للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بهجت البيطار


أنا والأديب الشنقيطي

طالعت مقال الأستاذ الأديب (محمد الأمين الشنقيطي) الذي رد به على
مقالي المنشور في الجزء الخامس من مجلة (الرابطة الغراء) تحت عنوان
(الوهابيون والتوسل) أو (التوسل والأستاذ البيطار) ويلخص هذا الرد بما جاء في
طليعته من قوله: (لم يكن قصدي في هذا المقال إلا إثبات ما أنكره الأستاذ من أن
رجال مذهبه الوهابي لم يكفروا المشركين) .
أقول: أما المشركون فهم بما أشركوا في غنى عن التكفير؛ لأن الشرك كفر
وزيادة، بل هو شر أنواع الكفر على الإطلاق قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: ٤٨) وقال عز وجل: {وَمَن
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: ٣١) وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا
خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ
عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى
يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: ٤-٦) وقال عز من قائل: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ
اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ} (غافر: ١٢)
وقال سبحانه: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا
ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: ٤٥) .
فإن قيل: إن هذه الآيات قد نزلت في المشركين الأولين، أجيب بأن هذا حق؛
ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول علماء الأصول [١] فيتناول
عمومها كل من اتصف بوصفهم، وتلبس بشركهم والعياذ بالله تعالى، ومناط الحكم
فيها هو دعاء غير الله بما لا يدعى به إلا الله، فهي تعم كل من شمله عمومها،
وتناوله حكمها، من المشركين الأولين والآخرين إلى يوم الدين.
أما إذا كان الغلط الواقع في كلام الأخ الأمين مطبعيًّا، وكان أصل المراد أن
رجال المذهب الوهابي يكفرون المسلمين فهذا غلط عليهم، وحاشا لله أن يكفروا
مسلمًا موحدًا، وسيأتي مزيد من بيان لذلك، إن شاء الله.
وأما استدلاله بحديث الأعمى الذي هو أقوى ما في هذا الباب، فقد تقدم في
كلام الأستاذ الدجوي، وأجبنا عنه بأنه على فرض صحته قد دل أوله وآخره على
أنه توسل إلى الله تعالى بصلاته، وبما علَّمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الدعاء، ثم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وهو العمدة في ذلك، وقول
الأستاذ الشنقيطي في تعليل رجحان التوسل بالذات على الدعاء الصادر منه صلى الله
عليه وسلم؛ لأن الضرير جاء طالبًا الدعاء فعدل عن الدعاء وأمره بهذا التوسل -
غير مسلم؛ لأنا نقول إن هذا التوسل نفسه من الدعاء، ولا أدري من أين فهم أن
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع له، مع أن الله تعالى قبل شفاعة النبي فيه
ودعاءه له، فرد عليه بصره، وكان ذلك معجزة للنبي صلوات الله عليه مصدقة
لرسالته، مؤيدة لدعوته، كسائر معجزات الرسل، وكانت خاصة بذلك الأعمى
الذي دعا له، دون عبد الله بن أم مكتوم مثلاً وقد كان مؤذنه صلى الله عليه وسلم
وأشد لصوقًا به من ذلك الأعمى؛ لكنه لم يدع له ولم يسأله هو ذلك بل صبر كما
أمر، بل دون سائر عميان الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم
لم يدع لهم، بل دون سائر العميان في كل زمان ومكان، ولو كان التوسل فيه
بالذات الطاهرة، التي لا تنقص حرمتها بعد الانتقال إلى الدار الآخرة، للزم منه أن
كل أعمى دعا بهذا الدعاء، وتوسل بسيد الأنبياء يرتد بصيرًا، واللازم باطل
فالملزوم مثله كما هو ظاهر، على أن توسل الأعمى واقعة عينية يثبت الحكم في
نظائرها وأشباهها في مناط الحكم، وقد علمت أن الأعمى طلب في أول الحديث
الدعاء فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ما يدعو به لنفسه أيضًا، وأمره أن يقول
في دعائه: (اللهم فشفعه في) فدل ذلك على أن معنى قوله (يا رسول الله إني
أتوجه بك إلى ربي لتقضي حاجتي، اللهم فشفعه في) أي أتوجه بدعائك وشفاعتك
والفرق بين من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وشفع فيه وبين من ليس كذلك
كالفرق بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والأحياء
والأموات، والذين يعلمون والذين لا يعلمون.
ثم إنا نأخذ على الأستاذ الشنقيطي قوله عن كاتب هذه السطور (رجال مذهبه
الوهابي) وكنت أرجو أن ينزه قلمه عن الغمز والنبز باللقب؛ فإن رجال الوهابية
لا مذهب لهم في الفروع إلا اتباع إمام السنة أحمد بن حنبل، ولا في أصول الدين
إلا مذهب السلف الصالح، فهل في هذا أو ذاك ما يعاب؟ وهنا أذكر الأديب
الشنقيطي بقول القائل:
إن كان تابع أحمد متوهبًا ... فأنا المقر بأنني وهابي
وبما يعزى إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه
إن كان رفضًا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
وقد زعم الشنقيطي أن كتب الشيخين ابن تيمية وابن عبد الوهاب طافحتان
بتكفير المتوسلين، وعَجِبَ لي كيف لم أدرسها وأنا بمكة، ثم رجَّح أني جنحت إلى
الإنكار بعد الدرس والاطلاع، وود لو ذهبت في دفاعي إلى سبيل غير الإنكار،
وأفصح عن ذلك بقوله: (فالإنكار مدته قصيرة، وعلماء الإسلام لا يزالون بخير
ينفون عن الدين كل ما أريد أن يلصق به) ثم ضرب لنا مثلاً بقول الشيخ ابن عبد
الوهاب: اعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين (أحدهما) أن
الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء،
وأما في الشدة فيخلصون لله الدين ... إلخ كلامه.
وأقول: قد علمت أيها القارئ الكريم مما تقدم من كلامي وتكرر، ومن قول
الشوكاني الذي استشهد به الدجوي (والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله ولم يدع
غيره دونه، ولا دعا غيره معه) أن الكلام منحصر في التوسل الخلافي المشهور
بين العلماء، المحصور في دعاء الله وحده مع التوسل إليه بصالحي عباده؛ ولكن
الشنقيطي قد أغفل ذلك كله وتغاضى عنه، وجاءنا بتوسل آخر لا يعرفه إلا الغلاة
والجهال، وهو دعاء أهل القبور أنفسهم، والاستنجاد بهم، وطلب الغوث منهم،
لإنقاذ الغرقى وشفاء المرضى، ورد الغائبين، وإغاثة الملهوفين، وإعانة
المستعينين، وهذا لا يسمى توسلاً بهم، بل هو دعاء لهم وطلب منهم، وهو خارج
عن موضوعنا السابق، وليس هو منه في شيء.
والعجب كل العجب كيف تغافل الأستاذ الشنقيطي عن كل ما سبق من كلامي
وكلام الدجوي والشوكاني وابن القيم وابن تيمية على كثرة تقريره وتكريره، وأغفل
ذكره وأتانا بشيء يجري على لسان بعض الجهلة المساكين أو الغلاة المستجدين،
ولا يقول به أحد من علماء المسلمين!! أهذا هو الذي أراد بمثله الأستاذ الشنقيطي أن
يفحمني ويلزمني الحجة، وهو أنه يوجد في كلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب أن
المشركين الأولين إذا وقعوا في شدة كخوف الغرق في البحر دعوا الله مخلصين له
الدين، وأن بعض أهل زمان الثاني إذا وقعوا في مثل ذلك دعوا من ألفوا دعوتهم
من المخلوقين، وهتفوا بأسمائهم مستجيرين مستغيثين؛ لينقذوهم من الضيق أو
ينجوهم من الغرق، أهذه هي الشواهد التي يقول إن كتب الشيخين طافحة بها،
ثم يرميني بإنكارها أو الغفلة عنها، ويقول إنه مستعد لأن يورد لي الكثير منها،
وأنا أقول حسبك هذا الشاهد الواحد وأنشد قول القائل:
قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل
أيها الأستاذ الأمين ألم تقرأ قوله تعالى في وصف أهل الجاهلية: {فَإِذَا رَكِبُوا
فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: ٦٥) وفي معناه آيات أخرى، وقوله سبحانه فيما قص علينا من أمر
فرعون: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى
إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ
المُسْلِمِينَ} (يونس: ٩٠) فيكون أهل الجاهلية وفرعون الذي ادعى الربوبية
والألوهية أولى بدعاء الله وحده عند الشدائد ممن يتبجحون بالإسلام والتوحيد،
وبديهي من عقيدة المسلمين أن جميع المخلوقات لا يملكون لأنفسهم - ولا لغيرهم
بالأولى - في الرخاء ولا في الشدة ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا
نشورًا، فكيف تتفق هذه العقيدة المستندة إلى النصوص القطعية المجمع عليها مع
دعاء غير الله تعالى في الرخاء وفي الشدة أيضًا.
فإن قلت: إن الداعي لم يرد بدعائه إلا الله متوسلاً إليه بمن يدعوه، وإن قلبه
منطو على عقيدة صحيحة لو كشف الغطاء لشهدت صحتها، وهلا شققت عن قلبه؟
فالجواب أن ما في القلب لا يعلمه إلا علام الغيوب، وأن الكلام منحصر في دائرة
الأقوال والأفعال التي تناقض صحة العقيدة القلبية كل المناقضة، والشارع ناط
الأحكام بالظاهر والله يتولى السرائر، ولا يرد حديث (هلا شققت عن قلبه) إلا
على من يدعي معرفة الباطن، وأنه مناقض أو موافق للظاهر؛ وإنما البحث فيما
يبدو للحس من قول أو عمل مصادم للشرع، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم
على أسامة قتل من أتى بكلمة التوحيد ولم ينقضها بقول ولا عمل، فادعى أسامة
رضي الله عنه أنه لم يأت بها عن عقيدة قلبية فأنكر ذلك عليه النبي صلوات الله
عليه وقال: (هلا شققت عن قلبه) وأين هذا من ذاك؟
فإن قلت إنا نحمل قوله على المجاز العقلي فالجواب كما قال بعض المحققين
من وجوه:
(الأول) أن هذه الألفاظ دالة دلالة مطابقة على اعتقاد التأثير من غير الله
تعالى.
(الثاني) لو سلم هذا الحمل لاستحال الارتداد وانسد باب الردة الذي يعقده
الفقهاء في كل مصنف وكتاب من كتب أهل المذاهب الأربعة وغيرها؛ فإن المسلم
الموحد متى صدر منه قول أو فعل موجب للكفر يجب حمله على المجاز، والإسلام
والتوحيد قرينة ذلك المجاز.
(الثالث) أنه يلزم على هذا أن لا يكون المشركون الذين نطق كتاب الله
بشركهم مشركين؛ فإنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق الضار النافع، وأن
الخير والشر بيده؛ ولكن كانوا يعبدون الأصنام وغيرها بالدعاء والنذور لتقربهم إلى
الله زلفى وتشفع لهم عنده، فالاعتقاد المذكور قرينة على أن المراد بالعبادة ليس
معناها الحقيقي، بل المراد هو المعنى المجازي أي كالتكريم مثلاً، فما هو جوابكم
فهو جوابنا.
قال صديقنا العالم السلفي الشهير الشيخ أبو بكر خوقير المكي رحمه الله في
كتابه (فصل المقال) ناعيًا على من يسمي الطلب من غير الله توسلاً: فيا ليت
أولئك القوم يقولون بكراهة الطلب من الميت فيما لا يقدر عليه بدلا ًمن تصريحهم
أن ذلك توسل وقربة، وليتهم ينصحون العامة بترك التغالي في ذلك، وليتهم
يكتبون رسائل في تقبيح ذلك أو ليتهم يسكتون. إلى أن قال: وكأنهم لا يشعرون
إلى الآن بما حل بالأمة من جراء ذلك من الانحطاط في النفوس والعقول والدين
والدنيا.
ثم قال رحمه الله: ولو ترك بعض أولئك الرؤساء العناد وتنازلوا قليلاً عن
الغلو الذي هم فيه لوجدوا أمامهم في كتب الفقه عبارات كثيرة تمنع ذلك:
قال في طوالع الأنوار شرح تنوير الأبصار مع الدر المختار للشيخ محمد عابد
السندي الحنفي: ولا يقول يا صاحب القبر يا فلان اقض حاجتي أو سلها من الله أو
كن لي شفيعًا عند الله. بل يقول: يا من لا يشرك في حكمه أحدًا اقض لي حاجتي
هذه وحيدًا كما خلقتني. وقال في الفتاوى البزازية: من قال: إن أرواح المشايخ
حاضرة تعلم: يكفُر. وقال أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي: لما صعبت التكاليف على
الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت
عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل
تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران، وتقبيلها وتخليقها،
وخطاب الموتى للحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، أو أخذ
تربتها تبركًا، وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على
الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى.
وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه: (سيف الله على من كذب على
أولياء الله) هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون للأولياء
تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم وينادونهم في قضاء الحاجات (إلى أن قال) :
وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي لما فيه
من روائح الشرك المحقق، ومصادرة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد
الأئمة وما أجمعت عليه الأمة اهـ.
فهل بعدما سمعت ما قاله فقهاء المذاهب في حكم الاستغاثة بغير الله في الشدائد،
وما صرحوا به من أن فيه روائح الشرك المحقق ومصادرة الكتاب العزيز، وأنه
مخالف لعقائد الأئمة وما أجمعت عليه الأمة، أقول: هل يروج عليك بعد ذلك كله أن
هذا كلام الوهابية لا كلام أهل السنة والجماعة؟
(فإن قيل) إن هذا الأسلوب منفر لكثير من الناس، وإن الدعوة إلى الله
يجب أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، قلنا هذا حق ونحن إذا كنا متفقين على
أن ما يجري حول القبور مما حاصله دعاء غير الله عز وجل هو خطأ وجهل كان
لا بد لنا من إنكاره والسعي في إزالته واستئصاله.
وقد قرأت لنابغة الشام عن الإمام ابن تيمية قدس الله روحه أنه أفتى بعدم كفر
من أشرك عن جهل إلا إذا تبين له الحق وأصر مستكبرًا، وقرأت للإمام محمد بن
عبد الوهاب رحمه الله تعالى أنه كان يقول لمن يدعو زيد بن الخطاب من دون الله:
الله خير من زيد، وعللوا ذلك بغلبة الجهل على الناس في أزمانهم حتى في
بعض أمور الدين المعلومة منه بالضرورة، فكيف في زماننا الذي تراخى فيه العهد
أكثر، فضعف العلم بآثار الرسالة جدًّا واستولى الجهل على الناس.
بقي علينا قول الأستاذ الشنقيطي: (فالإنكار مدته قصيرة وعلماء الإسلام لا
يزالون بخير) .
فأنا الآن أنادي بأعلى صوتي وأتحداه وأتحدى معه من يحب من العلماء بأن
يأتوني بشاهد واحد من كتب ابن تيمية، أو أحد السلفيين إلى عصرنا هذا يؤيد
دعواهم أنهم يكفرون من يبتهل إلى ربه ويدعوه وحدها متوسلاً إليه بأحد من خلقه،
وأنا أمهله أيامًا بل أشهرًا وأعوامًا إن شاء، فإن لم يأتوني به فليعلم الأخ الأمين أني
لم أنطق إلا بالحق المبين، ولم أقل ما قلت إلا عن سابق علم واختبار، وإني
توخيت بذلك جمع الكلمة وتقريب مسافة الخلف، وإزالة الوحشة والجفاء وإحلال
المودة والرحمة محلهما في هذا الوقت العصيب والله هو الموفق والمعين.
وقد سألني الأستاذ الأديب في هذا المقام عن وقائع العراق وشرق الأردن
والحجاز، وهو سؤال أقرب إلى السياسة منه إلى الدين، على أني أوجز ما أعلمه،
وأدع ما ليس لي به علم.
إن وقعة الطائف كانت فلتة، وسمعت جلالة الملك الإمام عبد العزيز يردد قول
الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد) [*] وقد أمر -
أيده الله - بتأليف لجنة بمكة للتعويض على المنكوبين، وأخرى في الطائف وكنت
أحد أفرادها.
وأما إنشاء حصون العراق وحواجزه فهو من جنس ما نشكو منه في بلادنا
ونحاول إزالته؛ لأنه مقطع لروابطنا ممزق لشملنا.
وأما كلامه في شرق الأردن فلو تتبع الوقائع لعرف أن ليس له حجة يحتج بها،
وأما البادية فلا راحة لها ولا لغيرها إلا بدخولها في الدين والطاعة، وقد تم ذلك
ولله الحمد.
دمشق ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجت البيطار
***
ثلاث كلمات للمنار تتعلق بالموضوع
إنني أقفي على هذه الرسالة بثلاث كلمات (إحداها) أنني أرى جميع الذين
يجادلون في هذا العصر فيما اتبع فيه بعض المسلمون سنن من قبلهم شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع مصداقًا لحديث الرسول الصحيح صلى الله عليه وسلم، ومنه الشرك
الصريح والشرك الذي يحتمل التأويل - يغفلون عن مسألة مهمة جدًّا وهي الفرق
بين تكفير الشخص المعين، وتكفير من يقول كذا أو يفعل كذا من أقوال الشرك
والكفر وأفعال أهلهما، فالشخص المعين يراعى في حقه درء حد الكفر وتنفيذ
أحكامه عليه بالشبهات والتأول، ويقال فيمن لا يراعي ذلك إنه جريء على تكفير
المسلمين، وأما الذي يبين أحكام الردة للناس فلا يعترض عليه إذا فعل كثير من
الناس ما يكونون به مرتدين بحسب تلك الأحكام، ولا يقال إنه يكفر المسلمين. وبهذا
يظهر لك غلط الذين يزعمون أن مذهب الوهابية مبني على تكفير المسلمين ورميهم
بالشرك، بل لم يتورع بعض سدنة هياكل القبور المعبودة وأكلة نذورها الوثنية
وأوقافها الباطلة من وصف شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية بذلك، والواقع أن
الشيخ محمد عبد الوهاب وعلماء نجد من ذريته وغيرهم قد صرحوا بأنهم لا
يكفرون أحدًا من المسلمين بشيء مما سماه فقهاء المذاهب الأربعة كفرًا وردة إلا إذا
كان مجمعًا عليه، وكان ابن تيمية من أشد علماء عصره وغير عصره احتياطًا
وتدقيقًا في مسألة التكفير حتى نُقل عنه أنه يرى عوام عصره معذورين بجهل بعض
المسائل التي أجمع الفقهاء على التكفير بها لدخولها في جحود ما هو معلوم من الدين
بالضرورة؛ فإنه رأى أن بعض ما كان معلومًا بالضرورة في القرون الأولى لم يعد
معلومًا كذلك في عصره؛ لأن دعوة الإسلام على حقها لم تبلغ كل أهل ذلك العصر؛
وإنما كان مما امتاز به ابن تيمية أنه نبه المسلمين لما فشا في جهلتهم من الشرك
بالله تعالى بدعاء الصالحين والمعتقدين تعبدًا فيما لا يُطلب من غير الله تعالى، وقد
اعترف له بعض علماء عصره بذلك كالشيخ كمال الدين الزملكاني وقالوا إنه نبهنا
لشيء كنا غافلين عنه بسبب ألفته وكثرته، ونرى من أنكر عليه بعض المسائل
الاجتهادية منهم كالتقي السبكي لم ينكر عليه شيئا من ذلك.
(الكلمة الثانية) أن من أعظم الأسباب لترك كثير من المسلمين لإقامة دينهم
والعمل به كما كان سلفهم هو جعل الإسلام رابطة جنسية لا يشترط فيها أو لا
يراعى فيها علم ولا عمل، ولا يؤاخذ فيها أحد على ترك شعيرة ولا فريضة، ولا
على ارتكاب كبيرة، حتى الردة، فهي على كثرة وقوعها تمضي السنون، بل
القرون ولا ينفذ الحكام شيئًا من أحكامها على أحد إلا نادرًا، ولا سيما حكام الدولة
العثمانية والمصرية، فالحدود الشرعية كلها معطلة.
فكان مما امتاز به الإصلاح الديني في نجد إحياء الإسلام بالعلم والعمل والحكم.
ألفى الوهابيون أهل جزيرة العرب ولا سيما البدو قد فشا فيهم الشرك واستحلال
دماء الناس وأموالهم وترك الفرائض فنفذوا فيهم أحكام الشرع بالعلم والعمل
والعقوبات من حدود وتعزيرات، فكان هذا هو السبب لما أذاعته عنهم الحكومة
العثمانية وأنصارها بالتبع لها من تكفير المسلمين.
نعم إننا لا ننكر أن أهل نجد يسيئون الظن بأهل البلاد التي لا تنفذ فيها أحكام
الشرع، ولا يبالي أحد بتلقينهم عقائد الإسلام الصحيحة وأحكامه على مذاهب أهل
السنة ولا غيرهم، وإن منهم من لا يثق بدينهم فيطلقون عليهم لقب المشركين لما
يرونه من أعمال الشرك بغير نكير، وفي هذا الإطلاق شيء من الغلو المنكر كما
بيناه مرارًا في المنار.
ولكننا لم نر حكومتهم في الحجاز وعلى رأسها القضاة من علمائهم نفذت أحكام
الردة على شخص بعينه لما بيناه من الفرق بين أحكام الردة العامة والإطلاق في
الإنكار، وبين تكفير الشخص المعين الذي يراعى فيه درء الحدود بالشبهات.
(الكلمة الثالثة) استطراد الأستاذ الشنقيطي في الرد على الأستاذ الدمشقي إلى
ما فعل الوهابية من القسوة في غزو الطائف وشرق الأردن، فنقول فيها إنها من
الأمور العملية التي لا يورد ما ثبت فيها من منكر إلا على من يبرئ الوهابية من
كل فعل منكر، ولا يكاد يسلم القتال من المنكرات الشرعية والقانونية عند أهلهما،
ولكن ما بال الأستاذ الشنقيطي لا ينكر على من يخدمهم ويدافع عنهم من أولاد الملك
حسين إعطاءهم بلاد شرق الأردن وأعظم بقعة حربية من أرض الحجاز للدولة
الإنكليزية صارت بتمكنها فيها أعظم خطر على الحرمين، وعلى سائر جزيرة
العرب.