للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


سؤال
عن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

(س١) من أحد القراء في سنغافورة نشرناه بنصه وغلطه:
ما قول علماء الإسلام أدام الله بهم النفع للخاص والعام فيما يتعاطاه أهالي
بعض الجهات، وذلك أن أحدهم يأخذ من أحد الشِّيَنَةِ - وهم مشركون - بِنته
الصغيرة بثمنٍ، فيربيها، ثم يتسرَّاها، أو يبيعها إلى آخر مثلاً، ويستولدها، فهل
يجوز ذلك؟ ، والحال أن حكومة تلك الجهة كافرة تمنع ذلك، وتعاقب عليه بفرض
ثبوته لديها لمنعها بيع الرقيق والفاعل لذلك إنما يفعله بخفية وبصورة استخدام،
ومتى خرجت تلك البنت من عنده وامتنعت منه لا يقدر هو ولا غيره على ردها
بحال أو لا يجوز ذلك أو يكون مجرد شراها من والدها أو والدتها استيلاء تُملَكُ به
فيجوز تَسَرِّيها وبيعها؟ وإن كان الحال ما ذُكر وإذا قلتم بالملك فهل يختص بها
المشتري أو يسلك بها مسلك الفَيءِ؟ ، أفيدوا فإن المسألة واقعة ولا يخفى ما يترتب
عليها من هتك الأَبضاعِ وضياع الأنساب وقد استشكل ذلك بعض طلبة العلم وفهم
بدِيهةً أن مجرد الشراء - والحال ما ذكر - لا يملك به لأن المِلْكَ هو الاستيلاء لا
الشراء كما نُصَّ عليه ومَن لا يقدِرُ على قهرِهِ ليس مستولى عليه، فالمسئول مِن
أهل العلم توضيح هذه المسألة بما فيها من خلافٍ وأقوالٍ بما يطلع الكاتب مذهبِيًّا
كان أو غيره وفي أنه هل يختص بها المشتري فلا يجبُ عليه تَخمِيسُها أو لا يجب؟
فلعل شيئًا من الأقوال يحمل مَن وقع في شيء من ذلك، أفيدونا وأوضحوا وبيِّنوا؛
فإن المسألة وقع فيها كثير من الناس وحرجت منها الصدور وماذا يكون الحكم في
الأولاد من هذا الوطءِ لو قيل بفساد وجه التملك، لا عدمكم المسلمون.
(ج) ليعلم المسلمون في سنغافورة وفي سائر بلاد الإسلام أن الله تعالى خلق
البشر أحرارًا وأن الحرية حقٌّ لكل فردٍ ولكل جماعةٍ أو شعبٍ منهم بفطرة الله
وشرعه، كما كتب الفاروق رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص لما بلغه أن ابنه
ضرب غلامًا قبطيًّا: (يا عمرو، منذ كم تَعَبَّدتُمُ الناس، وقد ولدتهم أمهاتُهم
أحرارًا؟ !) ، وإن الرق كان عادة اجتماعية عمت بها البلوى، حتى كانت
تكون في بعض الأحيان من الضروريات التي تختل بدونها بعض المصالح
العامة، وكان العُرفُ بين الأمم والدول أن الدولة الظافرة في الحرب تملك
الرقاب، كما تملك الأعيان مما تستولي عليه.
فلما جاء الإصلاح الإسلامي فتح أبوابًا كثيرةً لتحرير الرقيق ولم يحرم
الاسترقاق من أول الأمر تحريما قطعِيًّا؛ لئلا يكون المسلمون وحدهم عرضة
للاسترقاق إذا غُلِبُوا في الحرب وهذه علة صحيحة كنا غافلين عنها، فهذا أمر لا
يمكن إبطاله إلا بتواطؤ بين الأمم، ولا سِيَّما الحربية منها، كما جرى أهل هذا
العصر ووافقتهم عليه الدولة العثمانية؛ لأنه من مقاصد الشرع لا من محظوراته،
ولأن البشر يشق عليهم إبطال العادات الراسخة دفعةً واحدةً ولا سِيَّما إذا كانت
مصالحهم مشتبكةً بها ولأن بعض الرِّق كان يكون لمصلحة الأرِقَّاء في بعض
الأحوال كأَنْ يُقْتَلَ رجال قبيلةٍ ويبقى النساء والأطفال لا ملجأَ لهم ولا عائلَ، وقلما
يقع مثل هذا في زماننا؛ لأن شئون العمران فيه قد تبدلت، والذي عليه فقهاء
المذاهب المعروفة كلها أن الاسترقاق للسَّبْيِ والأسرى جائزٌ لا واجبٌ ولا مندوبٌ
لذاته؛ لأنه ضرورة كالحرب نفسها وأنه مفوضٌ إلى الإمام الأعظم يعمل فيه وفيما
يقابله بما يرى فيه المصلحة بمشاورة أهل الحَلِّ والعَقْدِ ويشترط فيه أن يكون في
حربٍ شرعِيَّةٍ مبنِيَّةٍ على تبليغ دعوة الإسلام وحمايتها وحفظ بلاد المسلمين
بالشروط المعروفة في كتب الفقه، ويقابله المَنُّ على مَن ذكر أي إطلاقهم بدون
مقابلٍ أو فداءُ أسرى المسلمين عند قومهم بهم، وهذا مقدمٌ على غيره عند التعارض
بالضرورة على خلافٍ فيه وفي قتل الأسرى. وقد خيَّر الله رسوله - صلى الله
عليه وسلم - في هذين الأمرين الأخيرين بسورة القتال ولم يذكر الاسترقاق، فقال:
{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: ٤) .
وقد فصَّلْنا هذه المسائل في مواضع من مجلدات المنار السابقة كالرد على
خطبة لورد كرومر الشهيرة وغيره.
فعلم من هذا أن ما يجري عليه الناس من اغتصاب بعض أولاد الزنوج أو
الشِّينة (الصينيين) أو الجركس أو شرائهم من آبائهم وأوليائهم - لا يعد
استرقاقًا شرعيًّا؛ فلا تملك به الأعيان ولا الأبضاع وإن التسري بالمغصوبة أو
المشتراة مِن والدها أو غيره - حرامٌ، وأهونُ ما يقال في فاعله جاهلًا حكمَ
الشرع فيه أن وَطأَهُ وَطءُ شُبهةٍ وولَده منها ولَدُ شبهة، وإلا فهو زنا ظاهرٌ، لا
يستحله أحدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر.
وما ذُكِرَ في السؤال عن بعض طلبة العلم من أن سبب الملك هو الاستيلاء
دون مجرد الشراء لا محلَّ له في النوازل المسئول عنها؛ فإن شرط كوْن الاستيلاء
الصحيح مملكًا - قابليةُ المَحَلِّ للمِلْكِ، وهو الحَرْبيُّ المُشرِكُ الذي يُسبَى بالحرب
الدينية بعد إباء الإسلام، والجزية، وبعد ترجيح إمام المسلمين لاسترقاقه،
كما تقدم، فههُنا يختلف الفقهاء في حقيقة الاستيلاء المملك، هل يشترط
فيه دار الإسلام أم يحصل بالحيازة في دار الحرب؟ ، وقد صرح الفقهاء بعدم
جواز بيع الكافر لأولاده في دار الحرب ولا في دار الإسلام.
وإنا لنعجب ممن يهتم بأمر الأبضاع والأنساب والحلال والحرام ثم يُصِرُّ على
اتباع شهوته في الاستمتاع بهؤلاء الحرائر من السُّود أو الصفر أو البيض؛
ويسأل عن نوادر الخلاف بين الفقهاء، وشواذ الأقوال لِيَجدَ لنفسه عُذرًا
لبقائه على ضلاله؟ ، ألا فليتوبوا إلى الله تعالى وليتركوا هذه الرذيلة وما
يتبعها من الفواحش والمنكرات، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.