للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نقض أساس مذهب داروين

هذا المذهب قائم على أساس من النظريات القابلة في نفسها للثبوت وللنقض،
ولم تصل في يوم من الأيام إلى درجة الحقائق القطعية عند الآخذين بها؛ تفضيلاً
لها على كل ما كتب في موضوعها، إلا بعض المقلدين من ملاحدتنا؛ الذين يجعلون
أضعف ما فيها من الاحتمالات في درجة الحسيات أو الضروريات، ويدافعون عنها
في جملتها وتفصيلها.
والحق فيها أنه إذا كان فيها بعض التعليلات المعقولة المقبولة بادي الرأي
فإن فيها تعليلات أخرى لم تتجاوز حيز الوهم، وإذا صح أن نظام الكون قائم بسنن
حكيمة مطَّردة؛ سواء عرفت كلها أو لم تعرف كما أثبته الكتاب الكريم فلن يصح أن
تكون هذه السنن الحكيمة من بنات الضرورة ولا من بنات المصادفة، بل المعقول أن
تكون من تقدير العزيز العليم كما قال الكتاب الحكيم، وإذا صح أن تكون هذه
السنن لا تبديل لها في الطبيعة ولا تحويل كما قال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣) فلن يصح أن يكون الخالق
المقدر لها والمدبر لأمرها مقيَّدًا بها، بحيث لا يستطيع إبداع شيء غيرها، فإن
هذا النفي لا يقدم على القول به عاقل.
وقد حدث في الوجود من الآيات البينات، والمعجزات الخارقة لسنن العادات ما
تواتر خبره وصار من القطعيات، فالتكذيب به أو التأويل البعيد عن قياس المنطق له
ليوافق تلك النظريات المادية - ليس بأولى في نظر العقل السليم من عدِّه منتظمًا في
سلك سنن أخرى مما وراء المادة. ولا يزال العقلاء والحكماء يرون من آيات الله في
أنفسهم ما هو إبداع محض لا يتفق مع سنن المادة في شيء، وآخرهم العلامة الشهير
آينيشتين الألماني قد ناط بهذا الإبداع كل ما امتاز به من تحقيق علمي وفلسفي.
الكلام في فساد مذهب داروين يوجَّه إلى أساسه لا إلى فروعه وجزئياته
كطبقات الأرض وتشابه الأنواع وتعليل الأعضاء الأثرية، وأساسه الفاسد هو أن ما
عُلم من السنن في نظام الكون هو دليل على أن ما لم يُعلم منها مثله في كونه لابد
أن يكون حصوله بالتطور التدريجي. ومقتضاه أنه ما وجد ولن يوجد كائن مبدع
مبتدأ، ولا آية خارقة للعادة، وغايته أنه ليس للكون رب قادر مريد يفعل ما يشاء.
والدلائل الوجودية والأخبار المتواترة القطعية تنقض هذه القاعدة وتبطل اطِّرادها.
كان هذا المذهب هدفًا لسهام النقد في كل عصر، وقد فوق له في هذا العهد
سهم جديد أقصده وكاد أن يقضي عليه، وهو ما نترجم لك خبره في المقال التالي.
***
احتضار مذهب علمي
نشر العلامة ليون دوديه Daudet Leon صاحب صحيفة الاكسيون
فرنسيز Francaise L'action بعدد صحيفته المؤرخ ١١ يونيو سنة ١٩٣٠
ما يأتي تحت هذا العنوان:
من المفيد جدًّا أن يُعمل على إسقاط أحد تلك المذاهب (المادية) التي انتشرت
في القرن الماضي، تلك العقائد التي حملتني على تسميتها (بالسخافة) .
لما أذعت سنة ١٩٢٢ مؤلَّفي المعنون بهذا الاسم (السخافة) قامت ضجة
شعواء عند الجامدين على الاعتقاد بالتطور والتحول الذاتي، وتكوين اللغات،
والنوبات العصبية (الهستريا) والجمهورية (الديمقراطية) وعلى كثير من
ضروب العبث بالقول في علوم الحياة والسياسة. ولا غرو فليس من الهين أن
تنتزع من مخيِّلتك تلك الخزعبلات التي صحبتك ثلاثين أو أربعين سنة. أما
احتجاجات تلك الضجة التي كنت عولت على عدم إعارتها أي اهتمام فلم تؤثر في
نفسي؛ لأني أعلم أن الزمن سينقضي ويظهر أن الحق بجانبي كظهور استعداد
الألمان للحرب الأوربية العظمى.
وقد كنت بناءً على ذلك كتبت منذ ثماني سنوات في الكتاب الذي سميته
(سخائف القرن التاسع عشر) ما يلي:
إن المبدأ الأساسي لمذهب التطور والتحول الذاتي هو أن الطبيعة لا طفرة
فيها ولا خلل، فلا محل فيها إذًا للمعجزات. فإن المعجزة هي الظاهرة الفجائية
غير المنتظرة الخارجة عن القوانين المعروفة.
هذا هو الشرط الأساسي في تخيلات (بالتبيوس هيكل) القصصي في روايته
التي تبتدئ من تكوين الهلام البحري [١] وتنتهي بتكوين الإنسان بتنويع تدريجي
بطيء يحدث داخل الخلايا والأنسجة تحت تأثير مضاعَف لنوع من القوة الرافعة
الداخلة (لم يبرهنوا عليها) وتأثير عوامل خارجة عدُّوها حسب أهوائهم.
ويلاحظ دائمًا أن في الحياة خواص قابلة للتغير وهي نواة التحول الذاتي
وأخرى لا تقبل التغير وهي الثابتة، وهذا ما يدعو إلى الاعتقاد بأننا تحت تأثير أنواع
كثيرة من القوى الكامنة التي تارة تعمل فينا في ظروف خاصة، وطورًا لا تعمل
في ظروف أخرى، ونحن نجهل السبب في كلتا الحالتين.
وأما هذه الذبذبة بين الأصل المولِّد (الخلية) والأنواع المتولدة وكذا الانتقال
من بساطة التكوين إلى أوج النهى فسِرّ يرجع إلى نظام أرقى.
ثم إن سلسلة الأجناس تتجدد حلقاتها بانعدام بعضها كلما زاد الجنس نموًّا،
وإذا سلمنا بصحة هذه النظرية تعين علينا القول بأن عالم الأحياء سائر في طريق
التقدم المستمر، وأن بقاء الأجناس الدنيا إنما هو للدلالة على حصول هذه التقلبات
المتعاقبة المستمرة مع انعدام بعض الأجناس الوسيطة المؤقتة التي هي في الغالب
أعظمها أهمية.
ولما كانت هذه السلسلة ينقصها الحلقة التي تصل القرد بالإنسان بحثوا مدة
ستين عامًا للعثور على الجنس الوسيط، فأكدوا حينًا ما أنهم وجدوه ثم كذبوا هذا
الخبر. على أنهم تنبهوا اليوم إلى أن معضلة أصل الأنواع - وخصوصًا ما يتعلق
منها بالجنس البشري - ما زالت معقدة ومضطرِبة كما كانت قبل داروين
Darwin ولمارك Lamarek وأن مذهب القائلين بالتشابه الخارجي
والتشريحي ليس بجواب عن هذا السؤال يحسن السكوت عليه، فإن مذهب
المشابهات التشريحية والفسيولوجية لا يلقي إلا نورًا ضئيلاً على مسألة تخصص
الحياة وتشخصها.
إن الحياة ما زالت حافظة لقابليتها للانفجار والالتهاب ولما فيها من الخواص
الوراثية لتغير الأعضاء تغيرًا فجائيًّا، إننا نجد منها خواص تنتقل وتقبل التغير
والتبدل، وخواص أخرى لا تنتقل ولا تقبل تعديلاً، فسينتج مما تقدم أننا في آن
واحد خاضعون لتأثير قوى غيبية خفية تفعل فينا فعلها ولا نعرف كنهها، كما أننا من
هذه القوى في بعض أحوال خاصة لا ندريها أيضًا، وأن هذا التغير من الشخصي
إلى النوعي ومن التخصيص إلى التعميم خاضع هو أيضًا إلى نظام أسمى. وهلم
جرًّا.
إن مذهب التحول الذاتي الذي سيطر على علم الكائنات الحية مدة ستين عامًا إنما هو مظهر موضعي بل أحقر المظاهر لحل قضية الحياة، بل هو رد على
السؤال بسؤال آخر.
إني قد أشَّرت بخط تحت الفقرة الخاصة بالقوات الخفية ثم قلت في الكتاب
المذكور في محل آخر ما يأتي:
(إن المذهب المضاد لمذهب التحول الذاتي لم يأتِ بعد بالعالم الذي يستحقه
على أننا في انتظاره بإيمان وثيق) وها هو ذا قد أتى هذا العالم فعلاً فإن المسيو
فيالتون Vialleton نشر في سنة ١٩٢٩ كتاباً بحث فيه عن أصل الأنواع الحية
تحت عنوان (أوهام التحوليين) أورد فيه من الدلائل المقنعة ما يقضي على مذهبي
داروين ولمارك القضاء المبرم.
ولا بد أن يكون عالقاً بأذهان القراء ما كتبنا هنا من التعليق على كتاب المسيو
فيالتون العظيم الشأن، غير أن الصحف العلمية والفلسفية لم تعلق أهمية كبيرة على
نقض هذا الأستاذ العالم. إلا أن جريدة الطان tenps نشرت في عددها الصادر في
٨ يونيه سنة ١٩٣٠ مقالاً في الموضوع بقلم المسيو لويس لافل Lavelle Lauis
جاء فيه ما يأتي:
( ... وردت في كتاب المسيو فيالتون فكرة ثانية يظهر لنا أنها أشد خصوبة،
وهي أن في داخل الأشكال الأساسية غير المنفصلة عن المظاهر الأولية للحياة يمكن
تصور وجود (جراثيم أو براعيم الانتظار) [٢] وهي غير مرئية وتبقى منتظرة
لتفرخ في اللحظة الملائمة، أعني اللحظة التي تكون فيها شروط البيئة قاضية
بخروجها من القوة والاستعداد إلى الفعل، وإذا ضربنا صفحًا عن التوسع في بحث
طبيعة هذه الجراثيم يمكننا اعتبار أنها قوات مستترة لا تفعل فعلها إلا تحت تأثير
الظروف المناسبة ولا يظهر فيها مظهر الحياة إلا إذا أخذت أشكالاً قياسية خاصة.
فنفهم من ذلك الأسباب التي حدت بالمسيو فيالتون لأن يكون من خصماء معتنقي
مذهب التحول الذاتي الذي هو شرح للتطور بأسباب آلية.
فالتطور في نظره هو تطور يدبره مدبر، وهو يتعارض مع مذهب (لمارك)
القائل بأن الكائن يتكيف بالوسط الذي يعيش فيه وأن هذا التكيف يتأصل فيه
بالتدريج حتى يورثه نسله. ويتعارض أيضًا مع مذهب داروين القائل بأن في
الكائن المولود تغيرات عرضية بعضها نافع له وكافل له الفوز في معترك الحياة
وبعضها مؤذٍ وقاضٍ عليه القضاء المبرم) . اهـ.
وهكذا كان إدراك (فهم) القوات الخفية التي أشار إليها المسيو فيالتون يتصل
بإدراك (فهم) القوات الخفية المنوه عنها في (سخافات القرن التاسع عشر) .
غير أن المسيو فيالتون يرى أن الضغط الخارجي هو الذي يساعد على تجلي
هذه القوات في عالم الظهور مع أني في كتابي قد نسبت ذلك إلى عوامل باطنية
عرضية. ومهما يكن الأمر فإن التبدل الذي نحن بصدده إنما هو انقلاب أو تحول
فجائي وليس تطورًا أو تكيفًا.
على أن القوات الخفية موجودة في مظاهر العالم بأجمعها، فإن الراديوم قبل
اكتشافه كان قوة مستترة، والموجات الفضائية كانت كذلك قبل اكتشافها، وكذلك ما
يحصل في الدم من الاستعدادات البطيئة لمرض السل والسرطان التي أشار إليها في
هذه السنوات الأخيرة الطبيبان فانييه وروا Aroy Vanniet هي أيضًا قوات
مستترة لأشكال مرضية.
والآن قد فتح أمامنا عالم جديد للمعرفة واسع المجال إلا أن النور الساطع فيه
مازال ضئيلاً كنور الفجر الذي لا يكفي إلا لتمييز الأشياء بعضها من بعض. اهـ.