للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


البيوت
منكراتها وعاداتها
تهتك النساء
تبتدع نساء المسلمين في مصر كل يوم زيًّا جديدًا من أزياء الخلاعة والتهتك،
فلم يكتفين عند الخروج بإظهار بعض الرأس ومعظم الوجه وصفحتي العنق والنحر
حتى جعلن في هذه الأيام أكمامهن قصيرة واسعة فهن يمشين في الأسواق،
وسواعدهن بارزة من وراء معاصمهن المطوقة بالأَسْوِرة، فلم يبق من الزينة شيء إلا
وقد أبدينه حتى وقعن في مخالفة نص القرآن الذي لا خلاف فيه وهن مع هذا كله
معدودات من أهل الحجاب. فأين أهل الغيرة؟ أين أهل الصيانة؟ أين الذين ملؤوا
أرض مصر صراخًا وعويلاً أن قال قاسم بك أمين ينبغي أن نربي المرأة ونعلّمها ثم
نأذن لها بعد ذلك بأن تميط هذا المنديل عن أنفها لتستنشق الهواء النقي، ثم لتستر مع
ذلك رأسها ونحرها وصفحتي عنقها وسائر بدنها؟ أليس ما قاله أهون بشرطه وبغير
شرط مما عليه نساء أولئك الصائحين النائحين الذين ينكرون الكلام. ولا ينكرون
الموبقات العملية التي يشاهدونها في كل آن؟ !
الخدم في البيوت
يعلم كل مقيم في مصر أن الناس يبيحون للخدم من الرجال الخلوة بالنساء في
جميع الحالات، فالخادم يساعد سيدته في المطبخ حاسرة عن رأسها وذراعيها، كاشفة
عن صدرها وساقيها، ومنهن من تلبس في حال غسل الثياب الأخلاق الممزقة فيبدو
منها ما لم يكن يبدو. ويصعد معها إلى السطح يساعدها على نشر الثياب وهي في
مثل ما ذكرنا من ثياب البذلة، ويدخل معها في بيت الدواجن لإطعامها، وربما أغلق
الباب عليهما لئلا يطير الحمام أو يفر الأرنب. ورب البيت يعرف كل هذا ولا
يبالي به ولا يتأثم منه، وإن كان في خادمه من الشباب والفتاء ما ليس فيه! وليس
هذا المنكر مما تدعو إليه ضرورة المعيشة بل لا حاجة إليه ولو كان محتاجًا إليه
لكانت الموانع التي تمنع منه أولى بالترجيح من الحاجة التي تدعو إليه؛ لأن درء
المفاسد مقدم على جلب المصالح في نظر الشرع والعقل معًا.
وإننا لنعجب من أمر هؤلاء الرجال الذين نبذوا الشرع آدابه وأحكامه، وحرموا
ثمرة العقل من البصيرة والاحتياط كيف أفسدت عليهم عادات البلد السوأى وجدان
الغيرة، فسمحوا لهؤلاء الخدم - الذين هم أضل سبيلاً من الأنعام بخبث طينتهم وسوء
تربيتهم - أن يمازجوا نساءهم في الخلوات والجلوات، والدين لم يسمح بهذا لأطفالهم
في جميع الحالات. إذ أمر تعالى بأن يستأذنوا في بعض الأوقات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ
صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ
لَّكُمْ} (النور: ٥٨) ؛ فإذا كان الله لا يسمح لأولادكم أن يروا النساء في الأوقات
التي هي مظنة التساهل في الستر لئلا ينقش في ذهن الولد من رؤية العورات ما
يشتغل به خياله. وتسوء في الآداب حاله، فكيف تسمحون لهؤلاء الرجال الأشرار
بما لا يسمح به الشرع للأطفال الصغار؟ !
الفقيون في البيوت
يطلق أهل هذه البلاد على حافظ ألفاظ القرآن لفظ (فَقِي) ويجمعونه على
(فُقَهَا) ، وإن كانوا في الغالب لا يكادون يفقهون حديثًا، وما ذكرناه في العنوان من
الجمع هو أولى من جهتي اللفظ والمعنى معًا. ومن العادات الضارة في هذه البلاد
- وإن صبغت بصبغة الدين - أن أكثر البيوت يعين لها فقيون يجيئونها في ساعة
من ليل أو نهار فيقرءون شيئًا من القرآن، حيث يكون النساء وينصرفون. وإنهم
ليخلون بالنساء كثيرًا والخلوة محرمة بإجماع المسلمين سواء كان الرجل والمرأة
بصيرين أو أعميين أو أحدهما أعمى فقط. وقد سمعنا من أهل النقد والبصيرة
حكايات كثيرة في مفاسد هذه الخلوات بل حدثنا غير واحد من أهل النقد بأن من
هؤلاء الفقيين من يتوسل بكلام رب العالمين إلى الصلة بين المعشوقات والعاشقين،
فكأن هؤلاء العميان يكافئون صنف المبصرين الذين يقودونهم بعمل من جنس
عملهم، فكل صنف يساعد الآخر على ما لا وصول إليه بدونه، ويقوده في
المسالك التي يحتاج فيها إلى قيادته.
وليت شعري ماذا يريد الذي يعين فقيًا أعمى يقرأ لامرأته في بيته ما لا تفهمه
ولا تعقله؟ أيريد تقوية دينها بقراءة ذلك المأجور؟ كيف وهو لم يلقنها عقيدة
المسلمين، ولم يرضها بشيء من أخلاق الدين، ولم يعلمها الصلاة بالقول، ولم
يمرنها على أدائها بالعمل، ولم يذكرها يومًا من الأيام بالدار الآخرة، ولم يحدثها
في ليلة من الليالي بالحساب والعقاب، فأي فائدة لها في سماع نغمات ذلك الرجل
المأجور الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً؟ نعم، إن هؤلاء الفقيين لا كسب
لهم، وإن أكثرهم مستحق للصدقة فمن تصدق عليهم فلا يجعل صدقته أجرًا لهم عن
التغني بكتاب الله في بيته والوقوف على عورات أهله، وإن أمن فتنتهم فكيف به إذا
لم يأمنها.
فإن قيل: إن المسلمين يحسنون الظن بحَمَلَة القرآن، وأنت تحملهم على إساءة
الظن بهم - أقول: روى أحمد وأبو داود والترمذي (وصححه) والنسائي وابن
حبان من حديث أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة
فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (احتجبا منه) فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا
يعرفنا؟ ! فقال: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ !) وقد علل المحققون النهي
بأن الأعمى قليل العناية بالستر. فإذا كان هذا قول النبي لأزواجه اللواتي أذهب الله
عنهن الرجس وطهرهن تطهيرًا في شأن ابن أم مكتوم الذي عاتب الله النبي في
الإعراض عنه لدعوة سادات قريش وقال في شأنه: {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى *
وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس: ٨-١٠) فماذا تقولون أنتم في عميان
مصر، دار الفسق في هذا الزمن الذي فشا فيه الفجور وفار التنور؟ فاتقوا الله أيها
المسلمون. وطهروا بيوتكم واستعينوا بذلك على تربية أولادكم، وإلا هلكتم وأهلكتم
بلادكم.
وأقبح من خلوة الفقيين بالنساء في البيوت، خلوتهم بهن في (أحواش) القبور،
فإن هذه الخلوة أتم من تلك؛ لأن البيوت لا تخلو في الغالب من الأولاد والخدم،
فالخلوة الصحيحة فيها متعسّرة على أن في الجلوة من المفاسد ما فيها.
وإن الشافع لجميع ما يكون في المقابر من البدع والمنكرات استحباب زيارة
القبور أو الإذن فيها لأجل الاعتبار بالموت. فيستباح لأجل هذا الاستحباب من
المحرمات ما يستباح، ويعد كله قربة إلى الله تعالى وإن كان كله فسادًا لا شيء من
العبرة والعظة فيه. هذا وإن الأحاديث الصحيحة تدل على أن الإذن بزيارة القبور
بعد النهي عنه خاص بالرجال، ولقد لعن صلى الله عليه وسلم زائرات القبور. هذا
ما ننصح به لإخواننا المسلمين، وإن سمّاه ذلك (الكاتب الأديب) شتمًا للمصريين،
فإن النهي عن المنكر فريضة؛ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:
٥٥) .
طلب الزواج بلسان الصحف
رأينا في بعض المجلات والجرائد عادة جديدة قلد المصريون فيها الأوروبيين
وهي طلب الزواج بلسان الصحف، يكتب الفتى شيئًا في ترجمة نفسه ومورد معاشه
ثم يذكر الصفات والنعوت والحالات التي يحبها فيمن يريد التزوج بها، ثم رأينا
أكثرهم بطلب أن ترسل إليه صورتها الشمسية (الفوتُغرافية) وطلب بعضهم أن يأذن
له أبواها أو غيرهما من أوليائها برؤيتها في حضرتهم، وهذا طلب شرعي، ولا
بأس به إذا كان أهل الفتاة راضين مِن أخلاق مَن يخطب إليهم وواثقين بأنه يمنعه
أدبه أن يذكر ذلك إذا لم يتم الاتفاق على الزواج. وأما طلاب الصور فلا شك أنهم
من النابتة المتفرنجة الذين لا يخطر في بالهم أدب الدين ولا أحكامه، ولو تفكروا في
ذلك لعلموا أن تصوير الفتيات يتوقف على بروزهن للمصوّر سافرات حاسرات كما
هي العادة. ولا يتوهم أن أحدًا يطلب صورة امرأة ملفوفة في ملاءتها متبرقعة لا
يظهر منها إلا الحدق! سبحان مقلب القلوب والأبصار قد صار شبان المسلمين
يشترطون فيمن يريدون التزوج بها أن تكون ممن تبرز أمام المصورين، وكانوا
يغارون على النساء من الأهل والأقربين!