للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


] فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [[*]
(تابع ما قبله)
(إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء، الأحياء منهم
والأموات وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في
شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده
أناس من العلماء شركًا، وأن لا يُكِنُّه فهو قريب منه، ولا أرى أحدًا ممن يقول ذلك
إلا وهو يعتقد أن المدعو - الحي الغائب أو الميت المغيب - يعلم الغيب أو يسمع
النداء، ويقدِر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه ولا فتح
فاه. وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم. فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من
الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد.
ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي -
صلى الله تعالى عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق رضي الله تعالى
عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - من هذا المنافق،
فجاءوا إليه فقال: (إنه لا يُستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى) لم يشك في أن
الاستغاثة بأصحاب القبور الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن
الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن
إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل ناديه - أمر يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول
ارتكابه. ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تُقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك
ابتلاء وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث
به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات، إنما هو شيطان أضله
وأغواه، وزين له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام
... إلخ) . اهـ.
أقول: إن شياطين الأوهام والخيالات كافية لخداعهم بكل ما ذكر، ويوجد مثل
ذلك عند جميع الأمم والملل، ومَن قرأ التاريخ وكتب الأديان رأى من أمثال
الحكايات التي يتناقلها هؤلاء عن شيوخهم شيئًا كثيرًا، ولو روعيت في نقلها شروط
رواية الحديث لم يكد يثبت منها شيء. هذا وإن ما أورده هذا المفسر الواسع
الاطلاع في الآية مغنٍ عن البحث في غيرها.
وأما قوله تعالى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: ٥٧) فمعناها كما عليه جماهير المفسرين: أن أولئك الآلهة الذين
يدعونهم - أي يعبدونهم أو ينادونهم لكشف الضر عنهم - يبتغون إلى ربهم الوسيلة
أيهم أقرب، أي القربة بالطاعة والعبادة، وأيهم أقرب معناه: من هو أقرب منهم
يطلب الوسيلة إلى الله تعالى، كسيدنا عيسى (عليه الصلاة والسلام) فكيف بالأبعد.
وجوز الحوفي والزجاج: أن (أيهم أقرب) في محل نصب (يبتغون) والمعنى:
يبتغون أيهم أقرب فيتوسلون به، أي بدعائه لا بذاته، كما قال المحقق الآلوسي،
وهذا التجويز إنما هو من حيث وجوه الإعراب، لا أنه متبادر من اللفظ أو مأثور
عن السلف فيحتج به، لا سيما في الاعتقاد، ومع ذلك فقد تعقبه في (البحر) بأن في
إضمار الفعل المعلق نظرًا، قال: ومع هذا هو وجه غير ظاهر. وصاحب الرقيم قد
حرف الكلم عن مواضعه، وتعدى على كتاب الله، وافترى على رسوله وعلى
السلف الصالح، حيث قال ما نصه: (أمر الله تعالى بابتغاء الوسيلة، وفسرها
تعالى في الآية الآخرى، أعني قوله: يبتغون أيهم أقرب فيتوسلون به إلى الله تعالى،
وهو عام سواء كان التوسل بدعائه أو بشفاعته أو بجاهه أو بكرامته أو بذاته في حياته
وبعد مماته، ولكلٍّ شاهد من الكتاب وصحيح الأخبار والآثار عن السلف الصالح) .
اهـ.
نعوذ بالله من الجرأة على الله ورسوله، والتلاعب في الدين بمحض الهوى.
إذا كان عند هذا الجاهل المنحرف آيات قرآنية وأحاديث صحيحة على
التوسل بذوات الأموات والأحياء تشهد لما أخذه من وجه الإعراب الضعيف المردود
الذي اتخذه عقيدة فما باله لم يأتِ بها؟ !
وأما قوله تعالى {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: ٥) فقد قال بعضهم: يحتمل
أن تكون المدبرات: الأرواح بعد انفصالها من الجسد، وفسروه بأن الإنسان قد يرى
أباه في المنام فيرشده إلى شيء مفيد أو يرى شيخه فيحل له مسألة عويصة،
ومثل هذا واقع استشهدوا له بما ينقل عن جالينوس أنه مرض فرأى في المنام
من أرشده إلى علاج فتناوله في اليقظة فبرئ من مرضه.
وقد اعترف المفسرون بأن هذا الاحتمال لم يرد في خبر نبوي ولا أثر سلفي،
وأوردوه بصيغة الضعف، فهل يصح أن نمده مد الأديم، ونضيف إليه الإضافات،
ونلحق به الملحقات التي انتحلتها الأوهام والخيالات، ونجعل ذلك كله عقيدة دينية
ونقول {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} (الزخرف: ٢٢) {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (الأعراف
: ٢٨) حاش لله! لا تؤخذ العقائد من الاحتمالات، ولا يُستدل عليها بالأحلام
والمنامات.
هذا ما يحتمله المقام من الكلام على الآيات. وأما الأحاديث فليس في الباب إلا
حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله تعالى عنهما، وهو حجة على صاحب
الرقيم ومَن على رأيه ومذهبه من وجهين:
(الأول) : قول عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم،
وإننا لنتوسل بعم نبينا فاسقنا، فهو دليل على أن المراد بالتوسل طلب الدعاء من
الحي، كما نقلنا ذلك في تفسير الآلوسي، ولو صح التوسل بالذات لما عدل عمر
عن التوسل بالنبي - وذاته الشريفة موجودة - إلى التوسل بعمه العباس، على أن
وقائع الأحوال يعروها الاحتمال، فيكسوها ثوب الإجمال، فيسقط بها الاستدلال،
كما قال الأصوليون، وذلك بالنسبة للأحكام التي يكتفى فيها بالأدلة الظنية، فما بالك
بالعقائد التي تبنى على البراهين اليقينية.
(الثاني) : قول العباس رضي الله تعالى عنه في دعائه على ما في رواية
الزبير بن بكار: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة) إلخ، وهو
نص صريح في أن كشف البلاء لا يكون إلا بتوبة من خلاف الشريعة الإلهية الذي
أوجب البلاء والرجوع إلى العمل بها، والنفي يشمل التوسط الذي ما أنزل الله به من
سلطان، ولو شئنا لنأتين بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنفي الوسائط
الشركية والشفاعات الوثنية، وإن كادت تكون غير محصية، لكن من لا يقنعه
القليل لا يقنعه الكثير، والمدار على التربية العملية والتعليم.
هذا وإن سابق كلامنا ولاحقه لم يُبنَ على إنكار الكرامات، ولا على نفي
شفاعة الأصفياء في الآخرة، وصرحنا بأن زيارة قبور الصالحين فيها من الفائدة
والاعتبار ما ليس في زيارة سائر القبور، وهو الذي عبر عنه الغزالي بالبركة،
وقد فسرناها تفسيرًا معقولاً في العدد (٢٢) وأن هذه الفائدة أو البركة إنما تحصل
لأهل القلوب المتفقهة والعزائم الصادقة، ولكن كثيرًا من الناس لا تطمئن قلوبهم
بالتوحيد الخالص لله تعالى، وإنما يلوكونه بألسنتهم، ولا تنشرح صدورهم لأن
يعبدوه مخلصين له الدين حنفاء، ولذا اتبعوا سنن من قبلهم حتى في النزغات
الوثنية وتحريف الكلم عن مواضعه، فضلوا كثيرًا وأضلوا عن سواء السبيل،
ومحوا مزايا الإسلام وخصائصه، فصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، إنا لله
وإنا إليه راجعون.