للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطاب حافظ للأستاذ الإمام
في رفع كتاب البؤساء إليه

إلى الأستاذ الإمام:
إنك موئل البائس ومرجع اليائس، وهذا الكتاب - أيَّدك الله - قد ألمَّ بعيش
البائسين، وحياة اليائسين، وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور، وسمَّاه كتاب
(البؤساء) وجعله بيتًا لهذه الكلمة الجامعة، وتلك الحكمة البالغة (الرحمة فوق
العدل) وقد عنيت بتعريبه، لما بين عيشي وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب،
وتصرفت فيه بعض التصرف، واختصرت بعض الاختصار، ورأيت أن أرفعه إلى
مقامك الأسنى، ورأيك الأعلى، لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث أولها: التيمن باسمك
والتشرف بالانتماء إليك، وثانيها: ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب إلى
الرجل الذي يعرف مهر الكلام، ومقدار كدّ الأفهام، وثالثها: امتداد الصلة بين الحكمة
الغربية والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب إلى حكيم المشرق.
فليتقدم سيدي إلى فتاه بقبوله، والله المسئول أن يحفظه للدنيا والدين، وأن
يساعدني على إتمام تعريبه للقارئين ... اهـ.
قدَّم محمد حافظ هذا الكتاب إلى الأستاذ الإمام ونحن جلوس معه في حديقة داره
بعين شمس مساء يوم من الأيام، فأخذه منه بعد أن قرأه علينا وعليه ودخل الدار
فمكث فيها قليلاً، ثم عاد إلينا وقال: إنني عصرت دماغي على ما به من جفاف
الكلال فخرج منه هذه الكلمات، وأعطى حافظًا ورقة قرأ فيها:
تقريظ كتاب البؤساء للأستاذ الإمام
لو كان بي أن أشكرك لظنٍّ بنا بالغتَ في تحسينه، أو أحمدك لرأي لك فينا
أبدعت في تزيينه، لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك ويجري
في الشكر إلى الغاية مما يطلبه فضلك؛ لكنك لم تقف بعرفك عندنا، بل عممت به
من حولنا، وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا.
زففت إلى أهل اللغة العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية، سحرت قومها،
وملكت فيهم يومها، ولا تزال تنبه منهم خامدًا، وتهز فيهم جامدًا، بل لا تنفك
تحيي من قلوبهم ما أماتته القسوة، وتقوّم من نفوسهم ما أعوزت فيه الأسوة، حكمة
أفاضها الله على رجل منهم، فهدى إلى التقاطها رجلاً منا، فجرَّدها من ثوبها
الغريب، وكساها حلة من نسج الأديب، وجلاها للناظر، وحلالها للطالب، بعدما
أصلح من خلقها، وزان من معارفها [١] ، حتى ظهرت محببة إلى القلوب، شيقة
إلى مؤانسة البصائر، تهش للفهم، وتبش للطف الذوق، وتسابق الفكر إلى مواطن
العلم، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي في النفس مكان الإلهام.
حاول قوم من قبلك أن يبلغوا من ترجمة الأعجم مبلغك، فوقف العجز بأغلبهم
عند مبتدأ الطريق، ووصل منهم فريق إلى ما يحب من مقصده؛ ولكنه لم يعن بأن
يعيد إلى اللغة العربية ما فقدت من أساليبها، ويرد إليها ما سلبه المعتدون عليها من
متانة التأليف، وحسن الصياغة، وارتفاع البيان فيها إلى أعلى مراتبه، أما أنت
فقد وفَّيت من ذلك ما لا غاية لمزيد بعده، ولا مطمع لطالب أن يبلغ حده، ولو
كنت ممن يقول بالتناسخ لذهبت إلى أن روح ابن المقفع كانت من طيبات الأرواح،
فظهرت لك اليوم في صورة أبدع، ومعنى أنفع، ولعلك قد سننت بطريقتك في
التعريب سنة يعمل عليها من يحاوله من ظهور كتابك، ويحملها الزمان إلى أبناء ما
يستقبل منه، فتكون قد أحسنت إلى الأبناء، كما أجملت الصنع مع الآباء، وحكمت
للغة العربية أن لا يدخلها بعد من معجمة سوى ما هو في الأسماء، أسماء الأماكن
والأشخاص، لا أسماء المعاني والأجناس، ومثلي من يعرف قدر الإحسان إذا عم،
ويعلي مكان المعروف إذا شمل، ويتمثل في رأيه بقول الحكيم العربي:
ولو أني حبيت الخلد فردًا ... لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
فما أعجز قلمي عن الشكر لك، وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللفاء [٢] .
تقول: إن الذي وصل سببك بسبب صاحب الكتاب، ووقف بك على دقائق
من معانيه اشتراكك معه في البؤس، ونزولك منزلته من سوء الحال، وربما كان
فيما تقول شيء من الحقيقة، فإن كان البؤس قد هبط على صاحبه بتلك الحكمة، ثم
كان سببًا في امتيازك من بين المترفين بتلك النعمة، سألت الله أن يزيد وفرك من
هذا البؤس حتى يتم الكتاب على نحو ما ابتدأ، وأن يجعلك في بؤسك أغنى من
أهل الثراء في نعيمهم، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده
هذا وإن مدح حافظ للأستاذ الإمام واتصاله به هو الذي فجَّر ينابيع الحكمة في
شعره، وكان أكبر أسباب شهرته به، بما جعل أكثر شعره في الشؤون الاجتماعية
والسياسية والأفكار الأدبية النافعة، كما كان سبب انتفاعه المادي بأدبه وشعره،
فالإمام هو الذي وصله بصديقه أحمد حشمت باشا عاشق العربية وآدابها، ووصاه
بمساعدته إذ كان مديرًا لأسيوط ثم للدقهلية، وحشمت باشا رحمه الله هو الذي تبرع
له بطبع الجزء الأول من ديوانه، والجزء الأول من كتاب البؤساء ووزع له هو
وغيره من أصدقاء الإمام ألوفًا من نسخهما، ثم لما صار وزيرًا للمعارف جعل له
وظيفة كتابية في دار الكتب المصرية العامة، ومنح بسعيه الرتبة الثانية، فعاش
بعد ذلك عيشة راضية، وإن ظل يتمثل بالبيت الذي يصفها بالذبذبة.
كان حافظ يتمنى لو يكون غنيًّا بغير أدنى عمل يعمله للغنى، فهو لم يكن يقدر
على احتمال أدنى تعب أو مشقة في عمل ما؛ وإنما كانت فلسفته في الحياة أن
يكون ناعم البال، طيب الطعام والشراب، دائب الفكاهة والدعابة مع الأصدقاء،
ولولا أنه كان يعشق الأدب عشقًا لما قرأ فيه كتابًا، ولما نظم بيتًا ولا نمق خطابًا،
وقلما كان أحد من الأغنياء ممتعًا بنعمة العيش مثله، ولو أوتي من الرزق أضعاف
ما أوتي لأنفقه كله في سبيل الرفاهة وبلهنية العيش، وكان يحفظ من النكات والملح
والنوادر والتنادر ما لا حد له ينتهي إليه، على ما يحفظه من روائع الشعر وبدائع
النثر، مما لو جمعه في الدفاتر لكان له منه ثروة واسعة.
وقد أوتي من قوة الحفظ وسرعة الاستحضار للمحفوظ وبطء النسيان أو عدمه
ما يذكرنا برواة اللغة وحفَّاظ الحديث، فلو أنه عُني بالحفظ والرواية لأعاد لمصر
عهد الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله، وكان يحفظ كل ما ينظم وينثر
ويترجم ككتاب البؤساء، وما أراه حفظ من كتاب الاقتصاد السياسي الذي ترجمه
هو وزميله خليل بك مطران شيئًا إلا أن يكون بعض المفردات أو الجمل التي
اهتدى هو إلى تعبير عربي عنها غير معروف، ولو كان له رغبة لذة في حفظه لما
شقَّ عليه حفظه على كبره، وإن كان فنًّا لا أدبًا.
وكان حافظ قوي الاستقلال العقلي والوجداني، لا يقبل ولا يسلِّم ما لا يعقله
ويرتاح له وجدانه، لهذا كان ينكر في نفسه أمورًا كثيرة من عقائد الدين، فكان مما
استفاده من معاشرة الأستاذ ولا سيما صحبته في سفره إلى الدقهلية لتوزيع الإعانات
على منكوبي حريق ميت غمر أن استل الإمام من قرارة نفسه تلك الشكوك والريب
وهو ما حدثنا به بعد عودتهما، قال: ولم يقنع مني بالإيمان إلا وحاول حملي على
الصلاة حتى صلاة الفجر في الغلس، فكنا نسهر في دار أحمد حشمت باشا في
المنصورة أكثر الليل وننام في حجرتين متجاورتين، فأستيقظ بسماع حركته في
آخر الليل وقيامه للتهجد، وبعد طلوع الفجر يطرق علي باب حجرتي ويقول:
يا راقد الليل إلى كم تنام؟ قم للصلاة، فقلت له بصفة المازح: يا مولاي إنني لا
أستطيع حمل الدين كله علمه وعبادته في سفرة واحدة، كنت ملحدًا فآمنت وصدقت
بجميع عقائد الإسلام في هذه المرة، ولك علي في سفرة أخرى أن أحافظ على جميع
الصلوات، وقد ذكرت حافظًا في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام ١٢ مرة أو
أكثر.
وأما شعره فقد كتب الكاتبون في الصحف شيئًا في وصفه، وما كان يزينه من
حسن إنشاده، وحسبي أن أشير إلى ما كنت كتبته في تقريظ ديوانه الأول عند طبعه،
وهو أنه أصح منظوم هذا العصر لغة في مفرداته المختارة وجمله الفصيحة
وجمعه بين السلاسة والمتانة، فهو يفضل شعر أحمد شوقي بك في هذا دون جمال
التخييل وقوة التأثير الذي هو روح الشعر، فبهذا يبز شوقي جميع شعراء العصر،
على تفاوت في شعره وتعقيد معنوي في بعض أبياته تحول دون فهمها فهمًا صحيحًا
من أول وهلة، فمحمد حافظ إبراهيم من الأدباء الذين يخلد اسمهم التاريخ رحمه الله
تعالى وأحسن مثواه.