أكبر مصائب البلاد موت العلماء والأدباء والكتاب الذين يغذون العقول ويزكّون النفوس بالتعليم والتصنيف ونشر العلوم والآداب. وقد رزئت الديار المصرية والسورية في هذه الأيام بوفاة أربعة كهول من أشهر رجالهما في علوم الدين والدنيا واللغة، يعدون من عوامل التحول والانقلاب الاجتماعي في الأمة العربية. وهم أحمد فتحي باشا زغلول المصري والشيخ حسن المدور والشيخ محيي الدين الخياط البيروتيان - والشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي. ١- أحمد فتحي باشا زغلول في آخر يوم من الشهر الماضي شيعت مصر جنازة نابغة العرب فيها صديقنا أحمد فتحي باشا زغلول، وشعر كل ذي بصيرة فيها بأنها فقدت رجلاً لا خلف له في مواهبه ومزاياه. ولد الفقيد لليلتين أو ثلاث خلت من شهر رمضان ١٢٧٩ (الموافق أول شهر الشتاء الثاني سنة ١٢٤١ هجرية شمسية - ٢٢ فبراير ١٨٦٣م) والده من بيت كريم ينتمي إلى بعض قبائل العرب التي استوطنت القطر المصري، ووالدته من بيت كريم يسمَّى (بيت بركات) ، وهما من قرية من قرى مديرية الغربية اسمها (إبيان) ، وكان والده سمّاه (فتح الله صبري) ثم غير اسمه ناظر المعارف فسماه باسمه (أحمد) لما ظهر له من نجابته، ولقبه بفتحي للإشارة إلى اسمه الأول. وتلقى التعليم الابتدائي والوسط في مدارس الحكومة بمصر والإسكندرية، واختار له ناظر المعارف أن يتلقى التعليم العالي في فرنسا، فكان في مدارس التعليم كلها آية الذكاء والاجتهاد. ولما عاد من أوربة دخل في خدمة الحكومة في النيابة والقضاء حتى صار رئيسًا لمحكمة مصر الأهلية ثم وكيلاً لنظارة الحقانية، ونال ما نال من رتب الحكومة وأوسمتها العالية، وكان العارفون يجزمون بأن ترقيه دون استحقاقه واستعداده. فهل هذا هو أحمد فتحي باشا زغلول؟ تعلم في مدارس مصر وأوربا ألوف، عاش أكثرهم ومات كما يعيش ويموت الملايين من الجهلة والمغمولين، وتقلب كثيرون منهم في مناصب الحكومة وأعمالها. وما كل واحد منهم يستحق أن يترجم في الصحف ويخلد اسمه في دواوين التاريخ، اللهم إلا تواريخ المنافقين الذين يعظمون كل صاحب منصب أو ثروة وإن لم يكن له أثر يذكر أو منقبة تؤثر إلا جمع المال واقتناء العقار، والتعالي على الناس ولو بالظلم والإفساد. أحمد فتحي زغلول ذلك الرجل الذي شهد له كل ذي علم وفهم في مصر بأنه بذ الأقران، وكان المجلى من حلبة المدنية في كل ميدان، لم يجمع مالاً، ولم يتأثل عقارًا، ولم يترك درهمًا ولا دينارًا؛ وإنما كان هو ذلك الرجل بما آتاه الله من الذكاء واللوذعية، والعقل والروية، والهمة العلية، وما تربى عليه من ملكة الاستقلال، وما اكتسبه من العلوم وما أحسنه من الأعمال. خلق أحمد فتحي زغلول كبير الاستعداد، آتاه الله فؤادًا ذكيًّا، وذهنًا لوذعيًّا، والأذكياء في أمتنا العربية كثيرون، فإن كان حظ هذا الرجل من الذكاء عظيمًا فكم من عظيم الذكاء أطفأت التربية السوءى والبيئة الفاسدة نور ذكائه، وهدمت ما بنته الفطرة من قوة استعداده، وكم من ذكي وجهت القدوة السوءى ذكاءه إلى ما يضره أو يضر أمته كلها، وقد اتفق لهذا الذكي اللوذعي أن نبت في بيئة خاصة، مثل فيها أمام عينيه من أول العهد بالتمييز إمام الإصلاح في هذا الزمان، ومن حوله من المريدين والإخوان، الذين لم يكن لهم سمر ولا حوار، إلا في شؤون التربية والإصلاح، فكان يرى منهم منذ عهد التعليم الابتدائي الأستاذ الإمام متجليًا في فضائله وحكمته، والشيخ عبد الكريم سلمان متحليًا بآدابه وفطنته، وأخاه (سعدًا) معتصمًا باستقلاله وحجته، مع أتراب لهم من مريدي السيد جمال الدين حكيم الإسلام، وخليفته الأستاذ الإمام، وكل في فلك العلم والحكمة يسبحون، وحول قطب الإصلاح وتجديد حياة الأمة يدورون، فلقح استعداد أحمد فتحي بفكرة العمل والسعي لتجديد حياة الأمة، وصحب الأستاذ الإمام بعد عودته من أوربة ودخوله في أعمال الحكومة كأخيه الأكبر (سعد باشا) صحبة المريد الصادق للمرشد الكامل، فاستفاد من تلك الأفكار السامية، والمقاصد العالية، والفصاحة الخلابة، والبلاغة الجذابة، ما شاء الله أن يستفيد. وكان زيته صافيًا يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فاتصل بذلك القبس المتألق فاشتعل نورًا على نور. أروي عن فقيدنا النابغة كلمتين في أستاذنا الإمام رحمهما الله تعالى: الأولى سمعتها منه في أول مجلس لقيته فيه: زار الفقيد طرابلس الشام بصحبة الأستاذ أيام كنت أطلب العلم فيها، فكنت مدة مكثهما في طرابلس ملازمًا لهما من الصباح إلى وقت النوم؛ لأنني كنت اطلعت على ما صدر من جريدة (العروة الوثقى) فعشقت السيد جمال الدين مدير سياستها، والشيخ محمد عبده رئيس تحريرها، وصرت مريدًا لهما بالغيب، وقد جئت الدار التي ناما فيها ليلة قدما فقيل لي أنهما ذهبا إلى حمّام عز الدين، جئت الحمام فألفيت بعض العلماء والوجهاء قعودًا في خارج الحمام ينتظرون مع الفقيد، والأستاذ في الداخل، فترجمني الشيخ خير الدين الميقاتي من علماء طرابلس للفقيد، وكان مما قاله: إنه أكتب الكتاب عندنا وهو لا يرى لنفسه أستاذًا في الكتابة إلا الأستاذ الشيخ محمد عبده على أنه لم يره، فقال الفقيد: كلنا ليس لنا أستاذ في الكتابة غير الأستاذ. وأحسب أنه فسّر ذلك بأن التمايز في الكتابة إنما هو بالأفكار وأساليب التصرف في الكلام، وأن كل من يقرأ ما كتبه الشيخ أو يسمع كلامه يجد فيه القدوة المثلى والمادة الغزيرة في ذلك. ولم أحفظ من كلامه بنصه وقتئذٍ إلا تلك الكلمة. وأما الكلمة الثانية فقد قالها منذ ثلاث سنين؛ إذ كنا نتذاكر في داره ببعض المسائل الاجتماعية، فذكرنا كلمة من حكم الأستاذ في ذلك فسرتها الحوادث فقال: إن كثيرًا من كلام الشيخ لم يظهر لنا معناه المراد إلا بعد موته. وقد كان يقول الكلمة فنظن أننا فهمناها ثم يظهر لنا بعد عدة سنين أننا لم نكن فهمنا بعد غوره فيها، حتى كشفه طول البحث وسعة الاختبار. اهـ بالمعنى. تلك البيئة الإصلاحية هي التي جعلت استعداد أحمد فتحي زغلول خطيبًا مفوهًا، كما جعلته كاتبًا قديرًا، فكان في مصر ثاني الأستاذ الإمام في فصاحة لسانه، والتزام الفصيح في أكثر كلامه، أما الأستاذ فقد كتب الشيخ إبراهيم اليازجي في ترجمته - وناهيك بنقده ودقته -: إن كلامه الذي كان يلقيه في مجالسه العادية كأبلغ ما يكتبه المترسلون المتأنقون. أقول: وناهيك به قدوة صالحة، ومربيًا للملكة. تلك البيئة الطيبة والقدوة الصالحة هي التي لقحت ذلك الذهن الوقاد بلقاح الاستقلال، الذي به تظهر ثمرات العلوم عند القيام بالأعمال، فكان مضطلعًا بالعمل بما تعلم، وكان علمه ملكة ثابتة، وصفة راسخة، وشجرة مثمرة، وأكثر بالعمل المتعلمين منا مقلدون، يودعون العلم بوداع المدرسة، وما عرفنا رجلاً مثله كانت الحكومة تشعر بحاجتها إلى علمه، وترجع إليه حتى في القوانين والأعمال التي لا تتعلق بعلمه، فهو واضع اللائحة الإصلاحية للمحاكم الشرعية، وهو واضع قانون إصلاح الأزهر، وناهيك بهما، وبما يتوقف عليه وضعهما، وقد اشتهر أنه كان في نظارة الحقانية الركن الركين لوضع جميع الأنظمة واللوائح والقوانين. لم تشغل الفقيد خدمة الحكومة التي كان يتقنها من كل وجه، عن خدمة الأمة بالعلم والعمل، فقد كان عضوًا عاملاً في الجمعية الخيرية الإسلامية، وألف وترجم عدة كتب ينبغي بها الإصلاح والنهوض بالأمة، دون الكسب والثروة، وكان أول ما أخرجه للغة العربية من نفائس مصنفات الإفرنج (كتاب أصول الشرائع) لبنتام، وهو كتاب جليل في فلسفة القوانين وعللها ومداركها، يعجز عن ترجمته من لم يكن راسخًا في علوم القوانين والفلسفة، وسعة الاطلاع في علم اللغة، ولو كان العلم في الأمة حيًّا لأعيد طبع هذا الكتاب مرارًا. وكان آخر كتاب ألفه في القضاء (شرح القانون المدني المصري) شرحه شرح العالم المجتهد المستقل، وتصرف في تنسيقه وترتيبه تصرف المصلح المنقح، غير في هذه الترجمة كثيرًا من الاصطلاحات القضائية المترجمة عن اللغة الفرنسية ترجمة غير صحيحة، فأعجبت الحكومة وجمهور رجال القضاء بهذا الشرح، واعترفوا بشدة الحاجة إليه، وكان هو الباعث على احتفالهم بالشارح ذلك الاحتفال الذي نوهنا به في وقته. وله في هذه المباحث القضائية كتاب حافل سماه (المحاماة) وقد بين في هذه الكتاب تاريخ المحاماة عند الأمم القديمة بالإجمال وعند الأمم الغربية بالتفصيل ومنه الكلام في نظامها عند هذه الأمم، والمؤتمر الذي عقد لها، ثم أفاض القول في المحاماة في مصر، وبيان حال المحاكم المصرية وتاريخها وتأسيس الحكومة المصرية ودخولها في سلك النظام الأوربي، وأطال الكلام على القضاء فيها، وبعد استيفاء كل ما أراده من الكلام على المحاماة وأهلها من التاريخ والنظام والقوانين والآداب، وما يناسب ذلك ختم الكتاب بملحقات في قوانين مصرية سابقة ولوائح وأوامر رسمية مصرية متممة للموضوع. فكانت صفحات الكتاب ٤٣٤؛ وصفحات الذيل ٢١٠ وله رسالة قضائية في التزوير مفيدة في بابها. وله ترجمة كتاب (الإسلام - خواطر وسوانح) للكونت هنرى دي كاستري الفرنسي، في رد مفتريات الصليبين وأشباههم على الإسلام، فقد كان هذا الكونت واسع الاطلاع في كتب المسلمين، ونقل في هذا الكتاب من مطاعن الإفرنج في الإسلام ما لم يخطر على بال مسلم في الدنيا، وردها وأثنى على الإسلام خير الثناء. وقد ترجم هذا الكتاب وطبعه في أواخر سنة ١٣٠٥، وهي التي صدر فيها المنار، وقرظناه في العدد الحادي عشر من السنة الأولى، ونشرنا مقدمته للترجمة العربية التي نقل الفقيد فيها نبذة من المنار. وكان غرضه من ترجمة هذا الكتاب الدفاع عن الإسلام وبيان محاسنه وتنبيه المسلمين إلى ذلك. وأما الكتب التي ترجمها لغرض التجدد العلمي والمدني في مصر وسائر الأمة العربية فهي كتاب (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) في الطريقة المثلى للتربية والتعليم، لعالم فرنسي اسمه (أدمون ديمولان) وكتاب (روح الاجتماع) وكتاب (تطور الأمم) كلاهما للفيلسوف الفرنسي الكبير (غوستاف لوبون) فكان غرضه من هذه الكتب بث فكرة التربية الاستقلالية والتعليم العلمي في الأمة، واعتماد الأفراد على أنفسهم لا على حكوماتهم [١] وتنبيهها إلى أسباب التحويل والانقلاب في الأمم والشعوب، وكونه لا يحصل إلا بالتدريج البطيء، وتذكيرها بالآفات والعلل الكامنة في التطورات الاجتماعية الحديثة في الإفرنج، كالاشتراكية والأحزاب والجمعيات السياسية، والاقتصادية وغيرها. ولغوستاف لوبون مذهب خاص في هذه المباحث يخالفه في كثير من آرائه بعض علمائهم والناظر المستقل لا يقلد أحدًا من المختلفين، وإنما يمحص المسائل ويتبع قوة الحجة والدليل. ويقال: إنه كان بدأ بترجمة كتاب مدنية العرب أو حضارة العرب لغوستاف لوبون أيضًا، وكان الأستاذ الإمام حضه على ترجمته، وآخر ما أخرجه قلمه للناس ترجمة رسالة سياسية في سوء حال الدولة العثمانية وشدة حاجتها إلى تغيير وضعها ونظامها، وهي للأمير مصطفى فاضل باشا زعيم الأحرار الأول في الآستانة خاطب بها السلطان عبد العزيز، ورسالة أخرى في قواعد وفذلكات اجتماعية لغوستاف لوبون جعلها كالمذاكرات والعناوين لما فصله في كتبه الاجتماعية، فترجمها الفقيد بالعربية وسماها (جوامع الكلم) . وقصارى القول في صفة الرجل الاجتماعية والسياسية أنه حجة على كفاءة العربي، وقدرته على العلم والعمل بالنظام الأوربي كأرقى الأوربيين؛ لأنه ركن في العمل بذلك. وأما صفاته الشخصية فقد كان حسن المعاشرة، حلو المفاكهة، نزيه النفس واللسان، يقدر على إرضاء كل جليس بغير دهان، لا يمل جليسه جده، ولا يعبث بوقار هزله، وقلما تربى في أوربا شاب مثله في عفته وصيانته، والاعتصام من استخفاف حرية الفسق لشرة الصبا وخفته، وكان دقيق النظام في كل شيء متأنقًا جد التأنق في زيه ومعيشته بلا تكلف، ولا إضاعة وقت في العبث وأما رأيه في الإصلاح والتجدد فهو أن يبني ولا يهدم؛ لأن الأمة إذا وجدت البناء الجديد أصلح لها، تركت المباني العتيقة تسقط من تلقاء نفسها، فلم يكن يدعو إلى ترك العادات الضارة ويشنع على أنصارها؛ لذلك لم يطعن الناس في رأيه ومذهبه كما طعنوا في صديقه قاسم بك أمين؛ بل لم يكن الجمهور يعرفون أن له رأيًا يرمي إليه في الانقلاب الاجتماعي. فإن فهم بعض أذكياء الحزب الوطني أن ما شرحه كتاب روح الاجتماع من أمر اندفاع الجماعات بغير عقل ولا شعور ينطبق على حزبهم، فهل كان يسهل عليهم أن يطعنوا بوطنية مترجم الكتاب ويعدونه خصمًا لهم؟ هذا وإن الفقيد قد كان ميالاً إلى الإصلاح الديني، معتقدًا أنه شطر أو شرط للإصلاح الدين والسياسي، وقد كان أخبرني في أوائل العهد بإنشاء المنار أن إبراهيم باشا فؤاد ناظر الحقانية مغتبط بالمنار ويرى وجوب تعميم نشره بين المسلمين. وأنه هو قد سرّ بذلك وتواعد مع الناظر باتخاذ وسيلة لذلك يوزع بها ألوف من النسخ على طلاب العلم وفقراء القراء بثمن قليل. ثم لم أراجعه ولا كلمت إبراهيم باشا في ذلك عندما كنت ألقاه وأسمع منه الثناء على المنار. ولا هما وفقًا لشيء مما تحدثا به. ولما توفي شيخنا الأستاذ الإمام تذكر أصدقاؤه ومريدوه في عمل شيء يذكر به، فاقترحت أن تنشأ باسمه مدرسة كلية يجمع بها بين التربية الدينية الصحيحة وتعليم العلوم الدينية والدنيوية على طريقته التي كان يسعى لها سعيها بإصلاح الأزهر، فقبلوا الاقتراح بكل ارتياح، وانتخبوا في دار سعد باشا زغلول لجنة لوضع نظام المدرسة مؤلفة من حسن باشا عاصم والفقيد وصاحب هذه المجلة، فكان الفقيد مهتمًا بهذا، وذاكر به لورد كرومر - كما تقتضي المصلحة - فأظهر اللورد له الاستسحان. ووعده بأن يحضر له نظام وبرنامج مدرسة عليكرة الإسلامية الهندية للاقتباس منه واستحسن أن يبدأ بالعمل صغيرًا ليكبر بالتدريج. ويعلم الذين يقرؤون المنار منذ سنين أن الذي حال دون إنشاء هذه المدرسة هو ظهور مشروع مدرسة الجامعة المصرية ونوط أمرها بسعد باشا زغلول وقاسم بك أمين. وكان سعد باشا هو الركن الركين لمشروعنا فتركه للجامعة وما كان يمكن أن يشتغل به وبمشروع الجامعة معًا. ولما عزمت على السفر إلى الآستانة منذ أربع سنين لأجل مشروع الدعوة والإرشاد اهتم بذلك الفقيد اهتمامًا عظيمًا، وجاءني ليلة من ليالي رمضان الذي سافرت فيه واقترح أن نتكلم في المشروع منفردين، فأقفلنا باب الدار، وظللنا نتحدث في المشروع إلى ما بعد نصف الليل، فلما شرحت له وسائله ومقاصده سر به وبالغ في استحسانه، ووعد بأن يساعد الجمعية التي تؤسس له هناك بقدر الطاقة، وعهد إلي بأن أتعاهده بالكتابة من الآستانة، فكانت الكتابة بيننا متصلة في ذلك، ولم أر أحدًا من أصدقائي بمصر اهتم بذلك بعض اهتمامه رحمه الله تعالى. كان سبب موته مرض ألم بدماغه، سببه كثر تفكره واشتغاله، ولا غرو فقد كانت قوة ذلك الدماغ أعظم من مادته، وعمله فوق استطاعته، وذلك منتهى أكثر الرجال الذين همتهم أكبر من قوتهم، تنسى عقولهم حقوق أبدانهم: فيجنون على أمتهم بجنايتهم على أنفسهم؛ إذ ينتزعهم القدر منها، أقدر ما كانوا على خدمتها، فمنهم من يغتضر في سن الشباب، ومنهم من يلقى مصرعه عند الاكتهال، وبلوغ قواه كلها مستوى الكمال، كمن فقدنا اليوم، ومن فقدنا بالأمس، رحمهم الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))