منذ مدة وأنا أفكر في كتاب يصلح أن يكون هاديًا وبشيرًا للأمم غير الإسلامية بأسلوب مألوف لديهم، وعلى نمط يكون في متناول جمهرتهم، حتى يُنَادى في الأوساط الأوربية والأميركية بالدعوة إلى دين الإسلام بالحجة والبرهان وامتلاء النفس قناعة وطمأنينة، ومع هذا يتيسر لنشئنا المثقف ونابتتنا الزاهية، أن تتصفحه وتطالعه، ويزيل ما يترددها من شبهات، ويزيح ما يعتورها من اعتراضات، فلم أعثر على ذلك الكتاب إلى أن اهتديت إلى كتاب (الوحي المحمدي) للعلامة المحقق السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، ذي الآراء الإسلامية الناضجة، والأبحاث الدينية الموفقة، فوجدت فيه الضالة وتحققت فيه الرغبة. إني قانع كل القناعة أن القرآن كفيل بحاجة مطالعه، قمين بأن يملأ نفس قارئه إيمانًا وحكمة وعلمًا وأدبًا وسياسة وخبرة، ولكن هذا يتوقف على أن يكون القارئ خبيرًا باللغة العربية، ملمًّا بعلومها، متضلعًا من بلاغتها وفصاحتها، ولا ريب أن هذا غير متيسر لكثير من أبناء العربية وعلماء المسلمين، فكيف بغير العرب وغير المسلمين؟ خصوصًا وأن المسلمين أعرضوا عن الاستفادة من هذا الكتاب المقدس الاستفادة اللائقة به، وأصبحوا لا يعتنون إلا بمظاهر ختمه فقط ومراسمه الشكلية. من أجل هذا كانت حاجة المسلمين إلى كتاب يبشر بدينهم - على الوجه الذي بينا - ماسة وشديدة. وليس من شك في أن هذا العمل يتطلب تفكيرًا عميقًا، وخبرة واسعة، ووقتًا غير قصير، حتى يخرج إلى الملأ مستكمل النواقص وافيًا بالحاجة، وإن الأستاذ السيد محمد رشيد هو أجدر من يقوم بهذا العمل، وأحق من يتحمل هذا العبء، وإن مبادرته إلى إخراج هذا المؤلف مسارعة إلى أداء فرض محتم عليه، وقيام بواجب لا مناص منه، لكفاءته النادرة، وشهرته في العالم الإسلامي بشهرة فائقة، والاعتماد على آرائه، والاستفادة من نتائج قريحته، والوثوق من خبرته وسعة اطلاعه. بدأ المؤلف كتابه في البحث بموضوع الوحي، والاستفاضة فيه، ومناقشة القائلين بإثباته من أهل الأديان السماوية، وبحث آراء نفاته من الماديين، وأفاض في نفيها، وإقامة الحجة على إبطالها، ثم قفى على ما ذكر بمقاصد القرآن، في ترقية نوع الإنسان، شارحًا أركان الدين، وأنواع الإصلاح التي يحتاج إليها الإنسان في حياته، وتخلل ذلك بحث مسألة المعجزات، وخوارق العادات التي هي مدار اشتباه الكثير من المثقفين والمتعلمين، وقد صور الدين بصورته الحقيقية، فأطلع القارئ على كثير من قواعد الدين الإصلاحية الاجتماعية والمالية والسياسية، مستندًا في ذلك كله على آي القرآن ونصوص الإسلام، ثم ختم المؤلف كتابه في بحث تحرير الرقاب ومنعه، وأزاح ما يخفى على كثير من المتعلمين من الشبهات في هذا الموضع وغيره. وبالجملة فإن الكتاب بالنسبة لأبحاثه الاجتماعية والمالية والسياسية لا ريب أنه وافٍ بالمقصود من هذه النواحي على شكل يسر كل مسلم، ويحفز كل غيور على دينه أن يُقْبِل على مطالعته وتصفحه. وليس من شبهة في أن المقصود الأول من هذا الكتاب جعله في متناول العلماء غير الإسلاميين، وخصوصًا غير العرب كما ذكر المؤلف نفسه (النتيجة المقصودة بالذات دعوة شعوب المدنية: أوربة، وأمريكة، واليابان، بلسان علمائها إلى الإسلام، لإصلاح فساد البشر المادي وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنساني العام) ولا يتيسر هذا إلا إذا ترجم للغات الأجنبية من قبل متضلعين بتلكم اللغات عارفين بأسرارها، فينبغي - والحالة هذه - على الهيئات الإسلامية أن تقوم بهذا الواجب، ونرجو أن يسارع مكتب المؤتمر الإسلامي العام بالقدس وغيره من الهيئات الإسلامية إلى هذا؛ فإنه عمل منتج، ويُرْجَى أن يكون له أثر خطير في العالم، وإن هذا العصر عصر طغت فيه المادية، واعتز المبشرون فيه بتشكيلاتهم وأموالهم، فعلى الأقل يجب على علماء المسلمين وهيئاتهم أن يقوموا بنشر مبادئهم الدينية الحقة، وإذاعتها في الملأ؛ لتكون سلاحًا يوجه إلى كل من أراد هذا الدين بسوء وقصد تشويه تعاليمه ومبادئه. وإن هذا الكتاب رغمًا عما يؤخذ عليه يفيد مطالعه فائدة جليلة جدًّا، ويعود على قارئيه بنتائج لا يتيسر الوقوف عليها من غيره، ويعطي صورة عظيمة القدر لتعاليم الإسلام خالية من تلك الأغشية التي وضعها عليها بعض العلماء، ويوصل إلى معرفة حقائق إسلامية بشكل ينثلج له الصدر، وعلى وجه تطمئن له النفس، وإني أدعو بني قومي وإخواني إلى المسارعة لمطالعته واقتنائه، والاستفادة من أبحاثه ومحتوياته. وإن ما يؤخذ على الأستاذ المؤلف قد شعر هو به فيما قال: على أنني لم أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض (وضع مصنف في إثبات الوحي المحمدي) وإنما بدأت منه بفصل استطرادي لتفسير آية: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس: ٢) ... إلخ، ثم قال: ولو إنني قصدت هذا منذ بدأت بالكتابة لوضعت له ترتيبًا آخر يغنيني عن بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار، ... إلخ، فأكثر ما يؤخذ عليه يرجع إلى استطراد في البحث يكاد أن يكون مملاًّ وخصوصًا في فصل إقامة الحجة على مثبتي الوحي ونفاته [١] . وقد أبدى معذرته في قوله: ولكني كتبته في أوقات متفرقة، وحالات بؤس وعسرة، لا أراجع عند موضوع منه ما قبله ... إلخ، وبيان المأخذ وذكر المعذرة لا يعني التقليل من أهمية هذا الكتاب وشخصية مؤلفه، بل على العكس يجعلنا نرجوه أن يوالي تصنيفاته في تلكم المواضيع باذلاً الجهد في مجانبة ما لاحظه على نفسه، جزاه الله عن الأمة الإسلامية خير الجزاء، وضاعف له الأجر على مجهوداته التي لا تنكر والله ولي التوفيق. نابلس ... ... ... ... ... ... عبد الحميد السائح ((يتبع بمقال تالٍ))