للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإسلام والنصرانية
] سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [[١]
كتب إلينا من بيروت أن مجلة المشرق الجِزْوِيتِيَّة قد صارت تصرح بالطعن في
الإسلام؛ إذ زالت الحكومة العثمانية التي كانت تمنعها من التصريح، فتتوارى
أحيانًا وراء ما يحتمل التأويل من تعريضٍ وتلويحٍ، ورغبوا إلينا في الرد عليها؛
لأن الدفاع عن الإسلام من أهم مقاصد (المنار) ويرون أن السكوت عنها ربما
يُفضي إلى التمادي الضارّ، ولما كانت أعمالنا الكثيرة لا تترك لنا وقتًا لمطالعة هذه
المجلة كلها للاطِّلاع على كل ما تنشره - نطلب منهم أن يبينوا لنا ذلك الطعن بنقله،
أو تعيين مواضعه من أجزائها.
هذا، وإن دعاة البروتستانية في مصر، وغيرها لا يزالون ينشرون النشرات،
والرسائل الكثيرة في الطعن في الإسلام، والتنفير عنه، والدعوة إلى دينهم،
حتى مللنا من النظر فيها لتشابُهها في الضعف، والسخف، والتكرار، وهذا هو
سبب سكوتنا عنهم في هذه الآونة، مع رفع المراقبة عن الصحف، لا إيذاؤهم لنا
بما نجحوا به من منع المنار من دخول السودان الذي قام حجة على رياء الإنكليز
المتبجِّحين بدعوى حرية الأديان.
وقد صرحنا من قبل بأننا لا نرى في هذه المطاعن ضررًا على المسلمين في
نفس دينهم، ولا في استمالتهم إلى النصرانية، بل هي أشد ما ينفرهم من
النصرانية، ويزيد العارفين بدينهم اعتصامًا به ومحافظة عليه، وإنما يُخشى منها
إحدى مفسدتين:
(الأولى) فساد عقيدة بعض المسلمين، وصيرورتهم منافقين أو إباحيين.
(والثانية) أن تكون سببًا للتعادي والتباغض الضار بين أبناء الوطن الواحد؛
فلهذا نذكِّر إخواننا في سورية بأنه ينبغي لهم أن يوطنوا أنفسهم على حرية البحث،
والنقد، واحتمال أذى الطعن، والرد، وأن لا يجعلوا المناظرات الكلامية مؤثرة
في العلاقات الوطنية، وأن يعلموا أن حرية البحث إذا كانت عامة فإن الفلج والظفر
فيها إنما يكون لصاحب الحق، ولا سيما إذا التزم الأدب في القول والفعل، وأن
الإسلام هو دين الفطرة والعلم والعقل، وأن النصرانية الحاضرة مبنية على
وجوب التقليد للكنيسة بلا معارضةٍ، ولا بحث، وأن من يتركون التقليد من أهلها،
ويناقشون الكنيسة في تعليمها، ويطالبونها أو يطالبون أنفسهم بالدليل، واستقلال
العقل في فهم الدين - فإنهم لا محالة ينتهون إلى ما جاء به الإسلام، سواء علموا
أو لم يعلموا تلك الحقائق التي قررها القرآن، وهذا واقع في بعض البلاد الأوربية
الآن كما يعلم ذلك من الشاهد الذي ننقله هنا عن جريدة (الديلي تلغراف) ،
وسينتهي التمادي في أمثال هذه المباحث إلى عقيدة التوحيد، والرجوع عن التثليث
وتأليه المسيح، والأخذ فيه بما قرره القرآن وتعميم الاهتداء به في كل مكان،
والنجاة به من مساوئ المادية، ومفاسد الشيوعية، وينجز الله وعده الحق بقوله:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: ٥٣)
وإن المقدمات والأسباب لذلك قد صارت كثيرة، وإن منها ما هي صحيحة، وما
هي غير صحيحة، وسيمتاز الصريح بتكرار المخض، فيذهب الزبد، ويبقى
المحض: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: ١٧) .
كتب رجلٌ مسلمٌ بصيرٌ يقيم في أوربة - مراقب لتطوُّرها الديني والأدبي
والاجتماعي - كتابًا إلى صديقٍ له، قال فيه:
(أعرفك أن مسألة ألوهية المسيح أصبحت في بلاد الإنكليز موضوعًا لأهم
المباحثات والمناقشات بين المفكرين المشتغلين بالمسائل الدينية والفلسفية، ولا سيما
رجال الإكليروس الإنجليكاني، كما يتضح ذلك مما يُنشر في هذه الأيام الأخيرة
على صفحات الجرائد الإنكليزية، وإنِّي أرسل إليك طيّ هذا نموذجًا لهذه المناقشات
اقتطفناه من جريدة) الديلي تلغراف (وإني على تمام اليقين من أن الإنكليز
والأمريكان سيرجعون في القريب العاجل عن (عقيدتي) التثليث، وألوهية المسيح،
كما رجعوا من قبل عن كثيرٍ من مثلهما من ... و... [٢] ، التي كان ينهى عن
مثلها الإسلام هم بها متمسكون.
فيا أيها الأخ الحكيم إذا صرفتَ نظرك برهة عن مسرح السياسة العالمية
الذي أخذ بلُبّك، وتوجهت إليه بكل قُواك وحواسك، وتأملت مليًّا فيما يدور ويجري
في الخفاء بين الجماعات البشرية في الغرب - يظهر لك أن الشرق المغلوب
المقهور الذي يئنُّ تحت نير الظلم والاستبداد الغربي، هو مع ذلك يهاجم في هذه
الآونة العالم المسيحي من جميع الأنحاء بجيوشٍ جرَّارةٍ تفوق جيوش صدر الإسلام
قوةً، وفيالق آل عثمان عندما دوَّخوا أوربة بأسًا، ولكنها في هذه المرة ليست
مسلحة بالسيف البتَّار، بل بأسلحةٍ معنويةٍ مثل الفلسفة الهندية والمبادئ الصوفية
والتعاليم البهائية، والمذاهب التيوسوفية، والإنترويوسوفية وغير ذلك من الأفكار
والمبادئ الروحانية التي تتسرب كل يوم بطريقةٍ غير محسوسةٍ إلى أذهان الغرب
وقلوب أبنائه، من حيث لا يشعرون.
ولا بد أن يأتي يوم - إخاله قريبًا - يفتح فيه الشرق الغرب فتحًا معنويًّا
مبينًا، فيقوم أهله قومة صادقة، يكسرون بأيديهم تماثيلهم و... يهدمون كنائسهم؛
و ... ليقيموا مكانها المعابد الحقيقية التي لا يُعبد فيها إلا الواحد القهار طبقًا لشريعة
سيد الأنام محمد عليه الصلاة والسلام، فطُوبَى لمَن يعيش ويرى يومًا يتعانق فيه
الشرق والغرب، ويصبح عباد الله إخوانًا في التوحيد والإسلام) .
وهذه ترجمة ما اقتطفه الكاتب من جريدة (الديلي تلغراف) :
***
علاقة المسيح بالله
كمبريدج لمراسلنا الخاص بتاريخ ١٣-٨-١٩٢١
إن درجة ابتعاد اللاهوتيين العصريين عن العقائد التقليدية الموروثة قد ظهرت
اليوم ظهورًا واضحًا في مؤتمر رجال الكنيسة، فقد تكلم ذو الاحترام الكلي
(هاستنس راشدول) مطران كارليل في مسألة (المسيح كلمة الله وابنه) ، فقال: إن
الطلب يزداد على اللاهوتيين الأحرار [٣] ؛ ليوضحوا بعبارات صريحة ما يقصدونه
حقيقة، عندما يستعملون العبارات التقليدية عن ألوهية المسيح. وبدأ الدكتور
(راشدول) يبحث في السؤال من وجهته السلبية فقال: إن المسيح لم يدَّعِ الألوهية
لنفسه، نعم، إنه ربما دعا نفسه أو تسامح على الأرجح بأن يُدعَى مسيَّا [٤] أو ابن
الله، ولكن لم يَرِدْ في الأقوال الثابتة عنه شيءٌ يدل على أنه كان يرى علاقته بالله
غير علاقة رجل بالله. وهي العلاقة التي كان يريد أن يستشعرها كل إنسانٍ،
فيستخرج من هذا القول أن المسيح كان إنسانًا بكل معنى الكلمة، ولم يكن إنسانًا
بجسمه فقط، بل كانت نفسه وعقله، وإرادته إنسانية أيضًا، ولم تكن تعترف
الكنيسة بذلك دائمًا، وإن كان كثيرون من الآباء اليونانيين (كادانايوس،
وأثناسيوس) [٥] قد تمثلوه كلمة الله مقيمة في جسمٍ بشريٍّ، وأنكرت المجامع التي
عُقدت بعد ذلك هذا التعريف بزعامة أبوليناريوس، ولا يمكن الغلو في أن يؤكد من
نقطة النظر اللاهوتية بعد ذلك أن أثناسيوس كان من مذهب (أبوليناريوس) ،
وأخشى أن يكون كثير من الناس - الذين يظنون أنهم مستقيمو الرأي - ليسوا سوى
أبوليناريين.
وقد عرفت كثيرًا من الكاثوليك المتنوِّرين يجهلون أن الكنيسة تعلم أن للمسيح
نفسًا بشرية؛ فكثير مما يسمى استقامة في الرأي ليس سوى أبولينارية، وبعض
المدافعين عن العقائد الكاثوليكية الواقفين عليها وقوفًا يحُول دون جعْلهم أبوليناريين
صريحين - هم في الحقيقة تحت تأثير تلك المبادئ في شكلها الأخير المعدل الذي
ينكر أن المسيح كان ذا إرادةٍ بشريةٍ.
ثم قال: وليس من الاستقامة في الرأي ألبتة أن يُفرض أن نفس المسيح
البشرية كانت موجودة من قبل؛ إذ لا أساس لعقيدة كهذه، فمنذ قبلت الكنيسة مبدأ
كون المسيح كلمة الله تعين أن الذي كان موجودًا في ما سبق هو الكلمة الإلهية لا
المسيح البشري. إن ألوهية المسيح لا تتضمن بالضرورة الولادة من عذراء أو أي
معجزة أخرى، فالولادة من عذراء إذا أمكن إثباتها تاريخيًّا لا تكون مظهرًا لألوهية
المسيح، ولا يوقع عدم إثباتها ريبًا في تلك العقيدة، كما أن ألوهية المسيح لا
تتضمن أن يحيط بكل شيءٍ علمًا، ولم تبقَ حاجة للكلام في هذا الموضوع بعد
ظهور الخطب التي ألقاها المطران (بخور) في (بامبتون) ، بالرغم من كون
عقيدة تحديد علم المسيح لم ترسخ بعدُ في أذهان العامة.
إن النظريات الحديثة في اليوم الآخر قد زادت في ضرورة التسليم بأن ذلك
التحديد يجب أن يكون أعظم مما ذكره المطران (غور) ومَن على رأيه. وعلى
فرض أنهم جعلوا الأقوال الثابتة عن المسيح في اليوم الآخر أقل ما يمكن - وهذا ما
كان المطران نفسه يميل إلى فعله - فمن الصعب إنكار أن المسيح كان يتوقع
حدوث أشياء في المستقبل لم يحققها التاريخ، فما حقيقة الرأي العصري إذن في
العلاقة بين الله والإنسان؟ هو أن الإنسان ليس خليقة لله يتسلَّى بها، وأن جميع
العقول نسخة في شكلٍ محدود عن العقل الإلهي، وأن في جميع التفكُّرات البشرية
الصحيحة نقلاً عن الفكر الإلهي، وأن في أسمى المقاصد التي يعترف بها الضمير
البشري جلاءً للمقصد السامي الخالد في الفكر الإلهي - هذه هي الفروض التي
يمكن أن يفسَّر بها وحدها معنى تلك العقيدة، وإذا كنا نعتقد أن كل نفس بشرية تنقل
عن الله وتجلوه وتجسده إلى درجة معينة، وإذا كنا نعتقد أن الله يتجلى لكبراء
معلمي الآداب في البشر، ولزعماء الدين، ومؤسسي الأديان، ومصلحيها أكثر مما
يتجلى لسواهم - فمن الممكن إذن أن نعتقد أن شخصًا واحدًا كالمسيح امتاز عن
سواه في علاقته الشخصية بالله، فكانت ساميةً فريدةً رفيعةً عن سواها، وأن
صفات المسيح وتعاليمه تحتوي على خير ما يتجلى من صفات الله نفسه وإرادته في
البشر، هذا هو المعنى الحقيقي الذي نفهمه من ألوهية المسيح [٦] .
***
شعور المسيح
وتلاه القس هـ. د. أ. ماجور رئيس ريبون هول (أكسفورد) وخص
كلامه بنظرية (المسيح في البنوَّة الإلهية) ، فقال: إن من المشاكل العويصة في
نقد الإنجيل معرفة ماهية رأي المسيح نفسه في بنوته لله، إنه قد ذكر بصراحةٍ تامةٍ
أنه لا يعتبر مهمته سياسية، وقد خدم الأستاذ (ليك) الإنجيل خدمةً حقيقيةً بإظهاره
ما في تعاليم المسيح من الصفات المعارِضة للسياسة تجاه الدعوة السياسية التي كان
يبثّها المتعصبون، كان المسيح يعتبر أنه هو (مسيا) ، ويعتقد أنه وكيل مملكة،
ولكن لم تكن له علاقة بالسياسة بالمعنى المفهوم من سياسة مملكة؛ لأنه كان
معارضًا لنظريتها الاقتصادية.
ثم تناول الخطيب مسألة ما إذا كان المسيح ادَّعى أنه كان ذا شعور ومعرفة
سابقين لوجوده، كما مثبت في الإنجيل الرابع، فقال: إنه يرى أنهم اليوم
يستطيعون أن يصرحوا أن شعور المسيح كان شعورًا بشريًّا تامًّا، تاركا مسألة
الشعور السابق الوجود بدون حل، وأنه ليس فيه من خوارق الطبيعة، والمعجزات
ما لا يمكن أن يُعزَى إلى سواه من البشر، وأما كونه ابن الله فقد سوَّغ لهم أن
يدعوه (إلهي) ، كما دُعي في الإنجيل الرابع؛ فإن القس ماجور يظن أن لغة
المحبة، والتعظيم تسمح بذلك، ولكن مثل هذا التعبير لم يقره المسيح، ولا يظن
أن المسيح كان يهتم بما كان يلقَّب به. ولا شك في أن الذين لم يعرفوا المسيح
بالاسم، ولكن أظهروا للناس روح الخدمة والتضحية - التي هي روح المسيح -
أقرب إليه من الذين لم يُظهروا روحه في شؤون حياتهم اليومية، وإن كانوا
متمسكين بأعظم الآراء غلوًّا في شخص المسيح اهـ ما جاء في رسالة (الديلي
تلغراف) ومن الظاهر البيِّن منه أنهم يرجعون فيه إلى التحقيق والإصلاح الذي
بيَّنه الله لعباده على لسان روح الحق الذي بشر به المسيح، وقال: إنه يعلِّمهم كلَّ
شيءٍ، والحمد لله رب العالمين.