للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد الخامس والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقدر الآجال
والأعمار، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: ٨) ، المحيط علمه بالجهات
والأقطار، النافذة مشيئته في البراري والبحار، البارزة حكمته في القرى والأمصار،
المطَّردة سنته في الأبرار والفجار، الفائضة نعمته على المؤمنين والكفار
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: ٣٤) .
والصلاة والسلام على المصلح الأعظم، والرسول الأعز الأكرم، سيد العرب
والعجم، محمد النبي الأمي معلم الكتاب والحكم، المبعوث رحمة لجميع الأمم،
وعلى آله الأطهار، وأصحابه المصطفين الأخيار، وعلى من اتبع هديهم من
المقربين والأبرار، وإنما الخزي والخسار، واللعنة وعذاب النار، على زمر
الأشرار، الذين آثروا الشهوات الحيوانية، والعصبيات الجنسية والوطنية، على
هذه الهداية الإلهية، المكملة للفطرة الإنسانية، والموحدة لسلائل الأسرة الآدمية،
غرورًا باللذات المادية، وجهلاً بالحياة الروحية {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص:
٢٧ - ٢٨) .
أما بعد فإنَّ المنار قد أوفى بفضل الله ونعمته على الخامسة والعشرين، فإن
كان ما توفاها في عدد المجلدات؛ فقد زاد عليها في عدد السنين، وكان حق هذه السنة
أن تكون السابعة والعشرين، لولا ما كان من إدغام بعض السنين في بعض، بما
كان من لأواء الحرب، وما تلا سنيها الأربع، فكان ألذع وأوجع، ناهيك بما
أعقبته من فساد الأخلاق، وضيق الأرزاق، والإعراض عن العلم والأدب، ورواج
اللهو واللعب، وكساد المجلات والكتب، على ما سبق ذلك من جور السلطان،
وكلب الزمان، وعدم الأعوان، وضعف الوفاء، والتهاون في الاقتضاء على قلة
المال، وكثرة العيال.
هذا وإنَّ الخامسة والعشرين هي السن التي تكمل بها بنية الإنسان، وتتم قوى
الأبدان، ولكن لم يكد يبلغ المنار سن الشباب، إلا وكان منشئه قد شاخ وشاب،
ونحمد الله أن كان وقع الشوائب الذي شيب الرأس، لم يشيب العزم والبأس، ولم
يشُب الهمة بشائبة من اليأس، على أن أسبابه من جهة الناس أكثر، وبما يوسوس
به الخناس أكبر، وإنما الإيمان واليأس ضدان لا يجتمعان، والتجارب والوهن
خصمان لا يتفقان، فقد ثبت المنار على دعوته، التي وضعناها له في أول نشأته،
فكلما وسوس إليَّ شيطان اليأس: ألم تر إلى سوء حال المسلمين، وتسللهم أفرادًا
وجماعاتٍ من هداية الدين، وجمود علمائهم، وخمود زعمائهم، وفساد أمرائهم،
وشح أغنيائهم، وضعف صلحائهم، وغباوة دهمائهم، وموت هممهم، وتفرق
جماعاتهم، وتعدد جنسياتهم، وعدم الرجاء في صلاح أمرهم، وشد أزرهم ,
صاحت به آياتُ القرآن، وما يشهد لها من عبر الزمان، وتكاثر الإخوان، فنكص
على عقبيه، وخنس يضرب أصدريه،
ما اعتنَّ لي يأس يناجي همتي ... إلا تحداه رجاء فاكتمي
وقد تذكرت الآن أن أجعل ذكرى الإصلاح في هذه الفاتحة شيئًا من شعري في
أوائل عهد الرشد، وشعوري عند الاستواء وبلوغ الأشد، وأحمد الله تعالى أنني
شببتُ على حب الإصلاح والتفكر فيه، وشِبْتُ على الدعوة إلى مناهجه ومناحيه،
وذلك قولي في (المقصورة الرشيدية) التي عارضت بها (المقصورة الدريدية) :
كم ليلة أبيتها مفكرًا ... يفي ليَ السهد ويُخلف الكرى
أطوي جناحيَّ على جمر اللظى ... أرضك [١] عينيَّ على الماء الرِّوى
خلتهما ركيَّتين [٢] كلما ... نزحت هذا الماء فاض وطغى
وكل جفن ماتحًا فكلما أهوى بشبه الغمض يملأ الدلا [٣]
تلك ليالٍ خنت عهد الصبر في ... حِندسها وكنت أوفى من وفى
إذ خانني العزم الذي بلوته ... في مبهم الخطب فما قط نبا
لو أنما أبكي لمحبوب جفا ... أو مالٍ اغتيل وذي قربى قضى
وأعوز الصبر فقيل جازع ... أشبه ربات الحجال في البكا
لراعني القول بصدقه وقد يقصد من يصدق إن قيل رمى [٤]
لكنما أبكي لمجد أمة ... ثلت عروشه [٥] وحُلَّت العرى
ووطن ذل فأمسى حوضه ... (مد عثر الأعضاد مهدوم الحبى) [٦]
وملة حكيمة رحيمة ... قد تركت للجهل كالشيء اللقى [٧]
وقال فيها الأخسرون إنها علة هذا الانحطاط والشقا
فكيف كانت علة السعادة الـ ... ـتي مضت لنا وذاك الارتقا
(بها) أصبنا الملك والحكمة والـ ... ـعلم (بها) فما عدا مما بدا [٨]
ألم توحد أممًا تفرقت واختلفت في الاعتقاد واللغى
فكيف عدتم وأنتم أخوة ... لما تركتم هديها من العدى
أما بدت في أمة أمية ... فجعلتهمو ... أئمة الورى
في كل علم للعقول يقتنى ... وعمل في الكائنات يقتفى
فكيف صرتم بترك هديها ... أجهل مَنْ دَبَّ عليها ومشى
ألم يكن أسلافكم بعدلها ... قد فتحوا الأمصار قبل والقرى
وعمروها فغدت بفضلهم ... تفضل في الوجود كل ما عدا [٩]
زراعة صناعة تجارة ... علما وحكمة وعدلاً وعُلى
فلم أضعتم جُلَّ ما تَأثَّلوا ... وأصبح الباقي لكم على شفا
شريعة القرآن دانٍ وِردُها الـ ... ـعذب وتهلِكون من فرط الصدى
فإن أباها الحاكمون عن عمى ... وصد عنها الجامدون عن هوى
فربما أيدها على هدى ... كل صحيح الفكر من أولي النهى
وإنْ يكن قد عقها أبناؤها ... وعاد مَنْ كان صديقًا في العدى
فارجعْ إلى تاريخ خيرِ أمةٍ ... قد أُخرجتْ للناسِ وابعث الأسُى
يريك عصر الراشدين المثل ال ... أعلى لِكُنْهِ العدل زانه الهدى
والمجد والزينة والقوة في الد ... ين جوى قصرُ الرشيد ووعى
وجنة الزهراء [١٠] في أندلس ... حيث الإمام الحكم العدل ثوى
والجمع ما بين علوم النقل والـ ... ـعقل إلى المأمون عهده انتهى
أحيا ببغداد فنونًا درست ... إذْ كان عمران ذويها قد عفا
والجامعُ الأعظم في قرطبةٍ ... جامعة العلوم في ذاك الرجا [١١]
أفاض نور شمسها فى أفق ... طال عليه ليل جهل قد غسا [١٢]
كان يعادي الدين فيه العلم بل ... يسوم أهله العذاب والأذى
فكم عليم صَلِيَ النار وكم ... متهم بالعلم تفريه المدى [١٣]
واذكر على ذكر العلوم تونسًا ... ومصر والشام (وسُرَّ مَنْ رَأَى) [١٤]
وكل قطر ساسه خلائف الْـ ... ـعُرْب بما أوحاه شرع المصطفى
هم الذين عَمرُوا الأرض وبالـ ... عدل مع الرحمة قد ساسوا الورى
فعالَم الشمال منهم قبس النـ ... ور وعنهمُ العلوم قد روى
وسار كلُّ فاتحٍ مُستعمرٍ ... وراءهم فلم يقف دون المدى
ولو أقاموه [١٥] ولم يبتدعوا ... لدام ملكهم وأصلح الدُّنى
ولسرعان ما أمية أبتْ ... إمامةَ الرشد فأنزت من نزا [١٦]
وجعلوها دولة موروثة ... وعرضة لغصب أرباب القوى
فعاث فيها العجم مُذْ تفرقت ... فيها قريش فغدت أيدي سبا [١٧]
وانقطع النظام جامعًا بهم ... فانتثر العقد وشقت العصا
فبعث الله على بلادهم ... من استذل واستباح ولحا [١٨]
الترك والتتار في الشرق وفي ... أندلس أبيد من ثم ثوى [١٩]
وصدق الرسول في إنذارهم ... وإن تمارى فيه قوم وامترى
واعتز بالإسلام بَعْدُ من عثا ... فورث الأرض به إذ اعتزى
وامتد ملك ... آل عثمان به ... ثم تزوى آرزا حيث أتى [٢٠]
ألا ترى أوطانهم تنقص من أطرافها ألا ترى ألا ترى
ما السأُوُ إلا برجاله فإِنْ ... عزوا وإلا ساء حالاً وكصا [٢١]
فكيف حال وطن أبناؤه ... ما فتؤوا أعق من ضب الكدى [٢٢]
قد عضد العاضد منهم دوحه ... وخضد الشوكة والعود التحى [٢٣]
وغادر الأرض به موظوبة ... وغمره الفرات ضحضاحًا جَوَى [٢٤]
وُلِّيَ أمرَهُ إمامٌ جائرٌ ... قد استبد بالأمور واعتدى [٢٥]
إذ استخف قومه فأصبحوا ... أطوعَ من ظل الحذاء يحتذى
يليه في الظلم ولاة أبصروا ... بروقه ترجى لِرَيٍّ وَحَيَا
وسمعوا رعوده تنذر من ... خالف أمره صواعق الردى
فآثروا ما عنده حتى على الأ ... وطان والرحمن جلا وعلا
وجعلوا مال العباد دولة ... فذالت الدولة منهم للعدى
من نال منهم حاجة لكرشه ... وفرشه قال على الدنيا العفا
يريك عزة الأمين فإذا ... لاح له المال استكان وضغا [٢٦]
والوطن الذي امتروا أخلافه ... أوشك أن يقضي وربما قضى [٢٧]
وكيف لا يُسحته الله وهم ... السُّحت أكَّالُون فيه والرُّشا [٢٨]
قد بشمت بطونهم فأصبحوا ... يشكون سوء الهضم منها والطَّسى [٢٩]
ومشبعوها يشتكون سغبًا ... قد أكلوا العلهز من طول الطوى [٣٠]
فأصبحوا في شظف وضعة ... ألانت القنا وأضوت البنى [٣١]
وعالم مبتدع منافق ... لقد أضل قومه وما هدى
لا يأمر الحكام بالعرف ولا ... ينهى عن المنكر فيهم فشا
وليس يوصي الناس بالحق ولا الصبر ... سوى على المكوس والأذى
ومرشد غير رشيد دأبه ... عزو الخرافات لأرباب الولا
والرجم بالغيوب مسندًا إلى ... أضغاث أحلامٍ ومكذوب رؤى
أولئكم سادتنا الذين قد ... أضلوا السبيل كل من قفا
فنسأله تعالى أن ينقذ هذه الأمة من إغواء هؤلاء الرؤساء الضالين، ويعيد
إليها سلطانها بعز الدنيا وهداية الدين، ويجعلنا فيها من الهداة المهتدين، آمين.
... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني الحسني