للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإيمان يزيد وينقص

جاء في شرح عقيدة السفاريني أن سلف الأمة على القول بأن الإيمان يزيد
وينقص , ونقل بعض الروايات والآيات في ذلك ثم أورد عن شيخ الإسلام تفصيلاً
لوجوه الزيادة ولأصل الخلاف في المسألة , وإننا نورد من ذلك ماعدا الروايات عن
السلف في المسألة , ثم نبين وجه العبرة في ذلك لطلاب علوم الدين قال - والظاهر
أنه من كلام شيخ الإسلام -:
(والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات كقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: ٢) قال شيخ الإسلام: وهذا أمر يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات
ازداد قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانيه من علم الإيمان ما لم يكن حتى كأنه لم يسمع
الآية إلا حينئذ , ويحصل في قلبه من الرغبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن
فيزداد علمه بالله ومحبته لطاعته , وهذا زيادة الإيمان وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: ١٧٣) ، فهذه الزيادة عند تخويفهم بالعدو لم يكن عند آية نزلت
فازدادوا يقينًا وتوكلاً على الله وثباتًا على الجهاد وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانا} (التوبة: ١٢٤) , وهذه الزيادة
ليست مجرد التصديق بأن الله أنزلها بل زادتهم بحسب مقتضاها , فإن كانت أمرًا
بالجهاد أو غيره ازدادوا رغبة فيه , وإن كانت نهيًا عن شيء انتهوا عنه فكرهوه؛
ولهذا قال: { ... وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (التوبة: ١٢٤) والاستبشار غير مجرد
التصديق وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ
فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا} (المدثر:
٣١) وهذه نزلت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وأصحابه فجعل
السكينة موجبة لزيادة الإيمان , والسكينة هي طمأنينة في القلب وقوله تعالى:
{يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: ١١) هداه لقلبه زيادة في إيمانه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد: ١٧) , وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا
بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (الكهف: ١٣) .
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: زيادة الإيمان الذي أمر الله به والذي يكون
من عباده المؤمنين من وجوه:
(أحدها) الإجمال والتفصيل فيما أُمروا به فإنه وإن وجب على جميع الخلق
الإيمان بالله ورسوله , ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملاً؛
فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله , ولا يجب على
كل عبد من الإيمان المفصل بما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره ,
فمن عرف القرآن والسنن ومعانيها لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لم يلزم غيره
ولو آمن الرجل بالله وبالرسول باطنًا وظاهرًا ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين
مات مؤمنًا بما وجب عليه من الإيمان , وليس ما وجب عليه ولا ما وقع منه مثل
إيمان من عرف الشرائع فآمن بها وعمل بها بل إيمان هذا أكمل وجوبًا ووقوعًا ,
فإن ما وجب عليه من الإيمان أكمل وما وقع منه أكمل , وقوله تعالى: {الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } (المائدة: ٣) أي في التشريع بالأمر والنهي؛ لأن كل
واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة , وأنه فعل ذلك بل الناس
متفاضلون في الإيمان أعظم تفاضل! .
(الثاني)
الإجمال والتفصيل في ما وقع منهم فمن طلب علم التفصيل وعمل به فإيمانه
أكمل ممن عرف ما يجب عليه والتزمه وأقر به ولم يعمل بذلك كله , وهذا المقر
المقصر في العمل إن اعترف بذنبه وكان خائفًا من عقوبة ربه على ترك العمل
أكمل إيمانًا ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن
يعاقب بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول مع أنه مقر بنبوته باطنًا
وظاهرًا فكلما عمل القلب بما أخبر به الرسول فصدقه وما أمر به فالتزمه؛ كان
ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك وإن كان معه إقرار عام وإلزام ,
وكذلك من عرف أسماء الله ومعانيها فآمن بها كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك
الأسماء بل آمن بها إيمانًا مجملاً أو عرف بعضها , وكلما ازداد الإنسان معرفة
بأسماء الله تعالى وصفاته وآياته كان إيمانه أكمل.
(الثالث)
أن العلم والتصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت وأبعد عن الشك
والريب , وهذا أمر يشهده كل واحد من نفسه كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد
مثل رؤية الناس الهلال وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض ,
وكذلك سماع الصوت وشم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام. فكذلك
معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة للمعاني التي يؤمن
بها من معاني أسماء الله تعالى وكلامه يتفاضل الناس في معرفتها أعظم من تفاضلهم
في معرفة غيرها.
(الرابع)
أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله
فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به , وإذا كان شخصان
يعلمان أن الله حق والرسول حق والجنة حق والنار حق وهذا علمه أوجب له محبة
الله وخشيته والرغبة في الجنة والهرب من النار والآخر علمه لم يوجب له ذلك؛
فعلم الأول أكمل , فإن قوة المسبب تدل على قوة السبب , وقد نشأت هذه الأمور
عن العلم فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه , والعلم بالمخوف يستلزم الهرب منه , فإذا
لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم , ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(ليس الخبر كالمعاينة) فإن موسى عليه السلام لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل
لم يلقِ الألواح , فلما رآهم قد عبدوه ألقاها , وليس ذلك لشك موسى في خبر الله
لكن المخبَر وإن جزم بصدق المخبِر فقد لا يتصور المخبَر به في نفسه كما يتصوره
إذا عاينه , بل قد يكون قلبه مشغولاً عن تصور المخبر به وإن كان مصدقًا به ,
ومعلوم أنه عند المعاينة يحصل له من تصور المخبر ما لم يكن عند الخبر فهذا
التصديق أكمل من ذلك التصديق.
(الخامس)
أن أعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله وخشية الله تعالى ورجائه ونحو ذلك
هي كلها من الإيمان كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف , وهذه
يتفاضل الناس فيها تفاضلاً ظاهرًا.
(السادس)
الأعمال الظاهرة مع الباطنة هي أيضًا من الإيمان والناس يتفاضلون فيها.
(السابع)
ذكر الإنسان بقلبه ما أُمر به واستحضاره بحيث لا يكون غافلاً عنه أكمل
ممن صدق به وغفل عنه فإن الغفلة تنقصه , وكمال العلم والتصديق والذكر
والاستحضار يكمل العلم واليقين , ولهذا قال عمير بن حبيب رضي الله عنه: (إذا
ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته , وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فتلك نقصانه) .
(الثامن)
قد يكون الإنسان مكذبًا ومنكرًا لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها ولو علم
ذلك لم يكذب ولم ينكر , بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بحق ثم
يسمع الآية والحديث أو يتدبر ذلك أو يفسر له معناه أو يظهر له ذلك بوجه من
الوجوه فيصدق بما كان مكذبًا به ويعرف ما كان منكرًا له , وهذا تصديق جديد
وإيمان جديد ازداد به إيمانه ولم يكن قبل ذلك كافرًا بل جاهلاً وهذا وإن أشبه
المجمل والمفصل لكن صاحب المجمل قد يكون قلبه سليمًا عن تكذيب وتصديق
شيء من التفاصيل وعن معرفة وإنكار شيء من ذلك فيأتيه التفصيل بعد الإجمال
على قلب ساذج , وأما كثير من الناس بل من أهل العلم والعبادة فيقوم بقلوبهم من
التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول وهم لا يعرفون أنها تخالف , فإذا
عرفوا رجعوا , وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول أو
عمل عملاً أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول أو عرف ما قاله وآمن به لم يعدل عنه
هو من هذا الباب , وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب , فمن علم
ما جاء به الرسول وعمل به أكمل ممن أخطأ ذلك , ومن علم الصواب بعد الخطأ
وعمل به فهو أكمل ممن لم يكن كذلك.
إذا علمت هذا فاعلم أن مذهب سلف الأمة وجُل الأئمة أن الإيمان قول وعمل
ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية , قال الإمام ابن عبد البر في التمهيد: أجمع
أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية , قال: والإيمان
عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن
أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانًا قالوا: إنما الإيمان
التصديق والإقرار , ومنهم من زاد المعرفة وذكروا من احتجوا به إلى أن قال:
وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم
مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن
حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلاَّم وداود بن علي والطبري
ومن سلك سبيلهم قالوا: الإيمان قول وعمل؛ قول باللسان وهو الإقرار , واعتقاد
بالقلب وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة , وقالوا: كل ما يطاع الله به
من فريضة ونافلة فهو من الإيمان , والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي قال:
وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم , وإنما
صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا
يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث يريد مستكمل الإيمان , ولم يُرد به نفي
جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق
وشارب الخمر إذا صلوا إلى القبلة , وانتحلوا دعوة المسلمين من قراباتهم المؤمنين
الذين ليسوا بتلك الأحوال، ثم قال: وعلى أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة
وينقص بالمعصية - جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفتيا في الأمصار , وهذا
مذهب الجماعة من أهل الحديث والحمد لله.
ثم رد على المرجئة وعلى الخوارج والمعتزلة بالموارثة , وبحديث عبادة بن
الصامت: (من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة) وقال:
الإيمان مراتب بعضها فوق بعض فليس ناقص الإيمان ككامله قال الله تعالى:
{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: ٢) إلى قوله: {.. حَقًّا..} (الأنفال: ٤)
أي هم المؤمنون حقًّا , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث:
(أكمل المؤمنين إيمانًا..) , ومعلوم أن هذا لا يكون أكمل حتى يكون غيره أنقص ,
وقوله: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله) وقوله: (لا إيمان لمَن لا أمانة له)
يدل على أن بعض الإيمان أوثق وأكمل من بعض , وكذلك ذكر أبو عمر الطلمنكي
إجماع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ونية. قال الإمام شيخ الإسلام ابن
تيمية قدس الله روحه: لما صنف الفخر الرازي مناقب الإمام الشافعي رضي الله
عنه ذكر قوله في الإيمان: إنه قول باللسان وعقد بالجَنَان وعمل بالأركان كقول
الصحابة والتابعين , وقد ذكر الإمام الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين ومن
لقيه. استشكل الرازي قول الإمام الشافعي جدًا لأنه كان انعقد في نفسه شبهة أهل
البدع في الإيمان من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكَرَّامية وسائر المرجئة وهو
أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله , لكن هو لم يذكر إلا ظاهر
شبهتهم , قال شيخ الإسلام: والجواب عما ذكره سهل فإنه يسلم له أن الهيئة
الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر
الأجزاء يعني كبدن الإنسان إذا ذهب من أصبع أو يد أو رجل ونحوه لم يخرج عن
كونه إنسانًا بالاتفاق , وإنما يقال له: إنسان ناقص , والشافعي مع الصحابة
والتابعين وسائر السلف يقولون: إن الذنب يقدح في كمال الإيمان , ولهذا نفى
الشارع الإيمان عن هؤلاء يعني عن الزاني والسارق وشارب الخمر ونحوهم ,
فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعًا مع الذنوب لكن يقولون: بقي
بعضه إما أصله وإما أكثره وإما غير ذلك فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى
بعضه ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة
لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضًا متعددًا عند من يقول بذلك وهم
الخوارج والمعتزلة , وأما الجهمية فهو واحد عندهم لا يقبل التعدد فيثبتون واحدًا لا
حقيقة له كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب عز وجل ووحدانية صفاته عند من
أثبتها منهم.
قال شيخ الإسلام روَّح الله روحه: ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في
هذا اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر أو ما هو إيمان وما
هو كفر , واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين كما ذكر أبو الحسن الأشعري
وغيره , ولأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا في ما هو مخالف للإجماع الحقيقي
إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة , بل وصرح غير واحد بكفر من قال
بقول جهم في الإيمان , ولهذا نظائر متعددة يقول الإنسان قولاً مخالفًا للنص
والإجماع القديم حقيقة , ويكون معتقدًا أنه متمسك بالنص والإجماع , وهذا إذا كان
مبلغ علمه واجتهاده فالله يثيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده ويغفر له ما عجز
عن معرفته من الصواب الباطن. (قال شيخ الإسلام) : وقد قال لي بعضهم مرة:
الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان فقلت له: قولك من حيث هو
كقولك من حيث هو إنسان ومن حيث هو حيوان ومن حيث هو وجود فتثبت لهذه
المسميات وجودًا مطلقًا مجردًا عن جميع القيود والصفات , وهذا لا حقيقة له في
الخارج وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه كما يقدر موجودًا لا قديمًا ولا حادثًا
ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره , والماهيات من حيث هي هي شيء يقدر في الأذهان لا
في الأعيان , وهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن بل هو مجرد عن كل قيد بل ما
ثَم إيمان في الخارج إلا مع المؤمنين كما ثَم إنسانية في الخارج إلا ما اتصف بها
الإنسان , فكل إنسان له إنسانية تخصه , وكل مؤمن له إيمان يخصه فإنسانية زيد
تشبه إنسانية عمرو وليست هي هي والاشتراك إنما هو في أمر كلي مطلق يكون
في الذهن ولا وجود له في الخارج إلا في ضمن أفراده , فإذا قيل إيمان زيد مثل
إيمان عمرو فإيمان كل واحد يخصه معين وذلك الإيمان يقبل الزيادة والنقصان ,
ومن نفى التفاضل إنما يتصور في نفسه إيمانًا مطلقًا كما يتصور إنسانًا مطلقًا عن
جميع الصفات المعينة له , ثم يظن أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس , وذلك لا
يقبل التفاضل بل لا يقبل في نفسه التعدد إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره ,
ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة في
الشخص والعين حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علمًا وعبادةً إلى أن جعلوا
الوجود كذلك فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود , وتصوروا هذا
في أنفسهم فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم ثم ظنوا أنه الله - تعالى الله عما
يقول الظالمون علوًا كبيرًا - فجعلوا رب العالمين هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط
إلا في نفس متصوره لا يكون في الخارج أبدًا , وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا
أندادًا مجردة وحقائق مجردة ويسمونها المثل الأفلاطونية , وزمانًا مجردًا عن
الحركة والمتحرك , وبعدًا مجردًا عن الأجسام وصفاتها ثم ظنوا وجود ذلك في
الخارج , وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان وتولد من هذا
بدع ومفاسد كثيرة والله المستعان.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد
وينقص , وأنكر ذلك أكثر المتكلمين. قال الإمام النووي: والأظهر المختار أن
التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة ولهذا كان إيمان الصدّيق أقوى
من إيمان غيره بحيث لا تعتريه الشبهة , وقال: ويزيده أن كل واحد يعلم أن ما في
قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلاً منه في
بعضها , وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها , وما نقل
عن السلف يعني أن الإيمان يزيد وينقص صرح به عبد الرزَّاق في مصنفه عن
سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم وهؤلاء
فقهاء الأمصار في عصرهم , وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن
الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة ,
ويروى بسند صحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء
بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ,
وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة
والتابعين وكل من يدور عليه الإجماع من الأئمة , وحكاه فضيل بن عياض ووكيع
عن أهل السنة , وقال الحاكم في مناقب الإمام الشافعي: ثنا أبو العباس الأصم أن
الربيع قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: الإيمان قول وعمل ويزيد
وينقص , وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من الحلية من وجه آخر عن الربيع
وزاد: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وتلا: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا} (المدثر: ٣١) ... الآية) انتهى , وقد روى الإمام أحمد في المسند من حديث معاذ
بن جبل رضي الله عنه مرفوعًا: (الإيمان يزيد وينقص) وأخرجه الديلمي في
مسند الفردوس من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا أيضًا والآثار عن
الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين من أهل السنة والجماعة المعتبرين وأئمة
أهل الحديث وأعلام علماء الصوفية أكثر من أن تُذكر بأن الإيمان قول باللسان
وعقد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة ويضعف بالعصيان , وقد ذكرنا من ذلك
ما لعله يحصل به المقصود، والله ولي الإحسان) .
(المنار)
مَنِ اطلع على مثل هذا البيان في المسألة يعلم أن الحق هو ما كان عليه
السلف , وأن من يتصيد المسائل الدينية من الألفاظ من غير اطلاع على السنة
النبوية التي سار عليها أهل الصدر الأول فهو عرضة للبدع والأهواء , وأن رواج
شبهة المرجئة والجهمية وغيرهم من المبتدعة في هذه المسألة عند بعض أهل السنة
من جهة النظر والفهم قد كان من أسباب هلاك المسلمين بإعراضهم عن هدي الدين.
ذلك أن الاعتقاد بأن الإيمان الذي هو سبب النجاة والسعادة في الآخرة - هو
التصديق القلبي بأن جميع ما جاء به النبي حق دون العمل , وأن المؤمنين فيه
سواء قد جرَّأ الناس على الفسوق والعصيان، ثم حملهم على التحريف المعنوي
للقرآن إذ القرآن يصرح بأن النجاة والسعادة بالإيمان والعمل الصالح معًا كما أن
الهلاك بالكفر والاسترسال في المظالم والمعاصي وآياته في ذلك لا تحصى إلا بجهد
وعناء , وترى أهل هذا المذهب يلتزمون تأويلها حتى صرت ترى الدهماء من
المسلمين يعتقدون بأن العمل ليس له شأن عظيم في النجاة من عذاب الدنيا والآخرة
والتمتع بسعادتهما , وإنما يكفي في ذلك التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه
وسلم ولو إجمالاً , ويحملون أكثر نُذُر القرآن على الكفار ويجعلونها خاصة بهم كأن
سنته تعالى في هذه الأمة مخالفة لسنته في أمم الأنبياء قبلهم , وكأن اليقين والإذعان
يمكن أن يحصل بدون تأثيره الطبيعي في العمل وذلك محال.
وقد نزل بهم من عذاب الله في الدنيا ما حقق نذر كتابه , وصدق وعده فيمن
نقض ميثاقه وهم لا يتوبون ولا يذكرون , وإنما ميثاقه السمع والطاعة بالفعل , وقد
قال فيمن قبلهم: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ... } (المائدة: ١٣) الآية ,
وفسر ابن عباس اللعن فيها بالجزية أي بفقد الاستقلال , ولا يعتبر أكثر المسلمين
بذلك وقد فقدوا استقلالهم وصارت الأمم تأخذ الجزية منهم , والباقون على استقلال
ما عرضة للخطر. ثم إن كثيرًا من كُتابهم يثرثرون في دائهم ودوائهم ويحاولون أن
يكونوا من أطبائهم، وهم يجهلون الداء والدواء لجهلهم بالقرآن الذي هو الشفاء
والرحمة لمَن اعتصم به، فليعتبر بهذا أهل العلم والبصيرة لعلهم يكونون من
الهادين المهتدين.