للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خليج العقبة الحجازي وطمع الإنكليز فيه

خليج العقبة أعظم ثغر لدار الإسلام الأولى في جزيرة العرب التي بناها
رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه، وأوصاهم في مرض موته بأن لا يبقى
فيها دينان، ومهد السبيل لفتح سياجها الشمالي بإسرائه إلى المسجد الأقصى وغزوته
لتبوك، وأتم عمله خليفتاه أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما بفتح بيت المقدس،
والشام، فهذا الثغر الحجازي هو الحَلْْْق الذي يدخل منه إلى جوف هذه الدار، والخط
الممتد منه إلى معان، وتبوك فالشام، فالعراق هو حبل الوريد لحياة هذه الدار،
ولم يكتف الإنكليز بالسيطرة على فلسطين وشرقي الأردن باسم الانتداب حتى أرادوا
التوسل بذلك إلى السيطرة الحربية والتجارية على هذا الثغر وهذا الخط؛ لتكون حياة
الحجاز ونجد في قبضتهم مع القسم الشمالي من دار الإسلام حتى لا يبقى للإسلام
دار مستقلة، واستعمالهم لعلي وعبد الله ابني الملك حسين لهذه السيطرة ومنازعة
الملك عبد العزيز بن السعود لهم فيها معروفة، وتأجيل الفصل في هذا النزاع إلى
مفاوضة ثانية بعد مفاوضة بحره معروف؛ ولكن الإنكليز يمهدون السبيل لهذا
الغرض القديم مرة بعد أخرى، وقد أحدثوا في هذا الربيع حدثًا مخيفًا بزيارة رئيس
أركان الحرب العامة للعقبة وحدود شرق الأردن أوجب على الجرائد تجديد البحث،
فنشر المقطم في ٢٨ مارس سنة ١٩٣٥ برقية في الموضوع علق عليها محرر
المباحث العربية فيه المقال الآتي في اليوم التالي:
العقبة بين مصر والحجاز وإنكلترا
لخَّص مُكَاتِب المقطم اللندني في برقياته أمس رسالة جريدة المورننج بوست
لمكاتبها من عَمَّان جاء فيها (أن منطقة العقبة وقد كانت تابعة لمصر من مدة طويلة
ستكون موضوعًا لمباحثات دولية، وأن السر أرشيلد منتغمري مسنبرد رئيس هيئة
أركان الحرب العامة يتعهد مواقع الدفاع في شرق الأردن على الحدود، ويطلب
الملك ابن سعود أن تكون العقبة له) .
والواقع أن زيارة رئيس هيئة أركان الحرب لفلسطين وشرق الأردن في مثل
هذه الآونة من الحوادث التي استوقفت الأنظار، فقد استدل منها الناس على عناية
البريطانيين بمستقبل تلك البلاد ورغبتهم في تحصينها والدفاع عنها إذا لزم الأمر.
ولكن هنالك ملاحظة تتعلق بالدفاع عن تلك البلاد نريد أن نلفت النظر إليها
ونطرحها للبحث لمعالجتها من الوجهة الحقوقية والدولية، وخلاصتها أن فلسطين
وشرقي الأردن ليست من ممتلكات التاج البريطاني فتحشد فيها الحكومة البريطانية
القوات، وتجعلها دار حرب وكفاح في حالة حدوث حرب بينها وبين دولة أجنبية،
وإنما هي وديعة أودعتها جامعة الأمم لبريطانيا لكي تعدها للاستقلال وحكم نفسها
بنفسها، على أن تجلو عنها وتعيد إليها حريتها واستقلالها يوم تبلغ أشدها، وتصبح
قادرة على حكم نفسها، وذلك بقرار تصدره جامعة الأمم نفسها كما جرى مع العراق
فقد تحررت من الانتداب بموجب قرار أصدرته الجامعة في سنة ١٩٣٢.
وفضلاً عن ذلك فإن صك الانتداب البريطاني لفلسطين وشرق الأردن الذي
أقرته جامعة الأمم في سنة ١٩٢٢ لا ينيل بريطانيا هذا الحق، ولا يعترف بجعل
البلاد جزءًا من أجزاء ممتلكاتها، فقد جاء في المادة ١٧ من هذا الصك ما نصه:
(يجوز لحكومة فلسطين أن تنظم - على قاعدة اختيارية - القوات اللازمة
للمحافظة على السلم والنظام وللدفاع عن البلاد بشرط أن تكون تحت إشراف الدولة
المنتدبة، ولا يجوز لحكومة فلسطين استخدام هذه القوات لأغراض غير ما تقدم إلا
بموافقة الدولة المنتدبة، وفي ماعدا هذا لا يجوز لإدارة فلسطين أن تجمع قوات
عسكرية أو بحرية أو جوية أو تبقيها عندها.
(وليس في هذه المادة ما يمنع إدارة فلسطين من الاشتراك في نفقات القوات
التي تكون في فلسطين، ويحق للدولة المنتدبة في كل وقت أن تستخدم طرق
فلسطين وسككها الحديدية وموانيها لحركات القوات المسلحة، ونقل الوقود
والمهمات) .
هذا ما ورد في صك الانتداب خاصًّا بالعلاقات العسكرية بين الدولة المنتدبة
والبلاد المشمولة بالانتداب، والمقصود بها هنا (فلسطين وشرق الأردن) وهي لا
تجيز لهذه الدولة أن تجعلها قاعدة من قواعدها الدفاعية، ولا أن تزجها في حرب إذا
خاضتها، وإن لم يك هنالك ما ينذر بقرب إعلان هذه الحرب؛ لأنها بلاد مستقلة
ذات سيادة؛ ولأنها ليست سوى وديعة مؤقتة بيد بريطانيا، ولا يجوز للمودَع
(بالفتح) أن يتصرف بالودائع ويغيرها أو يبدل شكلها إلا لضرورة.
ومع كل ما يكتب ويقال فإننا نعتقد أنه ليس هنالك ما يبعث على التشاؤم،
وإنما أردنا التذكير من وجهة عامة، ولفت نظر ذوي الشأن إلى أن البلاد التي
ينتدب لها لا تعد جزءًا من ممتلكات الدولة المنتدبة ليجوز لها أن تتصرف بأمورها؛
وإنما هي وديعة مؤقتة أودعت تحت يدها لِأَجَلٍ تسميه جامعة الأمم وتحدده.
(مصر والعقبة)
ولقد كانت العقبة - وهي لا تبعد عن حدود مصر الشرقية في الوقت الحاضر
سوى بضعة كيلو مترات، والواقف في آخر هذه الحدود يشاهدها بالعين المجردة -
جزءًا من أجزاء مصر حتى عهد الخديو إسماعيل فتنازل عنها لتركيا، ولما حددت
الحدود نهائيًّا بين مصر وتركيا في سنة ١٩٠٦ أدخلت نهائيًّا ضمن الحدود
العثمانية، وألحقت بلواء الكرك (شرق الأردن اليوم) وصارت جزءًا من أجزائه.
(الحجاز والعقبة)
ولما نشبت الثورة العربية في أثناء الحرب العظمى احتل العرب هذا الثغر في
سنة ١٩١٧، واتخذوه قاعدة لأعمالهم العسكرية في جنوب سورية، فأُلحق من ذلك
العهد بحكومة مكة، وظل جزءًا من أجزائها حتى يوم ١٨ مارس سنة ١٩٢٤،
فأعلن الملك حسين تنازله مؤقتًا عن إدارة معان والعقبة لإمارة شرق الأردن، وفي
يوم ١٨ يوليو سنة ١٩٢٥ أعلن الأمير عبد الله ضم معان والعقبة نهائيًّا إلى إمارته،
وذلك بناء على اتفاق عقده مع أخيه الملك علي، وذلك في الوقت الذين كان فيه
ابن سعود يهاجم الحجاز ويحاصر جدة.
(ابن سعود والعقبة)
وأبى ابن سعود أن يعترف بما تم بين الملك علي والأمير عبد الله بعد استيلائه
على الحجاز، وأعلن أنه لا يقر ما وقع، بل يعده من قبيل التواطؤ، وأنه لا يزال
يعتبر معان والعقبة من أقطار الحجاز، وأن ما جرى بين الأخوين لا يقيده ولا
يسري عليه.
وأثيرت هذه المسألة في المفاوضات التي دارت في جدة بين الحكومة
السعودية والحكومة البريطانية، فتقرر الاحتفاظ بالحالة الراهنة فيها إلى أن تحين
الظروف المناسبة لتسوية مسألتها تسوية نهائية مع الوعد من جانب الحكومة
السعودية بأن لا تتدخل في إدارتها.
هذا ما تم الاتفاق عليه في شهر مايو ١٩٢٦ في جدة بين السر جلبرت كليتن
باسم بريطانيا، والأمير فيصل السعود باسم الحكومة العربية السعودية، وقد تعهدت
فيه هذه الحكومة بأن تحترم الحالة القائمة في هذه المقاطعة إلى أن تحين الظروف
المناسبة، فهل حانت هذه الظروف الآن؟ وهل لذهاب رئيس هيئة أركان الحرب
الآن إلى فلسطين وشرق الأردن - ويقولون إنه جاء ليحقق عن هذه المسألة - صلة
بحلول هذه الظروف؟ إننا نشك في صحة هذه الرواية، وندعو إلى مقابلتها
بالاحتياط، فلم يرد في المصادر الأخرى ما يدل على أن الحكومة السعودية أثارت
هذه القضية، أو أنها تنوي إثارتها على الأقل، كما أنه ليس هنالك ما يدل على أن
بريطانيا تعيدها بسهولة إلى الحكومة السعودية لاعتبارات معروفة بداهة، وإنما هي
أقوال تقال، وإشاعات تشاع، ويراد بها ذر الرماد بالعيون، وسنرى ما يكون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أمين سعيد
(المنار)
الحق أن ثغر العقبة ثغر عربي حجازي في موقعه الجغرافي، فسكان ضفتيه
ما زالوا من صميم عرب الحجاز، وتصرف الدولة العثمانية في إدارة هذه البلاد
كان من حقوق سيادتها على الحجاز وسورية الجنوبية (فلسطين) والشمالية ومصر،
ولما شعرت بطمع إنكلترة فيه ألحقته بالحجاز نهائيًّا، كما بينت ذلك في الجزء الثاني
والثالث من مجلد المنار التاسع سنة ١٣٢٥ وهو:
مسألة العقبة
(منقولة من ص ١٥٧ ج ٢ م ٩ منار الذي صدر في صفر سنة ١٣٢٥)
كان أهل الرأي في الدولة وأصحاب النفوذ في المابين يرون منذ شرع في
سكة الحجاز الحديدية أن من الضروري إحداث ناشط لها ينتهي بفرضة العقبة في
البحر الأحمر، وقال بعضهم: إذا عجزنا عن إيصال السكة إلى الحرمين، فإن ربحنا
من السكة لا يكون قليلاً إذا استعضنا عن ذلك بإيصالها إلى العقبة، وقد اجتهد
الصدر الأعظم ومختار باشا الغازي، وعزت باشا العابد، وصادق باشا العظم
اجتهادًا عظيمًا في إقناع السلطان بوجوب إنشاء هذا الناشط منذ سنين، فكان يأبى
ذلك ويحتج بأن هذا يكون وسيلة لتداخل الإنكليز في بلاد العرب، فلما أعياه أمر
ثورة اليمن اقتنع بأن إخضاع تلك الولاية وتمكين السلطة فيها من بعض فوائد ناشد
العقبة من سكة الحديد فأمر به وأرسلت الجنود العثمانية إلى العقبة لتمهيد العمل،
فلما رأت إنكلترة ذلك خافت من الدولة على مصر أضعاف ما كان يخاف منها
السلطان على بلاد العرب، واعتقدت أنه ما دفع السلطان على هذا العمل إلا ألمانيا
الدائبة في مناهضة إنكلترة، وأنه لا يبعد أن يتفق السلطان مع عاهل الألمان على
الزحف على مصر بعد وصول الناشط إلى العقبة، فأرادت بناء معاقل عسكرية
هناك باسم مصر، فكانت الدولة بالمرصاد، فمنعت الجنود المصرية من البناء
بالتهديد، فأنشأت إنكلترة تعارض الدولة بأن جنودها احتلت نقطة مما كانت سمحت
به لمصر من أرض سيناء واشتدت في ذلك بلسانها وبلسان الحكومة الخديوية التي
تنطق بوحيها على أن إنكلترة قد غيرت حدود مصر في شبه جزيرة سيناء في
الخرائط الجغرافية التي جددتها المدارس المصرية منذ بضع سنين.
مسألة العقبة
منقولة من ص ٢٣١ ج ٣ م ٩ منار الذي صدر في ربيع الأول سنة١٣٢٥
بيَّنا في الجزء الماضي أن حقيقة المسألة عسكرية لا إدارية تتعلق بالحدود،
فهي أول وليد ولدته لنا سكة حديد الحجاز، فالدول العلية ترى أن إنكلترا تخاف
عاقبة هذه السكة على مصر، فهي تريد اتقاء الخطر بإقامة المعاقل الحربية في شبه
جزيرة سيناء؛ لأن محاربتها في مصر إذا دخلت فيها غير معقول وهي تخاف من
إنكلترة على سورية والحجاز إذا هي جعلتها بقعة عسكرية باسم مصر؛ ولذلك كان
السلطان غير راضٍ بإنشاء ناشط من السكة إلى العقبة، ولما اضطر إلى ذلك
باستفحال الثورة في اليمن رأى أن إنكلترة أنفذت الجنود المصرية إلى العقبة للبناء،
كما قيل، ورأت الجنود المصرية ومن يقودها من الإنكليز أن العساكر العثمانية
بالمرصاد، فظهر الأمر وبدأ الخلاف بالشكل الذي عرفه الناس وهو أن الترك قد
اعتدوا الحدود المصرية، ولعل الذي نبه الترك إلى أخذ الحذر من الإنكليز هو
تعيين خمسة آلاف جنيه مصري في ميزانية مالية مصر باسم شبه جزيرة سيناء.
فَهَمُّ الإنكليز من جعل العقبة تابعة لولاية الحجاز أن الدولة العثمانية تريد بذلك
أن تمنعها منهم بسياج ديني، وهو إثارة سخط المسلمين في مستعمراتهم وغيرها
عليهم إذا مدوا أيديهم إليها، وما كانت الدولة لتحسن استخدام هذه القوى المعنوية
ولو كانت تريد ذلك لما حال دونه جعل العقبة تابعة لسورية؛ لأنها على كل حال
من جزيرة العرب التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا
يبقى فيها دينان وأن يخرج منها يهود يثرب ونصارى نجران، وقد قاوم الإنكليز ما
توهموه من الدولة بإياهم من جنسه فأنشأوا يوهمون شعبهم وسائر الشعوب الأوربية
بأن السلطان يريد تهييج التعصب الإسلامي على المدنية الأوربية، وربما وجدوا
لإيهامهم شبهة في ثرثرة أحداث السياسة في مصر الذين جعلوا اسم الإسلام والخلافة
ضيعة يستغلونها، وإن أضاعوا الإسلام الذي لا يعرفون منه إلا اسمه.
لولا أن الدولة العثمانية حذرة من عمل عسكري في سيناء: باب سوريا
والحجاز لما بالت أن تزيد في مساحة ما سمحت به لمصر منها، ولولا أن إنكلترا
حذرة من تركيا على مصر لما عظمت من أمر الحدود المصرية ما عظمت، ولولا
أنها تتوقع هيجان مسلمي مصر أو ثورتهم إذا استحكمت حلقات الخلاف بينها وبين
تركيا لما أمرت بزيادة جيش الاحتلال، فإذا كان سبب النزاع هو ما يعبرون عنه
بسوء التفاهم، فما أسهل سبيل الاتفاق مع حفظ شرف الدولتين وهو أن تعترف
تركيا بحدود مصر التي ذكرت في فرمانات تعيين الخديويين، وفي تلغراف الصدر
الأعظم الملحق بفرمان عباس حلمي باشا الثاني، وتتعهد إنكلترا بأن لا تعمل في
شبه جزيرة سيناء عملاً عسكريًّا، وقد أساءت الدولة المدخل فعسى أن تحسن
المخرج.
نحن نعتقد أن الدولة العثمانية لا يخطر لها على بال - وهي في هذه الحال -
أن تزحف على مصر، أما إنكلترة فلا يبعد أن تقصد إقامة المعاقل الحربية في شبه
جزيرة سيناء باسم مصر باعتبار مصر حكومة إسلامية لا تعد إقامتها على أبواب
الحجاز أو أملاكها لجزء من الجزيرة مخالفة لوصية النبي صلى الله عليه وسلم،
وقد كان يكون ذلك بكل هدوء وسلام لو لم تعارضه الدولة العثمانية وتقاومها فيه
إنكلترا بعد عجز الحكومة المصرية - وإنما نعني بالهدوء والسلام هدوء نفوس
المسلمين وسلامة قلوبهم، وأن تظفر إنكلترا بتركيا ظفرًا مبينًا، وتلزمها بالاعتراف
بالحدود كما تريد، وتجعل بعدُ أرضَ سيناء معسكرًا ولو مصريًّا؛ فإن كل مسلم في
الدنيا يتأمل ويضطرب قلبه، ويظن بالدولة الإنكليزية ظن السوء ويتوقع الاعتداء
على الأرض المقدسة كل يوم، وقد عرفنا من حكمة هذه الدولة في السياسة البعد
عن جرح الشعوب في قلوبها، وإن هي جرحتها في أبدانها ورءوسها (مصالحها
وحكامها) .
إن جميع عقلاء المسلمين يفضلون دولة إنكلترة على جميع الدول، وإذا أيقنوا
بأن قطرًا من أقطارهم واقع تحت سلطان أجنبي، وكان لهم اختيار في الترجيح؛
فإنهم يرجحون بريطانيا العظمى على غيرها ويعتقد رجال الإصلاح منهم أنه لا
يمكن الإتيان بعمل يحيي الإسلام وينفع المسلمين في بلاد إسلامية غير مصر
والهند، بل لا حرية للمسلمين في الدعوة إلى كتاب ربهم المنزل، وسنة نبيه
المرسل، إلا في هذين القطرين، فلبريطانيا العظمى أن تعتقد هذا الاعتقاد عونًا لها
على كل دولة تناوئها في الشرق، وعليها أن تحافظ عليه وتتحامى مواقف الظنة فيه؛
فإن امتلاك القلوب بالحكمة خير من امتلاك الرقاب بالقوة، ولتكن آمنة جانب
المسلمين، واثقة بتفضيلهم إياها على غيرها ما دام دينهم محفوظًا، ومعاهده المقدسة
آمنة من اعتداء الأجنبي عليها، أو تداخل غير المسلم فيها، ولا يصدنها عن هذا
الاعتقاد تشدق المغررين بالغوغاء، فالزبد يذهب جفاء وإنما الناس بالعقلاء
والفضلاء اهـ.
هذا ما كتبته منذ ٢٩ سنة في تحذير الإنكليز من الاعتداء على خليج العقبة
باسم مصر التي كانت مستقلة تحت سيادة الدولة العثمانية، وتذكيرهم بأن التدخل
في أمرها يعده جميع المسلمين اعتداء على الدين الإسلامي نفسه، وأن الخوف على
الحجاز الآن من جعل هذا الخليج تحت سيطرة الإنكليز أشد ما كان في عهد الدولة
العثمانية من جوانب كثيرة، أهمها أنه يمكِّنهم من قتل الإسلام صبرًا في عقر داره،
وجعل الحرمين الشريفين تحت سيطرتهم العسكرية بحجة الانتداب على شرق
الأردن وخدمة أميره عبد الله ابن الملك حسين وهي حجة باطلة، وما اعتداؤهم ولا
غيرهم على الإسلام إلا بمساعدة الخونة من المسلمين، فعلى ملك البلاد العربية
السعودية أن يحفظ حق الإسلام ووصية نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه البلاد
التي حرمها على غيرهم بوصيته في مرض موته، وما فعله علي بن الحسين وهو
محصور في جدة من هبة العقبة ومعان لأخيه عبد الله لا قيمة له شرعًا ولا قانونًا
في ذاته، كما قرره المؤتمر الإسلامي العام في مكة المكرمة سنة ١٣٤٤، ولا في
حيلة الانتداب كما ذكر محرر المقطم وغيره - والعالم الإسلامي كله يؤيد الملك عبد
العزيز الفيصل في حفظ حق الحجاز، وعلماؤه وخطباؤه وكتاب صحفه مستعدون
لتأييده بإقامة الثورة على هذه الدولة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: ٧) .
كلنا نعلم أن الملك عبد العزيز ليس له من القوة الحربية ما يمكِّنه من إخراج
الإنكليز من العقبة وما وراءها إذا أراد ذلك، وكلنا نعلم أيضًا أن الدولة الإنكليزية لا
تزحف بجنودها غير المسلمين لقتاله على حدود الحجاز ونجد، وأن تجنيدها بعض
المرتزقة من فقراء المسلمين لقتاله باسم المحافظة على إمارة عبد الله بن الحسين
البغيض لأهلها ولغيرهم لا يرجى لهم الظفر به، وإن هذا التهور إن تجرؤ عليه قد
يفضي إلى انفجار بركان الحقد من المسلمين عليهم في كل مكان، وظهور ما ليس
في الحسبان.
وقد كانت زيارة رئيس أركان الحرب لهذه الحدود بدء تهييج للصحف
الإسلامية عليهم في فلسطين وسورية ومصر، ثم سكن الهياج بما نشرته حكومة
شرق الأردن من بلاغ رسمي بأنه ليس في خط العقبة معان عمل عسكري، وكل ما
يحتمل وقوعه فهو أهون من إقرار الإنكليز على أي عمل أو سلطان على هذا
الخليج.