نقض مطاعن في القرآن الكريم للأستاذ الفاضل الشيخ محمد عرفة وكيل كلية الشريعة بالأزهر والمدرس فيها
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤١-٤٢) ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: ٤٤) . إن من أكبر مصائب الأمة الإسلامية أن يبلغ بها الهوان في أكبر أمصارها وأشهرها بالعلم، وأرجاها للحياة، أن تعلم أفرادًا من نابتتها من العلم ما ترجو أن يكونوا به جندًا لها ينصرها على من يهاجمها من الأعداء في دينها وشرفها وأدبها، فينقلبوا أنصارًا لأعدائها، ويهاجموها في أمنع معاقلها وحصونها، ويحاولوا هدم ما لم تكن لولاه شيئًا مذكورًا، وإنما به كانت أمة عزيزة شديدة القوى، مرجوة الندى، مرهوبة الشذا، ذات هداية عليا، وتشريع عادل، وحضارة زاهية به دانت لها الأمم الكثيرة، وبه نالت الإمامة والملك، ثم يوجد من حكامها ووزرائها من يكرمهم ويأتمنهم على تربية نشئها، وتعليمه بلغتها، ما هو شر من تعليم المجاهرين بعداوتها، الذين يدعونها إلى الخروج عن دينها، ليتم لهم إخضاعها لسلطان أجنبي، بغير منازع وجداني. كان أجرأ هؤلاء العَقَقَة [١] كاتب بدأ تعليمه في الأزهر في الجامعة المصرية في أول العهد بإنشائها، وصحب في هذا العهد من لقح ذهنه بالإلحاد، ثم أرسلته الجامعة إلى فرنسة ليدرس أدب اللغات فيها، فغذت فرنسة ذلك اللقاح بما ظهر أثره في العمل؛ إذ عاد إليها فجُعِلَ من أساتيذها ثم عميدًا لكلية الآداب فيها، وهو أستاذه الأول في أفكاره، والمُرْكِس له في تياره. حذق في صناعة الكتابة، فكان فيها ذا رشاقة خلابة، ألف كتبًا وأنشأ مقالات دس في بعضها سموم الإلحاد، وفي بعض آخر مخدرات الإباحة والإغراء بالشهوات، فنهد للرد عليه فريق من العلماء والأدباء، حتى ضج في الشكوى منه مجلس النواب في عهد رياسة سعد باشا زغلول فأوشك أن ينتقم منه، ورفع أمره إلى القضاء فكاد يقضي عليه، بَيْدَ أن أنصاره الأقوياء من كبار الوزراء آزروه وظاهروه حتى أنقذوه. ثم قدر الله تعالى أن تخرجه وزارة المعارف من الجامعة في العام الماضي في إثر حملة شديدة جديدة في مجلس النواب، أظهرت للأمة من جنايته على طلبة كلية الآداب فيها ما يرى القراء نقضه في هذا الكتاب. سُرَّ جميع أهل الغيرة على الدين بإخراجه من الجامعة، وإنه ليسرهم أن يسمعوا اليوم من الأزهر الشريف صوتًا جهوريًّا في نقض ما أذاعه مجلس النواب من طعن هذا الكاتب على القرآن العظيم، صوت عالم أزهري، وأديب عصري، وكاتب مجيد غير سياسي، ينقض هذه المطاعن الأخيرة، وأن يصدر نقضه لها عن دار المنار، التي أُسِّسَتْ من أول يوم لخدمة الإسلام، فكلانا بريء من سياسة الأحزاب فلا نحن من أحزاب الحكومة ولا من أحزاب المعارضين لها، ولا من خصومهم ولا من خصومها، وإنما ننصر ديننا، ابتغاء مرضاة ربنا، فيما يجب علينا لأمتنا ودولتنا. ونتمنى لو يصرح هذا الطاعن بأن جميع ما صدر عنه من الطعن على القرآن قولاً في الدرس، وكتابة في الطرح، كان باطلاً، وأنه رجع عنه وتاب منه. وأنه يؤمن بأن القرآن كلام الله كله حق {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: ٤٢) فإن ما نقل عنه من أنه قال: إنه يؤمن بالله ورسله لا يكفي في صحة توبته مما ذكر، على أن هذه المطاعن التي ألقاها في دروسه كانت بعد تلك الكلمة التي كان سببها تحقيق النيابة العامة معه في مطاعن كتابه (في الشعر الجاهلي) . اختار الأستاذ صاحب هذا النقض للمطاعن الأخيرة أن يطبعه في مطبعة دار المنار لأنها أحق به، وأجدر بنشره، بل رغب إليَّ أن أشركه في أجره، بالوقوف على تصحيحه، وبما يَعِنُّ لي من تعليق عليه، وبمقدمة تصدير له، فأقرن كلمه الطيب بكلمي، وأعزز قلمه البليغ بقلمي، وإنها لرُغْبَى محبوبة للمؤمن بالطبع، ومظاهرة على الحق واجبة في الشرع، وتعاون على البر والتقوى، أمرنا الكتاب العزيز بها، وهو قد وفَّى النقض للمطاعن الجديدة حقه، وقَفَّى عليه بما كان من رد له على ما قبلها من خطيئاته، فأدى الواجب في جزئيات المطاعن الخاصة، وزاد عليه، وليس عليَّ إلا أن أقول كلمة وجيزة في النازلة وأهلها من الوجهة العامة. النابتة العصرية من الكُتَّاب: نبغ في الربع الثاني من هذا القرن الهجري نابتة من كُتَّاب الأدب والسياسة والتاريخ، اقتفوا أثر الإفرنج في الأساليب، وما يسمونه النقد التحليلي في الكتابة، ومزج الكلام بالنظريات الحديثة والمسائل العلمية، فكان لما يكتبون رواج ووقع حسن عند جميع المتعلمين على المناهج الحديثة، وأصاب بعضهم به شهرة بما تنشره لهم الجرائد التي يؤيدون سياستها، وما تقرظه من مصنفاتهم، ناعتة إياهم بأجمل النعوت، والألقاب المحببة إلى النفوس، وناهيك بدعوى تجديد حضارة الأمة، وقيادتها إلى حيث تساوي أمم الإفرنج في عظمتها، وتمتعها بزينة الدنيا وطيباتها. وإن لبعض هؤلاء الكُتَّاب مصنفات حرة مستقلة، وهم الذين يخدمون العلم والتاريخ والأدب بباعث حب التحقيق، وإن لبعضٍ آخر أهواء سياسية وإلحادية، لمنافع لهم شخصية، على ما بيَّنَّاه في المنار بالتفصيل، أشرنا إليه آنفًا بالإجمال، وهو موضوع كلامنا هذا، وشره وأضره الطعن على القرآن الحكيم. إذا كان يوجد في الأوربيين من يتمحل الطعن على الإسلام، ولا يتنزه عن التسامي إلى انتقاد القرآن، فلهم على ذلك باعثان: باعث ديني وباعث سياسي. وذلك بأنهم رأوا أن الإسلام قد غلب النصرانية على أمرها في الشرق، وكاد يغلبها في الغرب أيضًا، بعد اعتزاز دولها، واستبحار ثروة كنائسها وإحكام نظمها، فلم يجدوا وسيلة لصد تياره عن بلادهم، وسلبه لملكهم وتعريبه لشعوبهم إلا بمحاربته بالافتراء عليه والطعن فيه، وبقتال أهله بالسلاح، ثم بالسياسة، فأحكموا نظام الحربين بعد التمهيد لهما بتربية الشعوب النصرانية على بُغْض المسلمين، وتلقينهم في البيوت والمدارس أن الإسلام هو العدو الأكبر للمسيحية، وما هو إلا أخو المسيحية وصديقها، والمُدَافع عن حقها، والمتمم لإصلاحها، والمبرئ لنبيها عليه الصلاة والسلام من طعن المفترين وشطط الغالين. ويوجد منهم قوم آخرون لا يدينون بدين، وقد رأوا من معجزات القرآن ومن أنزل عليه القرآن في العلم وهداية البشر وإصلاح شئونهم ما يلجئهم إلى الإيمان والإذعان؛ إذ لم يجدوا لهذه المعجزات تأويلًا ينظمونها به في سمط السنن الكونية، فتكلفوا التأويل لها؛ لإبطال كونها من خوارق العادات والآيات الإلهية، فهذه أسباب طعن الإفرنج ومريديهم وتلاميذهم من النصارى والملاحدة. وأما المسلم فلا يعقل أن يبعثه شيء على الطعن في كتاب الله وفي هدي رسوله، صلوات الله وسلامه عليه وآله، وهو برهان الكفر والردة، وكبرى الجنايات القاتلة لهذه الأمة، فإن خفي عليه برهان شيء من عقائده، أو صحة شيء من آياته، وجب عليه أحد أمرين: إما الجد في طلب العلم بالبحث عما جهل والسؤال عنه، وإما تفويض الأمر في ذلك إلى الله تعالى. بيد أن في المسلمين الجغرافيين زنادقة منافقين، وإن منهم ملاحدة شاكِّينَ، وإن من زنادقتهم غاوين مشككين، يستخدمهم شرار أعداء الإسلام الدينيين والسياسيين، وإن منهم من يزدلف إليهم بالتشبه بهم، وبدعوى (التنور) وحرية الفكر والفلسفة، وإن من النابتة والعامة من ينخدع بشبهات هؤلاء وأولئك، وتغره دعايتهم بما يزينها من خلابة القول، ووهم التجديد العصري، والانسلاخ من تقاليد القديم الذي يصفونه بالخلق البالي، وإن كان كالفلك لا تخلق جدته، وكالشمس والقمر لا تبلى محاسنه، ولا ينطفئ نوره، وهو القرآن الحكيم. وإن لهذا التجديد دعاة من ملاحدتنا يوهمون الدهماء في بلاد الإسلام العربية والأعجمية أن الإفرنج ما صاروا أقوى منا وأرقى ثروة وحضارة، وتمتعًا باللذات والشهوات، إلا بالانسلاخ من الدين، فأول ما يجب علينا أن نفعله إذا أردنا أن نكون مثلهم أن نتجرد أولاً من ديننا، فنكون إباحيين عبادًا لشهواتنا، ثم نطلب علومهم وفنونهم فنكون مثلهم، وهذا غش وخداع بالكذب والبهتان، فهم أشد من شعوب الشرق كلها إحكامًا لربطتهم الدينية وعناية بتعليم الدين ونشره، وبذل الملايين في سبيله [٢] . ولكن لهؤلاء الدعاة للإلحاد والإباحة شبهات من فلسفة الإفرنج وأصول النقد عندهم يروجون بخلابتها الطعن على القرآن بما يفترون عليه، فنحن نشير إليها أولا ونُقَفِّي عليها ببطلان بناء نقدهم على قواعدها، فإذا هي وأهلها كمن قال الله تعالى فيهم: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (النحل: ٢٦) قواعد النقد العصري من أصول النقد العلمي الفلسفي للكلام الذي يسمونه النقد التحليلي أن يعرف أولا تاريخ صاحبه في مزاجه وتربيته الدينية والأدبية، وقومه وعشرائه، ووطنه وحكومته، وأخلاقه ومعيشته، وأهله وولده، وعوارض حياته، وأطوارها الاجتماعية والسياسية والشهواتية وغيرها، فمن المعلوم بالطبع والعقل أن كل ما يعرض لإدراك الإنسان ووجدانه يكون له أثر في كلام صاحبه. فلو كان الإنسان مفطورًا على الصدق وألا يقول إلا ما يعتقد، وألا يكتم شيئًا مما يعتقد، وعلى التوفيق بين اعتقاده وما يعارضه من شعوره ووجدانه، من حب وبغض، وخوف وطمع، لكان طريق النقد التحليلي للكلام مُعَبَّدًا مستقيمًا قَلَّمَا يضل سالكه أو يعثر. ولكن الإنسان خلق قادرًا على الصدق والكذب، وعرف من سيرة أفراده أنهم يتبعون أهواءهم ومنافعهم، في كلامهم فيرجحون بها الكذب على الصدق، أو إخفاء الحق على إظهاره، إما لجلب منفعة أو لدفع مضرة، إلا من كان له عقيدة دينية أو حكمة عالية تعصمه من الكذب الصريح ولو بالتأول، وقليل ما هم. ولذلك قال بعض الأذكياء: إنما وظيفة اللسان في الإنسان إخفاء الحقيقة عن الناس، ولا ريب في أن الشعراء وكُتَّاب السياسة المكتسبين بشعرهم هم أبرع الناس في الكذب والإفك، وإبراز الباطل في صورة الحق، والرذيلة في ثوب الفضيلة، والعكس. فهذه مَدْحَضَةٌ من مداحض النقد التحليلي في الناقدين والمنتقدين، تتيح لصاحب البصيرة أن يظهر خطأ هؤلاء الكتاب عندنا في كثير مما قالوه ويقولونه في تراجم شعراء العربية ونقد رجال السياسة. ومن هذه المداحض بعض ما يضعونه من الأصول والقواعد الواهية لطبائع الأمم وأحوالها الاجتماعية ويرجعون إليها في نقدهم، كالذي كانت الشعوبية تقوله في ذم العرب، ومنه بعض ما قاله الحكيم ابن خلدون بسريان دعايتهم في رأيه على استقلاله فيه، وبنى عليه زعمه أن أكثر حملة العلم في الإسلام من العجم، دع ما تخرص به بعض علماء الإفرنج من المستشرقين وغيرهم في هذا الباب، وهو ما يعتمد عليه مقلدتهم منا في نقدهم التحليلي، تراهم يعرفون بداوة العرب ويجهلون حضارتها القديمة في جزيرتها، ولا سيما السعيدة منها، وفعل جواليها في الحضارات الكلدانية في العراق والفينيقية في سورية والمصرية في مصر. ومن فروع الأغلاط الراجعة إلى هذه الأصول التي أخذها كثيرون بالتسليم فجعلوها من القضايا البرهانية، قول بعض السابقين: إن سبب وضع علماء الأعاجم لأكثر معاجم اللغة العربية ولكتب فلسفتها من النحو والبلاغة هو شعورهم بالحاجة إليها لفهم هذه اللغة التي كان يفهمها أهلها بالسليقة. وهذا قول باطل فمن ثم كان تعليله باطلاً، فإن الواضع لأول معجم للغة هو الخليل بن أحمد وهو عربي، وأكثر واضعي سائر المعاجم من العرب كالفيروزآبادي وهو قرشي صديقي، وابن سيده وهو عربي أندلسي، وابن منظور وهو عربي أنصاري خزرجي، ولا تتسع هذه المقدمة للتمثيل لسائر العلوم اللغوية الشرعية. ومن فروعها ما جرى عليه الدكتور طه حسين في محاضراته الأخيرة في شعر أبي تمام والبحتري وابن الرومي، فقد تمحل فيما حاوله تبعًا لغيره من إثبات نسب أعجمي لبعض هؤلاء الشعراء وغيرهم، وتمييز شاعريتهم عن غيرها من شاعرية أقرانهم، بتأثير الوراثة الأعجمية في عقولهم ومخيلاتهم، في إثبات الأنساب الأعجمية لبعض هؤلاء الشعراء نظر تاريخي ظاهر، وأضعف دلائله الأسماء والألقاب، والنسبة إلى البلاد، ولكن النظر في إثبات الوراثة الأعجمية في شعرهم أقوى وأظهر، فقد أتى على جيل الروم قرون كثيرة لم ينبغ فيها فيلسوف ولا شاعر يقرن بشعراء العرب في جاهليتهم فضلاً عن شعراء حضارتهم، على أن ملكة الشعر لم تكن شائعة منتشرة في الروم كالعرب فيرثها أكثر من كان من سلائلهم، وإن بعدت من عهد علمهم وحضارتهم. إذا تمهد هذا أقول: نقد كُتَّاب الإفرنج للقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم ومقلدهم المسلم: إن كُتَّاب الإفرنج من دعاة النصرانية والملاحدة قد وضعوا القرآن المجيد الحكيم والنبي الأمي الصادق الأمين على مشرحة النقد التحليلي، وأعملوا فيهما مُدَاهم ومباضعهم، وآلات التحليل عندهم، اتِّباعًا لقواعدهم وأصولهم التي أشرنا إليها، فكان عاقبة ذلك أن آمن من كان سليم الفطرة منهم غير جامد على الأفكار المادية بنبوة محمد ورسالته، وكون القرآن كلام الله تعالى ووحيه إليه صلى الله عليه وسلم، وتمحل بعضهم من التعليل والتأويل للمعجزات والآيات العلمية ما رآه أقرب للجمع بين المعتاد والمعهود في استعداد البشر العقلي والروحي وسنن الاجتماع، وما ثبت في تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم مما هو من خوارق العادات، مع اجتناب المبالغة في ذم ولا مدح كموسيو مونتيه [٣] ومنهم من عرضه في قالب المدح بمثل ما شرحه كارليل في كتابه (حياة محمد) عليه الصلاة والسلام. وأصر الفريق الثالث على افتراء الكذب والبهتان، وأعني بهذا الفريق دعاة الكنيسة، وأعوانهم من رجال السياسة. فأما رجال هؤلاء الطعانون المفترون، فالباعث لهم على عملهم خدمة ملتهم ودولهم، وجهاد أقوى عدوٍّ لتعاليم كنائسهم وعظمتها على قاعدتهم المشهورة عنهم بلفظ (الغاية تبرر الواسطة) يعنون أن الجريمة التي تكون وسيلة إلى مقصد حسن - كالكذب - تكون بهذه النية من أعمال البر الشريفة، وهم مأجورون عليه من جمعيات كنائسهم في الدنيا، والمؤمن منهم بكنيسته وقاعدتها المذكورة يرجو على عمله ثواب الآخرة ودخول الملكوت. وأما أولئك الناقدون من علمائهم المستقلي العقل مادحهم وقادحهم فإنهم رأوا أنفسهم تجاه أعظم حادث في تاريخ البشر: رجل أمي ظهر في قوم أميين مشركين من أبعد الشعوب عن الحضارة، وهداية الديانة، والتشريع والفتح وسياسة الشعوب، جاءهم بكتاب فاق جميع كتب الأنبياء والحكماء في عبارته وهدايته، فجمع به وعليه كلمتهم المتفرقة، وألف بين قلوبهم على ما كان من إحنة وضغن، وهذَّب طباعهم على كبر السن ففتحوا العالم وصاروا أئمة أمم الحضارة وسادتها وملوكها، كتاب معجز بأسلوبه ونظمه وعلمه، ونبي ذو معجزات في نفسه وأخلاقه وأعماله وأمته، لا جرم أن هذا الحادث التاريخي الأعظم يحتاج إلى فهم ونقد وتعظيم وإكبار. مع تكلف إدماجه في المعتاد من كبار العقول وأعلياء الهمم من الناس. وأما مدرس الأدب المسلم في الجامعة المصرية التي أسستها الأمة المصرية المسلمة بأموال أغنيائها وأوقافها، وكفلتها الدولة المصرية الإسلامية، فما الباعث له على الطعن في نبيه الكريم، وكتاب ربه العلي العظيم، وجعل الطعن عليهما درسًا في الأدب يلقح به أذهان طلبة كلية الآداب مصرِّحًا فيه (بأن الباحث الناقد والمفكر الجريء لا يفرق بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر) والمفروض أنه مؤمن بأن القرآن كلام الله ووحيه، فلا يدخل في عموم تلك القواعد الموضوعة لنقد كلام البشر؟ هل يستطيع مسلم جريء أو متهور ألا يفرق بين كتاب الله وبين أي كتاب أدبي آخر، وإن كان ككتاب ألف ليلة وليلة، أو جريدة العجائب مثلا؟ أم هل يستطيع كافر بالله وكتابه ورسوله وقد أوتي حظًّا من بلاغة اللغة أو نصيبًا من أدب النفس وعلم الأخلاق، أو خَلاقًا من علم الاجتماع وفلسفة التاريخ، ألا يفرق بين القرآن العظيم الحكيم، وبين أيّ كتاب آخر؟ أم هل يُصَدَّق مَن يدعي عدم التفرقة في قوله، وقد اقتصر في نقده على الطعن، وأسرف فيه حتى أربى على أولئك الأعداء الطعانين بما لا يعقل أنه يعتقده، وهو ما يرى القارئ بيانه في هذا النقض؟ ألا إن من وراء المعقول أن يكون هذا من النقد النزيه، الذي يعبرون عنه بالبريء فما سببه إذًا وما الداعي إليه؟ الفرق بين السور المكية والمدنية من هذه المطاعن ما سببه الجهل بالمكي والمدني من السور، ومنها ما منشؤه الجهل بما يدرك منها بالسمع والبصر كالذي زعمه في قصر الآيات في القسم المكي، وطولها في القسم المدني، وهو ما ذكره علماؤنا ولم يبينوا سببه، ونحن نبينه هنا بالإيجاز فنقول: إن طول الآيات وقصرها مَنُوط بموضوعها، ولا دخل فيه لمكان نزولها، فالآيات أو السور التي يراد بها الوعظ والزجر يحسن فيها أن تكون أقصر من آيات الأحكام، وهي تكثر في القسم المكي؛ لأنه هو المناسب لحال المخاطبين، من المشركين المعاندين، كما تكثر الأحكام التفصيلية في السور المدنية؛ لأن الخطاب بها للمؤمنين المكلفين، على أن الآيات الطويلة التي قال: (إن الآية الواحدة منها تزيد على عدة سور بتمامها من القسم المكي) قليلة جدًّا، بل لا تظهر تمام الظهور إلا في آية الأحكام المالية من الدَّيْن والرَّهْن وكتابتها والاستشهاد عليها من سورة البقرة، فهي أطول آية في القرآن تبلغ في المصاحف المطبوعة اثني عشر سطرًا، وهي تزيد على عدة سور من صغار المفصل التي تتلى في الصلوات القصيرة مكيها ومدنيها، فسورة النصر منها مدنية، وهي سطران فقط، وسورة الزلزلة مدنية وهي أربعة أسطر، ومثلها سورة العاديات والمعوذتين، وكذا العصر في قول وهي سطر واحد. وآيات الأحكام التي قلما تبلغ نصف تلك الآية الطولى قليلة جدًّا كآيتي المواريث في سورة النساء ودونها الآية التي في آخرها، وآية الوضوء وآية الوصية في السفر من سورة المائدة [٤] وما عدا ذلك من آيات السور السبع الطول والمئين معتدل بين الطول والقصر، ومنها المكي والمدني، وإنما تكثر الآيات القصيرة في قسم المفصل من القرآن لحكمتين: (أولاهما) أن أكثره وعظ وزجر وعبر، وسوره أكثرها مكي، وهو المناسب لمقتضى الحال في مكة وأهلها لما كان عليه أكابر أهلها في جحودهم وعنادهم وطول باعهم في البلاغة، لا لانحطاط بيئتهم وسذاجتهم كما زعم، فإنهم كانوا أرقى العرب ذكاء ونباهة وبلاغة [٥] . (وثانيتهما) أنه أكثر ما يُتْلَى في الصلوات فرضها ونفلها، طويلها وقصيرها، فالمناسب أن تكون آياته قصيرة وسوره قصيرة أو متوسطة ليكون كل ما يقرأ منها مستقلا بالفائدة المتدبرة، والطاعن يجهل كل هذا على ظهوره؛ لأن درس التفسير وحكمة القرآن لم يكن مما يُعْنَى به. ومن هذه المطاعن ما سببه الجهل بفنون البلاغة أو الغفلة عنها أو تقليد الإفرنج، وهو ما عبر عنه بتقطع الفكرة واقتضاب المعاني، وقد سبقه إليه مستر سايل وغيره، ولا يتسع هذا المقام لبيانه. أخلاق النبي وأفعاله قبل الهجرة وبعدها: تكلف النقاد من الإفرنج قبله أن يجدوا فرقًا بين السور المكية والمدنية وبين أخلاق النبي وأحواله في مكة؛ إذ كان فقيرًا ضعيفًا، ثم في المدينة بعد أن صار غنيًّا قويًّا، وما كان شرعه في البلدين إلا شرعًا في إبطال الباطل وإحقاق الحق، وتقرير قواعد الإصلاح وإقامة ميزان العدل، وما كان في الحالين إلا مثلا في الخلق والعلم (والشمس رَأَد الضحى كالشمس في الطَّفَل) وما كان مكي القرآن ومدنيه إلا سواء في البلاغة المثلى على ما قيل في تعريفها من مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وعلى ما نقول من أنها عبارة عن بلوغ المتكلم به ما يريد من إصابة موقع الإقناع من العقل، والوجدان في القلب. {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: ١) {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} (الزمر: ٢٣) فكان مقتضى الحال في مكة - وأهلها مشركون منكرون للبعث، مستكبرون بما لهم من الثروة والرياسة في العرب، في الذروة من بلاغة اللسان، ولوذعية الأذهان، وجرأة الجنان أن يخاطبوا بالنذر القارعة، والحجج الصادعة، بأبلغ العبارات، وأفصح البينات، في الدعوة إلى التوحيد وأصول الدين، وقواعد التشريع، وعقائل الفضائل، وهو ما ألممت ببيانه في مقدمة الطبعة الثانية للمجلد الأول من المنار، التي كانت في سنة ١٣٢٧هـ إذ قلت: (قد اقتبسنا أسلوب الإجمال قبل التفصيل وقرع الأذهان بالخطابيات الصادعة من القرآن الحكيم، فإن أكثر السور المكية، ولا سيما المنزلة في أوائل البعثة قوارع تصخ الجنان، وتصدع الوجدان، وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف، وتَدُعُّ العقول إلى إطالة الفكر، في الخطبين الغائب والعتيد، والخطرين القريب والبعيد، وهما عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال، أو الفتح الذاهب بالاستقلال وعذاب الآخرة، وهو أشد وأقوى، وأنكى وأخزى، بكل من هذا وذاك، أنذرت السور المكية أولئك المخاطبين إذا أصروا على شركهم، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام عن ضلالهم وإفكهم، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة، التي هي الحنيفية السمحة السهلة، وليست بالشيء الذي ينكره العقل، أو يستثقله الطبع، وإنما ذلك تقليد الآباء والأجداد، بصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد. (راجع تلك السور العزيزة ولا سيما قصار المفصل منها ك {الْحَاقَّةُ * مَا الحَاقَّةُ *} (الحاقة: ١-٣) ، و {الْقَارِعَةُ * مَا القَارِعَةُ} (القارعة: ١-٢) ، و {إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ} (الواقعة: ١) ، و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التكوير: ١) ، و {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} (الانفطار: ١) ، و {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (الانشقاق : ١) ، و {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} (الذاريات: ١) ، و {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: ١) ، و {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} (النازعات: ١) . تلك السور التي كانت بنذرها، وفهم القوم لبلاغتها وعِبَرها، تفزعهم من سماع القرآن، حتى يفروا من الداعي صلى الله عليه وسلم من مكان إلى مكان: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (المدثر: ٥٠-٥١) {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (هود: ٥) ثم ارجع إلى السور المكية الطوال، فلا تجدها تخرج في الأوامر والنواهي عن حد الإجمال، كقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: ٢٣) إلى الآية ٣٧ منها، وقوله بعد إباحة الزينة وإنكار تحريمها وتحريم الطيبات من الرزق: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: ٣٣) . *** قصص القرآن ومزاياها، والتشريعان الإسلامي والإسرائيلي هذا ومما امتازت به السور المكية قصص الرسل عليهم السلام مع أقوامهم وما في معانيها من أصول دين الله العام، ومن بيان سننه تعالى في الأقوام، ومن العبر والمواعظ في التهذيب، ونزاهتها من كل ما يُخِلُّ بالآداب، ومن سوء القدوة في الأخلاق والأعمال، وهي تفضل بذلك كله قصص التوراة كما فصلناه في تفسير المنار، وكذلك تفضلها وتفضل سائر كلام البشر بما في نظم عباراتها، واختلاف أساليبها، من روعة البلاغة ودلائل الإعجاز الخاصة بها، وناهيك بإيرادها في بعض السور بمنتهى الإيجاز والاقتصار على موضع العبرة، وفي بعضها بالإسهاب والبسط المشتمل على كثير من أصول الهداية وسنن الاجتماع وأمهات الفضائل، وفي بعض آخر بما هو وسط بينهما، مع اختلاف النظم والأسلوب والفواصل في كل منها، بما يتجلى به الإعجاز أظهر التجلي من ناحية البيان، فوق الإعجاز من ناحية الإخبار بالغيب، وتصحيح أغلاط التاريخ المأثور عند أهل الكتاب، وبيان خلاصة دين الله (الإسلام) في العقائد والهداية التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام، ونزاهتهم عما وصمتهم به كتب اليهود من النقائص والآثام. ولو أن هذه القصص جاءت في السور المدنية لقال المغرور بفلسفة نقده التحليلي: إن محمدًا أخذ أكثرها من التوراة؛ لأن أهل مكة كانوا يجهلونها، بل كانوا يجهلون هذا النوع القصصي في كلامهم تاريخيه ووضعيه جميعًا، وقد عدوا هذا من عيوب الشعر العربي ونقصه عن شعر الأعاجم، ولكانت هذه الشبهة على قوله هذا أدنى أن تشتبه على طلبة الجامعة المصرية والعوام، من شبهته على وجود تشريع الأحكام الشخصية والمالية والزوجية في القسم المدني، فإن الفرق بين التشريعين الإسلامي والإسرائيلي في هذين النوعين وفي غيرهما عظيم جدًّا، كما أن سبب تفصيله في المدينة دون مكة واضح جدًّا، وهو أن التشريع العملي مرتبط بسلطان الحكم التنفيذي، فلا تشريع لمن لا يملك حكم التنفيذ، فالإسلامي أرقى وأعلى من الإسرائيلي من كل وجه، وناهيك بكونه تشريعًا عامًّا لجميع البشر في جميع الأزمنة والأمكنة، ومن أسسه: المساواة في الحق والعدل بين جميع الشعوب والقبائل، وجميع الأفراد فيهما، لا يميز فيه بين ملك وسوقة، ولا بين شريف ووضيع، أو غني وفقير أو قوي وضعيف، والتشريع الإسرائيلي خاص بشعب خاص مبني على تفضيله على جميع الشعوب بنسبه (لحكمة موقوتة بيناها في مواضع من تفسير المنار) فلا يستطيع هذا الشعب نفسه تنفيذه في هذا العصر إن عاد له الملك الذي يسعى له، بل هم قد تركوا معظم أحكامه من قبل أن يفقدوا الملك، والقرآن يعيب عليهم تحريف كتابهم وجهلهم به، وعدم إقامته، وإيمانهم ببعضه وكفرهم ببعض، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن النظر في كتبهم، وأخبرهم أن نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام لو كان حيًّا لما وسعه إلا اتباعه؛ لأنه خاتم النبيين الذي جاء بالدين الكامل والشرع العام لجميع البشر، كما بشَّر الله به موسى في التوراة، وكما بشر به عيسى عليه الصلاة والسلام المصلح في شريعته، زد على هذا نعيه عليهم فساد أخلاقهم ولا سيما الحسد، والبخل، وأكل السحت، واستحلال أكل أموال الناس بالباطل، ووصفهم بأنهم لا يفقهون ولا يعقلون. ألا يستحيي من يعلم هذا من مؤمن بالقرآن ونبي القرآن، أو كافر حر الفكر، أن يفضل السور المدنية على المكية بتأثير مجاورة اليهود - وهذا حكمه عليهم - ويدعي استمداد المهاجرين من ثقافتهم وتشريعهم، وهم الذين أصلحوا جميع شعوب البشر بهداية القرآن، والتأسي بأكمل الخلق على الإطلاق؟ ؟ وقد أجمع مؤرخو الإفرنج وغيرهم على أن أظهر أسباب نجاح الإسلام في انتشاره السريع وفتوحه الكثيرة الظافرة ما كان عليه أهل الملل كلها من فسوق وفساد، والدول كلها من ظلم واستبداد. هذا ما يتسع له المجال من الفرق بين السور المكية والمدنية بالإجمال، وقد التزمنا في تفسير المنار أن نكتب في آخر تفسير كل سورة خلاصة كلية لما في السورة من الأصول والقواعد العامة التي تشتمل عليها، ومنها الفرق بين المكي والمدني بالتفصيل. فمن راجع خلاصة سورة الأعراف المكية في الجزء التاسع من تفسير المنار يرى في باب توحيد الله إيمانًا وعبادة وتشريعًا ١٢ أصلاً، وفي باب أصول التشريع ٩ أصول، وفي باب آيات الله وسننه في الخلق والتكوين ١٤ أصلاً، وفي باب سنن الله تعالى في الاجتماع والعمران ٧ أصول. ثم إذا راجع خلاصة سورة الأنفال المدنية في الجزء العاشر يجد في أولها مقدمة في الفرق بين السور المكية والمدنية هذا نصها: (ينبغي أن يتذكر القارئ أن جُلَّ السور المكية في أصول الإيمان الاعتقادية من الإلهيات والوحي والرسالة والبعث والجزاء وغيرهما من عالم الغيب، وقصص الرسل مع أقوامهم. ويلي ذلك فيها أصول التشريع الإجمالية العامة، والآداب والفضائل الثابتة، كما بيناه في خلاصة كل من سورتي الأنعام والأعراف. ويتخلل هذا وذاك مُحَاجَّة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول، ودحض شبهاتهم، وإبطال ضلالاتهم، وتشويه خرافاتهم. وأما السور المدنية فتكثر فيها قواعد الشرع التفصيلية، وأحكام الفروع العملية، بدلا من أصول العقائد الإيمانية. وقواعد التشريع العامة المجملة، كما تكثر في بعضها محاجة أهل الكتاب، وبيان ما ضلوا فيه عن هداية كتبهم ورسلهم، ودعوتهم إلى الإيمان بخاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وفي بعضها بيان ضلالة المنافقين ومفاسدهم كما يرى القارئ للسور المدنية الطول الأربع (جمع الطولى) المتقدمة، وكل من هذا وذاك يقابل ما في السور المكية من بيان بطلان الشرك وغواية أهله. في سورة البقرة تكثر محاجة اليهود، وفيها تذكير كثير بقصة موسى معهم، وفي سورة آل عمران تكثر محاجة النصارى [٦] وفي سورة المائدة تكثر محاجة الفريقين، وفي سورة النساء تكثر الأحكام المتعلقة بالمنافقين، ويليها في فضائح المنافقين سورة التوبة الآتية. وتكثر في هذه السور الثلاث أحكام القتال، كما تكثر في هذه السورة (أي سورة الأنفال) اهـ. ثم إذا راجع خلاصة سورة براءة (التوبة) المدنية يجد في أولها ما نصه: (هذه السورة آخر السور المدنية الطول نزولاً فيقل فيها ذكر أصول الدين، وما يناسبها من الحجج العقلية والسنن الكونية، وكذا أنواع العبادات البدنية. اهـ. ثم إذا هو قرأ الأبواب والفصول التي لخصنا فيها ما في السورتين من الأصول والقواعد يجد أكثرها في قواعد التشريع الخاص بالقتال والصلح والعهود، وأحكام المشركين والمنافقين وأهل الكتاب في ذلك، وكذا القواعد والأصول المالية، وكل ذي إدراك يفهم أن هذا كله لا يعقل أن يكون إلا في القسم المدني دون المكي. الحروف المفردة في أوائل بعض السور إن هذه المسألة ما كان ينبغي لمسلم أن يقلد دعاة النصرانية في تشكيك طلاب العلم في القرآن بها وجعلها من مباحث النقد التحليلي في الأدب، (أي كما فعل طه حسين) وقد فنَّد الأستاذ الناقض لمطاعنه رأيه فيه، وذكرنا فيما علقنا عليه في حاشيته ما سبقه إليه بعض المستشرقين منه، ونذكر هنا المختار عندنا في هذه المسألة، وهو ما كتبناه في تفسير {المص} (الأعراف: ١) من أول سورة الأعراف في الجزء الثامن من تفسير المنار وهو: (المص) هذه حروف مركبة في الرسم بشكل كلمة ذات أربعة أحرف، ولكنها تقرأ بأسماء هذه الأحرف ساكنة هكذا: ألف. لام. ميم. صاد. والمختار عندنا أن حكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء حروف ليس لها معنى مفهوم غير مسمى تلك الحروف التي يتركب منها الكلام هي تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شيء. فهي كأداة الافتتاح (ألا) وها التنبيه، وإنما خصت سور معينة من الطول والمئين والمثاني والمفصل بهذا الضرب من الافتتاح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلوها على المشركين بمكة لدعوتهم بها إلى الإسلام وإثبات الوحي والنبوة، وكلها مكية إلا الزهراوين البقرة وآل عمران وكانت الدعوة فيهما موجهة إلى أهل الكتاب وكلها مفتتحة بذكر الكتاب إلا سورة مريم وسور العنكبوت والروم وسورة ن، وفي كل منها معنى مما في هذه السور يتعلق بإثبات النبوة والكتاب. فأما سورة مريم فقد فصلت فيها قصتها بعد قصة يحيى وزكريا المشابهة لها، ويتلوهما ذكر رسالة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس مبدوءًا كل منها بقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَاب} (مريم: ١٦) والمراد بالكتاب القرآن. فكأنه قال في كل من قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ} (مريم: ١٦) وذكر هذه القصص في القرآن من دلائل كونه من عند الله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم هذا لا هو ولا قومه كما صرح به في سورة هود بعد تفصيل قصة نوح مع قومه بقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: ٤٩) وكما قال في آخر سورة يوسف بعد سرد قصته مع إخوته: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: ١٠٢) وختمت هذه السورة (أي سورة مريم) بإبطال الشرك وإثبات التوحيد. ونفي اتخاذ الله تعالى للولد، وتقرير عقيدة البعث والجزاء، فهي بمعنى سائر السور التي كانت تتلى للدعوة ويقصد بها إثبات التوحيد والبعث ورسالة خاتم النبيين وصدق كتابه الحكيم. وأما سورة العنكبوت وسورة الروم، فكل منهما قد افتتحت بعد (الم) بذكر أمر من أهم الأمور المتعلقة بالدعوة، فالأولى الفتنة في الدين وهي إيذاء الأقوياء للضعفاء واضطهادهم؛ لأجل إرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة. كان مشركو قريش يظنون أنهم يطفئون نور الإسلام ويبطلون دعوته بفتنتهم للسابقين إليه، وأكثرهم من الضعفاء الذين لا ناصر لهم من الأقوياء بحمية نسب ولا ولاء. وكان المضطهدون من المؤمنين يجهلون حكمة الله بظهور أعدائه عليهم فبين الله في فاتحة هذه السورة أن الفتنة في الدين من سننه تعالى في نظام الاجتماع يمتاز بها الصادقون من الكاذبين؛ ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وتكون العاقبة للمتقين الصابرين. فكانت السورة جديرة بأن تفتتح بالحروف المنبهة لما بعدها. والأمر الثاني الذي افتتحت به سورة الروم هو الإنباء بأمر وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولما يكن وصل خبره إلى قومه وبما سيعقبه مما هو في ضمير الغيب، ذلك أن دولة فارس غلبت دولة الروم في القتال الذي قد طال أمره بينهما فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وبأن الأمر سيدول وتغلب الروم الفرس في مدى بضع سنين، وبأن الله تعالى ينصر في ذلك اليوم المؤمنين على المشركين، وقد صدق الخبر وتم الوعد، فكان كل منهما معجزة من أظهر معجزات القرآن، والآيات المثبتة لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ولو فات من تلاها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كلمة من أولها لما فهموا مما بعدها شيئًا، فكانت جديرة بأن تبدأ بهذه الحروف المسترعية للأسماع المنبهة للأذهان، وكان هذا بعد انتشار الإسلام بعض الانتشار، وتصدي رؤساء قريش لمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من الدعوة وتلاوة القرآن على الناس، ولا سيما في موسم الحج. وكان السفهاء يلغطون إذا قرأ ويصخبون {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: ٢٦) وأما سورة (ن) ففاتحتها وخاتمتها في بيان تعظيم شأن الرسول صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم ودفع شبهة الجنون عنه إلخ. وقد بينت بعد ما ذكر حكمة هذا التنبيه الذي كان من إصلاح القرآن في أساليب اللغة العربية، وكونه مما يقتضيه علم النفس، وبلاغة القول، وتأثير الخطاب، فيراجع في التفسير فإنه مهم جدًّا. (نصيحة) قد علمت أيها المسلم القارئ لهذه المقدمة، وهذا الكتاب أن الدكتور طه حسين تكلم في القرآن بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولا بإخلاص في النقد التحليلي، الذي يعلو القرآن على مدارك أهله وعقولهم وعلمهم باللغة والدين والتشريع، وإذ كان القرآن أصل الدين فلا ينبغي للمسلم أن يأخذ علم بلاغته وآدابه، ولا علم هدايته وتشريعه، إلا عن خواص العلماء بتفسيره، ويجب أن يرجع إليهم فيما عسى أن يقرأه أو يسمعه لغيرهم من نقد أو طعن أو رأي فيه يخفى عليه. أما دعاية التجديد التي يبثها الملاحدة الإباحيون بعضهم لبعض ويخدعون بها التلاميذ الأغرار، والمفتونين بتقليد الإفرنج فيما يسهل عليهم من طُرُز (بضمتين جمع طراز) الزينة والشهوات، فليخبرونا أي شيء جديد جاءوا به مما يرقي الأمة في اتحادها وأخلاقها وقوتها وعزتها لنبين لهم خطأهم فيه، ونحن نقول: إنهم ما جاءوا بشيء جديد نافع قط، بل بالضار المفسد للأمة على أنه غير جديد، بل هو الذي أفسد أمم الحضارة القديمة وأسقط دولها، وعقلاء أمم أوربة يخافون سقوطها بمقتضى سنة الله فيمن قبلها. وأما الأسلوب العصري في النقد الذي اعترفنا بحسنه في جملته فهو قديم أيضًا وأول واضع لأصوله حكيمنا ابن خلدون، وجرى عليه شيخنا الأستاذ الإمام في رده على موسيو هانوتو بما حمل هذا الوزير على اعتذاره للإمام، وجرى عليه أيضًا في مقالات الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية الذي طبع مرارًا، ومنه هذا النقض. وأما ما يكتبه هذا الرجل وأمثاله في مسائل الأدب اللغوي والتاريخ فمنه الصحيح المقبول، ومنه الزائف المردود، وإن تطبيق الحكم على الصحيح منها قد يكون خطأ ظاهرًا، وقد يكون محل نظر واستدلال، كما وقع للحكيم ابن خلدون واضع هذا الفن، وهذا شأن جميع علماء النظر العقلي والشرعي وغيرهم، فإن خطأ الفقهاء في تطبيق الأحكام على قواعد الأصول أكثر من خطئهم في القواعد نفسها. ومن راجع ما كتبه بعض الحُذَّاق في النقد التحليلي التفصيلي لكتاب (في الأدب الجاهلي) علم قيمة بضاعته المزجاة فيه، والتقليد المحض لكبار الحكماء والعلماء ينافي العلم الصحيح، فما القول بتقليد من دونهم، و (الحكمة ضالة المؤمن أين وجدها فهو أحق بها) {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ١٧-١٨) .