فصل وأما المؤاخاة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة، كما آخى بين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة حتى أنزل الله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (الأنفال: ٧٥) ، فصاروا يتوارثون بالقرابة، وفي ذلك أنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوَهُمْ نَصِيبَهُمْ} (النساء: ٣٣) ، وهذا هو المحالفة، واختلف العلماء هل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ؟ على قولين: (أحدهما) : أن ذلك منسوخ وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، ولما ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال: (لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة) (والثاني) : أن ذلك محكم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه. وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال: إنه آخى بين أبي بكر وعمر وأنه آخى عليًّا ونحو ذلك فهذا كله باطل، وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل بمكة، وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة، وذلك نقل ضعيف: إما منقطع وإما بإسناد ضعيف، والذي في الصحيح هو ما تقدم من تدبر الأحاديث الصحيحة والسيرة النبوية الثابتة تيقن أن ذلك كذب. وأما عقد الأخوة بين الناس في زمامنا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله: ( {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه) ، وقوله: (لا يبيع أحدكم على بيع أخيه، ولا يستام على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه) ، وقوله: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه) ، ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة. وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين والأنصار، فهذه فيها للعلماء قولان بناءً على أن ذلك منسوخ أم لا، فمن قال: إنه منسوخ - كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه - قال: إن ذلك غير مشروع، ومن قال: إنه لم ينسخ - كما قال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى - قال: إنه مشروع. وأما الشروط التي يلتزمها كثير من الناس في السماع وغيره مثل أن يقول على المشاركة في الحسنات: وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه. ونحو ذلك، فهذه كلها شروط باطلة، فإن الأمر يومئذ لله، هو {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً} (الانفطار: ١٩) ، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: ٩٤) . وكذلك يشترطون شروطًا من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها، وما أعلم أحدًا ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ما شرطه الله ورسوله وفى بها، بل هو كلام يقولونه عند غلبة الحال، لا حقيقة له في المآل. وأسعد الناس من قام بما أوجبه الله ورسوله فضلاً عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك، وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع، والله أعلم. ... قاله ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد بن تيمية الحراني ... ... *** كتاب ابن تيمية إلى الشيخ نصر المنبجي الصوفي (قال الراوي) : كتاب كتبه الشيخ الإمام وحيد دهره، وفريد عصره، علامة زمانه، ناصر السنة، مؤيد الشريعة، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني، فسح الله تعالى في مدته، وأعاد علينا من بركته، إلى الشيخ القدوة أبي الفتح نصر المنبجي سنة أربع وسبعمائة: بسم الله الرحمن الرحيم من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر، فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته، وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته، حتى يظهر للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية، وبين المؤمنين الصادقين الصالحين، ومن تشبه بهم من المنافقين، كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته. (أما بعد) : فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ، وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا منزلة علية، ومودة إليه لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد، فإن العلم والإرادة، أصل لطريق الهدى والعبادة، وقد بعث الله محمد - صلى الله عليه وسلم - بأكمل محبة في أكمل معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله - التي هي أصل الأعمال المحبةَ التي فيها إشراك وإجمال، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: ١٦٥) ، وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: ٢٤) . ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني والوجد الديني كما في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث من كن فيه، وجد حلاوة الإيمان في قلبه، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) ، فجعل صلى الله عليه وسلم وجود حلاوة الإيمان معلقًا بمحبة الله ورسوله الفاضلة، وبالمحبة فيه في الله وبكراهة ضد الإيمان. وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً) ، فجعل ذوق طعم الإيمان معلقًا بالرضى بهذه الأصول، كما جعل الوجد معلقًا بالمحبة؛ ليفرق - صلى الله عليه وسلم - بين الذوق والوجد - الذي هو أصل الأعمال الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة - وبين ما أمر الله به ورسوله، وبين غيره، كما قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل؛ إذ كان كل من أحب شيئًا فله ذوق بحسب محبته. ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: ٣١) قال الحسن البصري: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله؛ فطالبهم بهذه الآية، فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الرب عبده. وقد ذكر نعت المحبين في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: ٥٤) ، فنعت المحبين المحبوبين بوصف الكمال - الذي نعت الله به رسوله - الجامع بين منى الجلال والجمال المفرق في الملتين، قلنا: وهو الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله، ولهذا يوجد كثير ممن له وجد وحب مجمل مطلق كما قال فيه كبير من كبرائهم: مشرد عن الوطن ... مبعد عن السكن ... يبكي الطلول والدمن ... يهوى ولا يدري لمن؟ ... فالشيخ - أحسن الله إليه - قد جعل فيه من النور والمعرفة الذي هو أصل المحبة والإرادة ما تتميز به المحبة الإيمانية المحمدية المفصلة عن المجملة المشتركة، وكما يقع هذا الإجمال في المحبة يقع أيضًا في التوحيد، قال الله تعالى في أم الكتاب التي هي مفروضة على العبد، وواجبة في كل صلاة أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: ٢) قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: ١) قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: ٤) ، قال: مجدني عبدي، أو قال: فوض إلي عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) ، قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: ٦-٧) ، قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل) . ولهذا روي أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في القرآن، ومعاني القرآن في المفصل، ومعاني المفصل في أم الكتاب، ومعاني أم الكتاب في هاتين الكلمتين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) وهذا المعنى قد ثناه الله في مثل قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: ١٢٣) ، وفي مثل قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: ٨٨) ، وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرعد: ٣٠) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في نسكه: (اللهم هذا منك وإليك) , فهو سبحانه مستحق التوحيد الذي هو دعاؤه، وإخلاص الدين له دعاء العباد بالمحبة والإنابة والطاعة والإجلال والإكرام والخشية والرجاء، ونحو ذلك من معاني تألهه وعبادته، ودعاء المسألة، والاستعانة بالتوكل عليه، والالتجاء إليه، والسؤال له، ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته، وهو سبحانه الأول والآخر والباطن والظاهر. ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله وفي السؤال باسم الرب، فيقول المصلي والذاكر: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وكلمات الأذان، الله أكبر الله أكبر إلى آخرها ونحو ذلك. وفي السؤال {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: ٢٣) , {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} (نوح: ٢٨) {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلمجرمين} (القصص: ١٧) , {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: ١٦) , {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} (آل عمران: ١٤٧) , {رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (المؤمنون: ١١٨) ونحو ذلك. وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية والقيومية الكاملة الشاملة لكل مخلوق من الأعيان والصفات، وهذه الأمور قائمة بكلمات الله الكونية التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بها، فيقول: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن) فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضًا، ومطلوبه وهو محبوب الحق ومرضيه من التوحيد الإلهي الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله، والأمر بما أمر به، والنهي عما نهى عنه، والحب فيه، والبغض فيه، ومن أعرض عن هذا التوحيد وأخذ بالأول، فهو يشبه القدرية المشركية الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} (الأنعام: ١٤٨) ، ومن أخذ بالثاني دون الأول فهو من القدرية المجوسية الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال العباد ولا شاء جميع الكائنات كما تقول المعتزلة والرافضة، ويقع في (كلام) كثير من المتكلمة والمتفقهة. والأول ذهب إليه طوائف من الإباحية المنحلين عن الأوامر والنواهي، وإنما يستعملون ذلك عند أهوائهم وإلا فهو لا يستمر، وهو كثير في المتألهة الخارجين عن الشريعة خفو العدو (؟) وغيرهم، فإن لهم زهادات وعبادات فيها ما هو غير مأمور به فيفيدهم أحوالاً فيها ما هو فاسد يشبهون من بعض الوجوه الرهبان وعباد البدود [١] . ولهذا قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه: كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والولي من يكون منازعًا للقدر لا من يكون موافقًا له، وهذا الذي قاله الشيخ تكلم به على لسان المحمدية [٢] ؛ أي: إن المسلم مأمور بأن يفعل ما أمر الله به، ويدفع ما نهى الله عنه، وإن كانت أسبابه قد قدرت، فيدفع قدر الله بقدر الله كما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: (إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض) ، وفي الترمذي قيل: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها ورُقًى نسترقي بها وتقىً نتقيها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: (هن من قدر الله) [٣] وإلى هذين المعنيين أشار الحديث الذي رواه الطبراني أيضًا عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: (يقول الله: يا ابن آدم إنما هي أربع: واحدة لي، وواحدة لك: وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي؟ فأما التي لي: فتبعدني لا تشرك بي شيئًا، وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي هي بيني وبينك فمنك الدعاء وَعَلَيَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأتِ إلى الناس بما تحب أن يؤتوه إليك) . ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الإلوهية والربوبية أو توحيد أحدهما للعبد فيه ثلاث مقامات: (أحدها) مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات , (والثاني) مقام الجمع والفناء، بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن حبه، فهذا فناء عن إدراك السوى، وهو فناء القاصرين. وأما الفناء الكامل المحمدي فهو الفناء عن عبادة السوى والاستعانة بالسوى وإرادة وجه السوى، وهذا في الدرجة الثالثة، وهو شهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، فيشهد قيام الكائنات مع تفرقها بإقامة الله تعالى وحده وربوبيته، ويرى أنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وأنه على كل شيء وكيل، وأنه رب العالمين، وأن قلوب العباد ونواصيهم بيده، لا خالق غيره ولا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع ولا حافظ ولا معز ولا مذل سواه، ويشهد أيضًا فعل المأمورات مع كثرتها وترك الشبهات [٤] مع كثرتها لله وحده لا شريك له. وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء، والإسلام العام والإيمان العام، وبه أنزلت السور المكية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣) وبقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: ٤٥) ، وبقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: ٣٦) ؛ ولهذا ترجم البخاري عليه (باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد) . وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٦٢) ، فجمع في الملل الأربع {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً} (البقرة: ٦٢) ، وذلك قبل النسخ والتبديل، وخص في أول الآية المؤمنين وهو الإيمان الخاص الشرعي الذي قال فيه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: ٤٨) ، والشرعة هي الشريعة، والمنهاج هو الطريقة، والدين الجامع هو الحقيقة الدينية، وتوحيد الربوبية هو الحقيقة الكونية، فالحقيقة المقصودة الدينية الموجودة الكونية متفق عليها بين الأنبياء والمرسلين. فأما الشرعة والمنهاج الإسلاميان فهو لأمة محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: ١١٠) ، وبها أنزلت السور المدنية؛ إذ في المدينة النبوية شرعت الشرائع، وسنت السنن، ونزلت الأحكام والفرائض والحدود. فهذا التوحيد هو الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين، لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى، والسكر وجد بلا تمييز، فقد يقول في تلك الحال: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء. وكلمات السكران تطوى ولا تروى ولا تؤدى، إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه. فأما إذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا، لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني، فسكر الأجسام بالطعام والشراب، وسكر النفوس بالصور، وسكر الأرواح بالأصوات. وفي مثل هذا الحال غلط من غلط بدعوى الاتحاد والحلول العيني في مثل دعوى النصارى في المسيح، ودعوى الغالية في علي وأهل البيت، ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر أو غيرهما، وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي. فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله تعالى وسلم - قال: (يقول الله: عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أنه مرض عبدي فلان فلو عدته لوجدتني عنده. عبدي! جعت فلم تطعمني، فيقول: ربي كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي) ، ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أن جوع عبده ومحبوبه لقوله: (لوجدت ذلك عندي) ، ولم يقل: لوجدتني قد أكلته، ولقوله: (لوجدتني عنده) ، ولم يقل: لوجدتني إياه؛ وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه؛ بحيث يرضى أحدهما بما يرضاه الآخر، ويأمر بما يأمر به، ويبغض ما يبغضه، ويكره ما يكرهه، وينهى عما ينهى عنه. وهؤلاء هم الذين يرضى الحق لرضاهم ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق في هؤلاء محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولهذا قال تعالى فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح: ١٠) ، وقال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} (التوبة: ٦٢) ، وقال: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: ٨٠) . وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة إن صح أن المسيح قالها فهذا معناها كقوله: (أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي) ، ونحو ذلك بها ضلت النصارى، حيث اتبعوا المتشابه كما ذكر الله عنهم في القرآن، لما قدم وفد نجران على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ناظروه في المسيح. وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: (من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، في يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي) ، فأخبر في هذا الحديث أن الحق سبحانه إذا تقرب إليه العبد بالنوافل المستحبة التي يحبها الله بعد الفرائض أحبه الحق على هذا الوجه. وقد غلط من زعم أن هذا قرب النوافل، وأن قرب الفرائض أن يكون هو إياه، فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، فهذا القرب يجمع الفرائض والنوافل. فهذه المعاني وما يشبهها هي أصول مذهب أهل الطريقة الإسلامية أتباع الأنبياء والمرسلين. وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية، وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتابًا اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارة لطيفة إلى حال هؤلاء، ولم يكن القصد به والله واحدًا بعينه، وإنما الشيخ هو مجمع المؤمنين فعلينا أن نعينه في الدين والدنيا بما هو اللائق به، وأما هؤلاء الاتحادية فقد أرسل إلى الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم. وقد كتبت في ذلك كتابًا ربما يرسل إلى الشيخ، وقد كتب سيدنا الشيخ عماد الدين في ذلك رسائل والله تعالى يعلم وكفى به عليمًا. لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى السالكين إليه من أعظم الواجبات - وهو شبيه بدفع التتار عن المؤمنين - لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تكتشف أسرار الطريق وتهتك أستارها، ولكن الشيخ - أحسن الله تعالى إليه - يعلم أن مقصود الدعوة النبوية بل المقصود بخلق الخلق وإنزال الكتب وإرسال الرسل أن يكون الدين كله لله، هو دعوة الخلائق إلى خالقهم بما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} (الأحزاب: ٤٥- ٤٦) ، وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: ١٠٨) وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: ٥٢-٥٣) ، وهؤلاء موهوا على السالكين التوحيد الذي أنزل الله تعالى به الكتب، وبعث به الرسل بالاتحاد الذي سموه توحيدًا، وحقيقته تعطيل الصانع وجحود الخالق، وإنما كنت قديمًا ممن يحسن الظن بابن عربي، ويعظمه لما رأيت في كتبه من الفوائد: مثل كلامه في كثير من الفتوحات، والكنة، والمحكم المربوط، والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم، ونحو ذلك، ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصودة، ولم نطالع الفصوص ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا، فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون، وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء وجب البيان، وكذلك كتب إلينا من أطراف الشام رجال سالكون، أهل صدق وطلب، أن أذكر النكت الجامعة لحقيقة مقصودهم، والشيخ - أيده الله تعالى بنور قلبه، وذكاء نفسه، وحق قصده من نصحه للإسلام وأهله ولإخوانه السالكين - يفعل في ذلك ما يرجو به رضوان الله سبحانه، ومغفرته في الدنيا والآخرة. (له بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))