ
إليه، بحث بها بحثًا فلسفيًّا، يخال للمطالع من أول وهلة أن الدكتور قصد به
محاربة الأديان السماوية على الإطلاق؛ بما توخاه من نفي الخلق وإثبات النشوء،
وقد عجبت بعد إطالته لتأييد هذا المذهب الجديد من قوله: (لا حياء في الدين) ،
وهذا مما يدل أن للدكتور دينًا، فما هو دينه يا ترى؟
سعى إخوان الدكتور المومأ إليه لأخذ توقيع بعض الناس؛ لانتخابه عضوًا في
مجلس الأعيان العثماني بصفة أنه عالم مسيحي، والعالمية والمسيحية صفتان
مرتبطتان بنواميس وقواعد توجب السلامة لكل بني البشر، باعتبار أن للمسلم
أصولاً تقضي بإحقاق الحق، كما أن الدين قانون لمكارم الأخلاق يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر.
وكنت أستغرب عدم تعيين المومأ إليه بعد ذلك الانتخاب. ولعل الذين رفضوا
قبول تعيينه عضوًا في المجلس الآنف الذكر؛ عرفوا أن الدكتور على مذهب دارون،
وأنه ليس بمذهب معقول ولا مشروع ولا له أتباع في البلاد العثمانية؛ ليكون
نائبًا عنهم؛ لأن أصحاب الأديان المعروفة هم المسلمون والنصارى واليهود.
كنت أقف مبهوتًا كلما نظرت إلى مصور الإنسان: (أطلس رسوم هياكله
على اختلاف أشكالها) وما احتوت عليه من تراكيبه الكلية والجزئية الظاهرة
والخفية التي لا تدون ولن تدون؛ لانطواء كل شيء في العالم الكبير العظيم ضمن
هذا الجرم الصغير، وكنت أكرر تمجيد قدرة الخالق سبحانه كلما تأملت في الأوعية
والأوردة والأدوات والمصانع وأسبحه وأقدسه؛ لإعطائه كل شيء خلقه، وهدايته
إلى استعمال وظيفته. وأنشد قول الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر سيدي محيي الدين
ابن العربي - رضي الله عنه - في توجيه الخطاب إلى الإنسان.
وتحسب أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
وأقول في نفسي: إن الأطباء يلزم أن يكونوا أكثر الناس اعتقادًا بتوحيد
الخالق سبحانه؛ لوقوفهم على حقائق ودقائق ولطائف في تركيب الإنسان لا يعرفها
غيرهم، كما أنه لا زلنا نسمع عن أساطين الأطباء أنهم كلما اكتشفوا شيئًا جديدًا
يقولون: إن الطب لم يزل طفلاً {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:٨٥) .
وبالنظر إلى الدقائق واللطائف والرقائق المنطوية في العالم الإنساني، قال
بعض علماء الصوفية (من عرف نفسه فقد عرف ربه) .
وإذا قلنا - وهو الواقع -: إن الأطباء أكثر الناس علمًا بنظام العالم الإنساني
فهل يسلم العقل أنهم ينسبون إلى الطبيعة الجامدة غير المتصفة بالعلم والقدرة
والإرادة؛ أنها أوجدت هذا الإنسان العاقل بالنشوء {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: ١٦) .
الكون موجب للحيرة أو هو بعجائبه محل الحيرة؛ ولذلك قال بعض شيوخ
علماء التصوف: (العجز عن درك الإدراك إدراك) .
وإذا كانت علوم مدنية أوربا لبواعث نقف تأدبًا عن إيرادها، قد احتوت على
الإلحاد، فقد احتوت أيضًا على علوم ذات فوائد عظيمة: اجتماعية وأخلاقية
واقتصادية وسياسية إلى غير ذلك، والشرق بحاجة إليها وخصوصًا بدورنا
الدستوري؛ ذلك الدور السعيد الذي يقضي بتوحيد مشارب عناصر الوطن وتماسكهم
لكي يسعدوا بالوطن ويسعد بهم، وذلك يستلزم أن ينقل إلى الوطن من علوم مدنية
أوربا ما يعود عليه وعلى أبنائه بالخير وأسمى المطالب، وخصوصًا لجهة البحث
عن أحوال بلاد النمسا والمجر المشابهة من حيث تعدد العناصر للبلاد العثمانية ,
وبيان البواعث التي قضت بوحدة تلك العناصر واتفاقها وقيامها شعبًا واحدًا يؤيد
مصلحة الوطن ويعزز قوته.
ألم يكن البحث بمثل ذلك خيرًا وأعم نفعًا من تأييد مذهب دارون، ذلك
المذهب الذي قضاياه تخيلات افتراضية صورها الوهم وقربها الاعتقاد بها، وهي لا
يمكن أن تحل في محل دين من الأديان مطلقًا. نعم.. إن من يميل إليها يكون حجر
عثرة في سبيل العفاف والإنسانية والعدالة، تأخذ بيد من مال معها إلى الأهواء،
وتجسره على فك ارتباطه من قيود الدين الأدبية فتسوء عاقبته، ويتحمل صاحب
هذه البدعة مثل وزر ذلك المسكين الذي مرق من الدين بالإغواء وزخرف القول
المموه.
ومن المؤكد أن الاعتقادات الفاسدة التي تناقض الدين؛ فضلاً عن أنها تبعد
الإنسان عن خالقه، فهي توجب شرورًا تؤخر الوطن بأدبياته ومادياته، فنرجو من
أفاضل الشرقيين الذين وهبوا العلم أو تحصلوا عليه بجدهم أن يتحفوا الشرق بغرر
فوائد أوربا وحسناتها، ويدعونا من إلحاد الملحدين؛ لأن الحسن في نفسه حسن
ويوجب حسن الأحدوثة، والسيء في نفسه سيء ويوجب سوء العاقبة، أجارنا الله
من ذلك، وأن يهبنا الصدق في القول والإخلاص في العمل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر قباني
(المنار)
صاحب هذه الرسالة يعرفه كثير من قراء المنار، ومنهم من لا يعرفه. هو
شيخ رجال الصحافة وكبيرهم عبد القادر أفندي القباني صاحب جريدة ثمرات الفنون
التي عاشت أكثر من ثلث قرن وأوقفت في العام الماضي، وكان مديرًا للمعارف
ببيروت إلى ذلك العام. وقد جرى في دفاعه عن الدين في رسالته هذه على ما تعوَّد،
فجزاه الله عن نفسه ودينه خيرًا.
ولكنه جاء بشيء من المبالغة في الكلام عن مذهب دارون ومخالفته للدين
وإفضائه إلى الشرور، حتى جوَّز أن يكون هو الذي منع جعل الدكتور شميل
عضوًا في مجلس الأعيان كما طلب الكثيرون من السوريين! وعجيب مِن مثل
القباني أن يخطر هذا في باله! وهل يظن أنه لا يوجد في رجال المجلس العمومي
من المبعوثين والأعيان مَن يقول بصحة رأي دارون في تباين الأنواع؟ وهل كان
الكاتب نفسه يمنع كتب دارون وكتب مَن على رأيه مِن المدارس وغير المدارس؛
لو بقي مديرًا للمعارف بعد الدستور أو صار ناظرًا للمعارف العمومية؟
أؤكد لصديقي الكاتب أن مذهب دارون لا ينقض - إن صح وصار يقينًا -
قاعدة من قواعد الإسلام، ولا يناقض آية من آيات القرآن، وأعرف من الأطباء
وغيرهم مَن يقولون بمثل قول دارون؛ وهم مؤمنون إيمانًا صحيحًا ومسلمون
إسلامًا صادقًا، يحافظون على صلواتهم وسائر فرائضهم، ويتركون الفواحش
والإثم والبغي التي حرم الله تعالى عملاً بدينهم. على أن هذا المذهب علمي ليس
من موضوع الدين في شيء.
ثم إنني أعلم أن الدكتور شميلاً لم يكتب ما كتب ردًّا على صاحب مجلة الهلال؛
إلا إنكارًا لبعض ما قاله في الاستدلال على صحة الدين من طريق العلم، ولم
يقصد بذلك التعرض لإبطال الدين نفسه، أعني أن بحثه كان في الدليل لا في
المدلول , وهو وإن كان غير متدين لا يستجيز الكتابة في إبطال الدين والتنفير عنه
بل أنكر قولاً وكتابة على جماعة من إيطاليا أنشأوا مدرسة في الإسكندرية ظهروا
فيها بمقاومة الدين , ولو كانت كتابته للهلال في الاعتراض على الدين لكنا ممن
عني بالرد عليه.
لا فرق بين الدكتور شميل وبين الكثير من أهل بلادنا الذين يرون رأيه في
الدين وأكثرهم من النصارى المتعلمين (أي من النصارى جنسيةً لا اعتقادًا) إلا أنه
هو يصرح برأيه؛ لأن ظاهره وباطنه سواء لا نفاق عنده ولا جبن ولا مصانعة
والذين يجلون علمه واختباره لم يسعوا إلى جعله عضوًا في مجلس الأعيان للمدافعة
عن مذهب دارون، فإنهم يعلمون أن مجلس الأعيان لا يعرض عليه هذا المذهب
ليبدي رأيه فيه، وإنما أحبوا أن يكون في ذلك المجلس عضو عربي سوري هو من
أوسع العثمانيين علمًا واختبارًا، وأشدهم حرية واستقلالاً، وحرصًا على عمران
البلاد، وارتقاء أهلها في العلوم والآداب.
أما قول الكاتب الغيور: إن الأطباء يلزم أن يكونوا أكثر الناس اعتقادًا بتوحيد
الخالق، فهو صحيح، وهو يعني أنهم جديرون بأن يكونوا أشد اعتقادًا وأقوى
توحيدًا، وما أرى إلا أن المؤمنين منهم بالله تعالى موحدون، لا شرك في إيمانهم
ولا وثنية كما في إيمان أكثر الناس {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦) وليس للكاتب أن يعجب من حرمان بعضهم من الإيمان، وهو قد
صرح بأن الكون موجب للحيرة أو هو بعجائبه محل الحيرة. والكلمة التي عزاها
في هذا المقام لبعض شيوخ الصوفية يعزونها إلى الصديق الأكبر، وهل يظن أن
أحدًا من علماء الكون- الطب وغيره - الكافرين موقن في كفره؟ كلا.. إن هم إلا
حائرون. ولكن الحائرين فريقان: فريق نشأ على دين وتربى عليه فظل لابسًا له،
وفريق نشأ وتربى في مهد الحرية والاستقلال كالإفرنج ومن تلا تلوهم، فهم في
حيرتهم هذه لا يلبسون لباس الدين.
أما سبب فشو الكفر في هؤلاء الناس؛ فهو أنهم يتعلمون العلوم الكونية بأحسن
الأساليب وأقرب الطرق إلى الأذهان، ولا يتعلمون معها دينًا يتفق معها، ويرون
فيما عليه أهل الأديان كلها أباطيل ينقضها العلم نقضًا ويهدمها هدمًا , ولا يوجد الآن
في الأرض دين يتفق مع العلم إلا دين الإسلام الذي هو دين القرآن، لا دين
جماهير المسلمين الذين يلتمسون الخيرات والحسنات، ويدفعون الشرور والسيئات
بالاستغاثة بالألوف من الأموات، والطواف بقبورهم والتمسح بما ينسب إليهم من
قبر حجري أو خشبي، وقفص من نحاس أو حديد، وباب من الخشب، وعمود من
الرخام، وشجرة من الأشجار، وحجر من الأحجار، وبئر من الآبار، وجلد من
النعال، وخرقة من القماش؛ الذين يضيق دينهم عن قلنسوة أو كمة تلبس للوقاية
من الشمس، فما بالك بما لا يحصى من مكتشفات العلم ونتائج العقل.
فهلمَّ أيها الكاتب الغيور، نتعاون على جهاد البدع والخرافات والتقاليد
والعادات التي ألصقت بهذا الدين فجعلته كغيره أو أشوه من غيره في نظر
العالمين، ونجاهد أنصار هذه الضلالات من أرباب العمائم، الذين هم أضر على
الدين من مذهب دارون، لعله يتيسر لنا إنقاذ الإسلام من هؤلاء الجاهلين وإخراجه
من جحر الضب الذي وضعوه فيه، ونبين لأهل العلوم والعرفان أنه بريء من
هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، واتخذوه هزوًا ولعبًا، وأنه هو الحنيفية
السمحة وهم الماثلون المضيقون، وأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهم عن
الفطرة ناكبون، وأنه موافق لمصالح البشر في كل زمان ومكان وهم لا يوافقون،
فإذا نجحنا في هذا، فأنا الضامن لك على الأطباء والكيماويين، والطبيعيين
والفلكيين، والاجتماعيين والاشتراكيين، والقانونيين والسياسيين، أن يفضلوه على
جميع الأديان، ويرجحوا جعله دين المدنية في هذا الزمان.
أرأيتك هذا الدكتور شميل الذي ترد عليه، إنه يقول في كل ناد وسامر،
وعلى مسمع من المؤمن والكافر: إنه لا يوجد دين اجتماعي إلا دين القرآن، فهو
بهذا القول يدعو إلى نصف الإسلام وهو النصف الدنيوي منه. ولكن يوجد فينا
كثير من أصحاب العمائم ينفر عنه بقسميه الدنيوي والأخروي! !
وأما ما أشار إليه الكاتب الغيور من حث أمثال الدكتور شميل على وضع
المؤلفات في الفنون والعلوم العصرية النافعة للأمة في هذا العصر، فهو أفضل ما
ينبغي الحض عليه والترغيب فيه؛ لتكون لغة البلاد غنية بعلمائها، وسيكون هذا
على قدر عناية الأمة والحكومة بالعلم، والله الموفق وبه المستعان.