هذان الزعيمان المشهوران في الهند ممن ولدت الحرب العظمى من الزعماء في البلاد المختلفة، وعندما زرنا الهند سنة ١٣٣٠هـ (الموافقة لسنة ١٩١٢م) لم يكن لهما ذكر فيها، وسبب زعامتهما اضطهاد الحكومة الإنكليزية لهما بشدة انتقادهما إياها على قتال الدولة العثمانية الممثلة للخلافة الإسلامية. ملأ ذكر شوكت علي ومحمد علي الآفاق بعد الحرب العظمى وقد كان من فوائد رحلتنا إلى الحجاز في موسم الحج الأخير لقاء الزعيمين الكبيرين في مكة المكرمة ومعرفة كنه حالهما، ولما دعاني جلالة ملك الحجاز إلى الانتظام في سلك المؤتمر الإسلامي العام الذي دعا إليه، كنت أعدّ من ثمراته الدانية الجنى الاشتغال في خدمة الإسلام والحرمين الشريفين مع الوفود الإسلامية عامة والوفود الهندية خاصة، ووفد الخلافة الذي يعد الزعيمان أشهر أركانه على الوجه الأخص. وقد كاشفت رئيس هذا الوفد صديقي الأستاذ السيد سليمان الندوي بذلك وبأنه يحسن أن نتذاكر في المسائل المختلف فيها أو التي هي مظنة الاختلاف عندما تعرض على المؤتمر وتمحصها ليسهل علينا التعاون على إقناع غيرنا بتقريرها فيه وأن نراعي في هذه المباحث ما يمكن، وما لا يمكن، وما يسمى في عرف هذا العصر (بالأمر الواقع) وما يترتب عليه، وقد استحسن الأستاذ الندوي هذا الرأي وقال: إنه سيعرضه على رفاقه، ثم رأيت رفيقيه غير مباليين بمذاكرة أحد ولا بالتعاون مع أحد، كأنهما يظنان أنهما بنفوذهما الشخصي يفعلان في المؤتمر ما يفعلان في جمعية الخلافة، حتى بدا لهما أفن هذا الرأي وبطلان هذا الظن في أثناء المؤتمر، وسنفصل ذلك في رحلتنا الحجازية بما فيه العبرة والعظة للعالم الإسلامي ونكتفي هنا بتعليق وجيز على أول خطبة لأخينا محمد علي ألقاها في ميناء كراجي أول ثغر ألما به من موانئ الهند، وقد بلغنا أن ما بثاه بعد ذلك في خطبهما ومكتوباتهما شر منه وأنهما أحدثا شقاقًا في الهند بأقوالهما الجديدة في ابن السعود المخالفة لأقوالهما السابقة. *** خطبة مولانا محمد علي في كراجي: خطب مولانا محمد علي في أهالي كراجي خطبة حماسية طويلة بكى فيها واستبكى - وما أسهل هذا عليه! فرأيت من واجب التناصح أن أعلق على بعض عباراته فيها تعليقات مؤيدة بالبرهانين الديني والعقلي فأقول:
تزكية نفسه وشهادته لها بالمغفرة: ١ - بدأ خطبته بالتودد إلى أهل تلك الناحية بذكر حبه الشديد لهم وحبهم له وتذكيرهم بجلب القضاء البريطاني له إلى بلدهم لمحاكمته محاكمة المجرمين، وهذا أعظم ما يتقرب به إليهم لعدهم محاكمة الدولة له أكبر مناقبه، وقال في أثناء ذلك (وقد تم من إرادة الله وكرمه أن أعود إليكم بعد أن طهرني الله من جميع الذنوب والأوزار) وقد كرر هذا المعنى مرتين لتأكيده. فنذكر أخانا في الإسلام الذي تأكدت أُخوته لنا باشتراكنا في غسل بيت الله الحرام، وتطييب جدرانه من الداخل بعطر الورد، بأن لا يعود إلى مثل هذا فإن الجزم القطعي بغفران الله تعالى وتطهيره لشخص معين من الذنوب والأوزار لا يُعلم إلا بوحي من الله علام الغيوب، والأعمال المكفرة للذنوب كالحج لا تكون كذلك إلا إذا كانت صحيحة باستيفاء شروطها وواجباتها الظاهرة والباطنة كالإخلاص وكانت مقبولة عند الله تعالى، والعلم باستيفاء الشروط والواجبات عسر، وأما العلم بالمقبول عند الله تعالى فمتعذر، وقد قال بعضهم في واجب واحد من شروط الحج الظاهرة. إذا حججت بمال أصله دنس ... فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل من حج بيت الله مبرور ولا محل هنا لذكر ما استدل به العلماء على عدم القطع لأحد بالمغفرة والجنة إلا من بشرهم بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد فسروا الحج المبرور المكفر للذنوب الذي ورد الحديث فيه بأنه الذي لا يقع فيه معصية، أو لا رياء فيه. أخذوا هذا من حديث الصحيحين واللفظ للبخاري (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - بأن يجعل حجه لا رياء فيه ولا سمعة، وقالوا: مع هذا إن الحج المبرور إنما يكفر حقوق الله تعالى لا حقوق العباد. وقد قال الله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: ٣٢) ويدخل في هذا النهي مدح المرء لنفسه وتزكيتها ولو بالحق ولا سيما إذا كان في سياق الفخر والتبجح، ويمكن لأخينا أن يراجع في هذه المسألة وما حولها كتب التفسير وكتب السنة ولا سيما رد النبي - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن أبي وقاص فيمن قال فيه إني لأراه مؤمنًا - فقال له - صلى الله عليه وسلم - (بل مسلمًا) وهو في الصحيحين - ويراجع أيضًا كتاب الحج وكتابي (العجب والغرور من إحياء علوم الدين) ، ويتذكر كيف كان يستغيب ملك الحجاز حتى في بيت الله تعالى وفيما لا مصلحة فيه له وللمسلمين كالكلام في لحيته وزواجه ... إلخ. *** دعواه إخلاف ابن سعود وكذبه: ٢ - قال: إن ابن السعود كان كتب إليه أن الحجاز أمانة في يده للمسلمين وإنه يخضع لما يراه المؤتمر الإسلامي ومستعد لتخلية الحجاز لمن يختاره هذا المؤتمر. (وقال) فلما قصدت الحجاز وجدت أن الأفعال غير الأقوال - ثم أطال الكلام في الوعود والعهود والمواثيق، والكذب والخداع؛ وذكر من الأفعال المخالفة هدم القباب العالية، والمنارات الشامخة، والمقابر، والمآثر - وبالغ في تعظيم أمر هذا الهدم لهذه المبتدعات كأنما هدم بها أركان الإسلام، وبكى في أثناء هذا التهويل، وبالغ في الندب والعويل، حتى استبكى الجم الغفير، من عباد القبور ومخبولي القباب الشامخة الباذخة الضخمة الفخمة، التي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يبنونها مساجد على المقابر في مرض موته ليحذر أمته من فتنتها ومن بناء مثلها. ونذكر هذا الزعيم بأنه ليس من الذنوب المغفور له عند الله أن يدافع عن هذه القباب والمساجد المبنية على القبور التي هي شر من مسجد الضرار الذي قال الله تعالى فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ} (التوبة: ١٠٧) الآية. ثم نذكره بقوله وقول أخيه: إنهما لا يقولان بأن هذه القبور والقباب والمساجد عليها مطلوبة شرعًا ولا أنها كما يزعم العوام الجاهلون تنفع وتضر - وإنما يدافعان عنها مراعاة للشيعة والعوام في الهند لأجل الانتفاع بعصبيتهم أو ما هذا معناه. ولكن ابن السعود لا يحابي الشيعة ولا العوام في الدين، وقد قال لهما ولغيرهما من أعضاء المؤتمر وغيرهم ولا سيما ليلة دعوته الكبرى لرجال المؤتمر قال: إن مسألة المقابر والمآثر قد عمل فيها بفتوى العلماء؛ فإذا اجتمعت جمعية من علماء السنة وفقهاء المذاهب الأربعة وأعادوا المذاكرة وأثبتوا بالدليل خطأه في شيء فعله، ووجوب تلافي هذا الخطأ؛ فإنه يأخذ بقولهم، هذا ما صرح به مرارًا. وأما الأخذ بقول الزعيمين السياسيين شوكت علي ومحمد علي، وليسا من علماء الدين، أو بأهواء الشيعة والعامة لأجل السياسة فلا سبيل إليه. وأما قول الزعيم الهندي بأن الملك السلطان العربي وعده ووعد جمعية الخلافة بأن يخضع لقرار المؤتمر الإسلامي في حكم الحجاز ويخليه لمن يختاره هذا المؤتمر - وأن أفعاله خالفت أقواله - فنسأله: هل يُعد رأيه ورأي أخيه الشاذ في جعل حكومة الحجاز جمهورية، وجعل حق انتخاب رئيسها للمؤتمر - قراراً من المؤتمر بذلك؟ إن المؤتمر لم يقرر شيئًا في هذه المسألة، ولا جعلها من موضوع مذكراته، والسواد الأعظم من مندوبي المؤتمر، ومنهم مندوبو الحكومات المستقلة معترفون بأن جلالة عبد العزيز بن السعود ملك الحجاز، فما معنى هذه المخالفة بين الأقوال والأفعال في هذه المسألة؟ أيليق بزعيم كبير أن يقول هذا في خطاب عام؟ *** افتخار محمد علي بالشجاعة في سبيل الله: ٣ - افتخر الزعيم أمام أهل كراجي وتبجح بالشجاعة والإقدام وعدم المبالاة بالموت في سبيل الله إذ صارح ابن السعود بالانتقاد على أعماله وباختصاصه بالسلطة الشخصية في الحجاز (ورفع صوته عاليًا غير هياب في الحق ولا وجل) وذكرهم بأنه (لم يَرهب الحكومة البريطانية التي هي أقوى دول الأرض في هذا العهد) وأطال في ذلك وكرره، حتى خُيل لسامع كلامه أنه كان موطنًا نفسه على سفك هذا الملك الجبار لدمه (أمام كعبة الله) كما قال! ! ! ونحن لا نرى لهذا الفخر أدنى مجال ولا مسوغ فابن سعود ليس جبارًا ولا بطاشًا بمن ينتقده، ولا بمن يذمه، ولم ينقل عنه أنه عاقب رجلاً أساء إليه، بل نقل عنه أنه عفا عن رجل كان يريد قتله بعد أن قبض عليه رجاله، واعترف بأنه كان يريد قتله، وقد وقفت إدارة الأمن العام في الحجاز على جمعية سرية في مكة تأتيها الأموال والأسلحة والديناميت من الخارج.. . ولم يأمر الملك بقتل أحد من أعضائها، ولما أعلنت حكومة الحجاز المنع من بيع هذا السلاح في الحجاز انتدب الزعيمان (محمد علي وشكوت علي) للإنكار عليها كأنهما راضيان بعمل هذه الجمعية واستعدادها لسفك الدماء في حرم الله الذي يحرم فيه قتل القاتل قصاصًا شرعيًّا (! !) ثم إننا لا نرى معنى لاستدلاله على عدم الخوف من ابن سعود بقوله: إنه كذلك لم يخف من الدولة البريطانية، وهي أقوى دول الأرض فإن عقاب الحكومات للأفراد لا تفاوت فيها بين حكومة قوية وضعيفة، ولكنه يتبجح بأن الحكومة البريطانية تحميه من ملك الحجاز إذا أراد الانتقام منه؟ وهذا التبجح لا يليق به على أنه في غير محله أيضًا؛ لأن ملك الحجاز إذا أراد معاقبة مثل محمد علي على قدحه فيه وذمه إياه - ولن يريد - فلا يكون عقابه له بالقتل ولا بالجلد، ولا بالحبس أيضًا - حتى يحتاج إلى هذه الشجاعة كلها، أو إلى حماية الإنكليز أقوى دول الأرض له، وإنما يكون بمثل ما عاقب به المشاغبين من أعضاء جمعية خدام الكعبة، وهو إخراجهم من الحجاز، أو بالحرمان من حضور جلسات المؤتمر، وكلاهما أمر يسير غير عسير، ولكن الملك عبد العزيز الحليم العادل المتواضع قد قابل ما كان يستفرغه الزعيم الشجاع بسعة الصدر التامة، وما كان يزيده ذلك إلا إكرامًا لضيفه العزيز في قومه. *** طعن الزعيم على رجال المؤتمر: ٤ - طعن الزعيم الكبير في رجال من أعضاء المؤتمر بأنهم أصحاب أغراض شخصية ومآرب ذاتية، وأنه لا ضمير لهم ولا مبدأ، ولماذا؟ قال: إن أحدهم قال له: يجب أن لا تقول شيئًا ضد ابن السعود. سبحان الله! لماذا يجوز له أن يطعن هو في ابن السعود أشد الطعن؛ لأنه يخالفه في سياسته التي يستميل بها الشيعة وعوام الهنود الخرافيين في بلاده - ويخالفه هو وأهل الحجاز فيما لا يعنيه من شكل حكومته، ولا يجوز لغيره أن يعد ابن السعود مصلحًا بإزالته للبدع وذرائع الشرك والمعاصي - ويدافع عنه لأجل هذا أو لأن الطعن فيه غير مفيد في نفسه، ولا لائق بآداب رجال المؤتمر ومقاماتهم في أقوامهم، ولا لائق بآداب الشرع، ولا لائق بالحرم الشريف، ولا سيما للحجاج لأن أقل ما فيها إثارة الجدال والمراء المذمومين شرعًا، ولا سيما في الحرم أو لغير ذلك من الأسباب، وإنما حلمنا نهي من نهي الزعيم الكبير عن الكلام فيما سماه (ضد ابن سعود) على الطعن فيه، وإن كان في سياق شكل حكومته أو أعماله في إزالة البدع؛ لأن هذا هو الذي كان معروفًا واشتهر عنه، لإسرافه فيه وإكثاره منه. *** دعواه أنه منع من حريته في المؤتمر: ٥ - قال: (لقد منعت من إعلان اقتراحي في المؤتمر وظلمت من جانب ابن سعود، ولكني رفعت صوتي عاليًا غير هيَّاب في الحق ولا وجل) ... إلخ ما تنفج به وتبجح، فكيف من إعلان اقتراحه وكيف رفع صوته بلا مبالاة؟ وبم ظلمه ابن السعود في هذا المقام وهو قد أعطى المؤتمر حرية تامة ما كان أحد ينتظرها؟ أطال في الافتخار بعدم خوفه من ابن السعود، وفي كونه أنكر عليه في وجهه الانفراد بحكم بلاد الحجاز وصارحه بأن القبب والأضرحة ليست أشد خطرًا على الإسلام والمسلمين من تفرده بالحكم في حرم الله، قال: إنه أنكر عليه ما ذكر بما ذكر من الغلظة أربع مرات ولم يكن يجيبه إلا بقوله: إننا متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ثم أشار إلى أن طبيعة الملك تغري صاحبها بسفك الدماء، وقال: (وهكذا أخذ على طريق الرأي والاقتراح، وأغلق في وجهي طريق العمل والإصلاح) . نقول: إذا كان الملك ابن السعود لم يزد في جوابه على أغلاط هذا الرجل في القدح فيه على كونه متبعًا للكتاب والسنة في عمله، أي لا لآراء محمد علي وآراء أمثاله السياسيين الذين يستبيحون أو يوجبون في سبيل سياستهم كل شيء - وإذا كان هذا الملك حليمًا رفيقًا يقبل من الإنكار عليه في وجهه كل تلك الغلظة اتباعًا للخلفاء الراشدين وأئمة السلف ' فما معنى الافتخار بالشجاعة أمامه ولا دعاء توطين النفس على القتل بسيفه؟ ثم ما معنى كونه هو الذي ظلمه بمنعه من إبداء رأيه كله في المؤتمر، إن الملك لم يكن عضوًا في المؤتمر فيعارض فيه أحدًا أو يمنعه من إبداء رأيه، فإن كان أنصاره والراضون عنه في المؤتمر هم الذين منعوا محمد علي مما ذكر فأي ذنب لابن السعود إذا كانت الأكثرية الساحقة في المؤتمر تؤيده وتخالف خصمه؟ إن هذا الكلام شهادة من أخينا محمد علي بأنه هو الذي كان مخالفًا للمؤتمر لا ابن السعود، وكل أعضاء المؤتمر كانوا يتبرمون من أكثر خطبه وخطب أخيه الطويلة الخارجة عن موضوع المؤتمر والتي يكثر فيها الفخر بالإخلاص ورمي المخالفين بعدم الإخلاص، وإنما كانوا يجاملونهما حذرًا من وقوع الشقاق والفشل في المؤتمر، وسنبين هذا بالتفصيل في رسالتنا إن شاء الله تعالى. إننا وأيم الحق كنا نتمنى لو يكون هذا الزعيم بل هذان الزعيمان الكبيران أحكم وأقوم سبيلاً مما وجدناهما عليه ومما نقل إلينا عنهما بعد عودتهما إلى الهند. ونحن لم نقل إلا بعض ما نراه في شأنهما هو الحق، مع مراعاة الرأفة في الحكم، ومن أثبت لنا خطأنا في شيء مما قلناه رجعنا عنه معتذرين، واستغفرنا الله تعالى تائبين. *** علاقتنا بابن السعود دينية إصلاحية: نعم، قد يقول قائل: إنك نصير لابن السعود وما عهدناك إلا مؤيدًا له ومدافعًا عنه، ولم نرك تنتقده في شيء. وأقول في جوابه: لا أنكر أنني أيدت الرجل ودافعت عنه ولا أزال كذلك، ولكن فيما اعتقد أنه الحق، والمصلحة لملتنا وأمتنا، وأنا في ذلك على خطتي التي أعلنها في المنار كل عام مرة أو مرارًا، وهي أن كل من بين لنا خطأنا في شيء كتبناه أنا أو إخواني فإن من إنصافنا أن ننشره له مع بيان رأينا فيه ونترك للقراء الحكم في الخلاف إذا نحن اختلفنا. وأما مسألة الانتقاد عليه والنصح له فإن ما أمر الله تعالى به من الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة يقتضي أن يكون الانتقاد والنصح بيننا وبينه ما دام ذلك ممكنًا، وإنما يلجأ المرء إلى النشر في حالة امتناع الموعظة في السر، أو في حالة التمرد وعدم قبول النصح، ونحن نصرح بأننا نصحنا للرجل بالكتابة مرارًا ببيان ما يجب عليه لملته الإسلامية ولأمته العربية، وانتقدنا عليه بعض الأمور التي رويناها أو رأيناها من قومه كتابة في حالة البعد، ومشافهة في حالة القرب، فلم يقابل نصحنا وانتقادنا إلا بالقبول والشكر، مع بيان ما عنده من الاعتقاد والرأي. وإننا نرجو أن يكون ما كتبناه وما سنكتبه لوجه الله تعالى؛ لأن مودتنا هي في سبيل الله تعالى لا لأجل غرض دنيوي، وهو أعلم الناس بهذا، وقد اعترف لنا به كتابةً، ولا سيما بعد عودتنا من الحجاز، وإذا اقتضت المصلحة العامة نشر شيء مما كتبه إلينا في ذلك فإننا ننشره. إنه قد ثبت عندنا بالاختبار الطويل أن أهل نجد أشد مسلمي هذا العصر اعتصامًا بما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأبعدهم عن الخرافات والبدع التي أفسدت على أكثر المسلمين دينهم وديناهم، وأن آل سعود هم الذين أيدوا هذا الإصلاح من نشأته إلى الآن ولولاهم لما انتشر وثبت، وأن ما ينتقد على أهل نجد من التشدد في الدين خير مما ينتقد على من غيرهم من نبذه وراء الظهور، وفي نجد عوام وجاهلون كما يوجد في سائر الدنيا ولكنهم أقرب إلى قبول الحق إذا ثبت عندهم بدليل شرعي، ولا نعرف شعبًا غيرهم يبذل نفسه وماله في سبيل الله بالوازع النفسي، فلهذا دون غيره نؤيدهم ونسعى لترقيتهم وإكمال ما ينقصهم لخدمة الإسلام والعرب في هذا العصر. ومن الشواهد على ما تقدم أننا لما رأينا في الجرائد المصرية أن الأمير سعود قد زار المشهد الحسيني كتبنا إليه كتابًا شددنا فيه الإنكار عليه، وأنكرنا فيه عليه أيضًا ما قيل من أنه حضر حفلة الموسيقى في حديقة الأزبكية وصفق لها - فلما قرأه امتعض وتألم ألمًا شديدًا، وأرسل إلينا معتمد حكومتهم الشيخ فوزان فكذب لنا الخبرين، ولو لم يفعل ذلك لأنكرنا عليه في الجرائد، ولامتنعت عن زيارته هجرًا له في الله -عز وجل -، ولما زرته بعد ذلك كرر لي تكذيب الخبرين ونشرت ذلك في المنار، وهذا برهان على كوننا نؤيدهم فيما يؤيدون به السنة وننكر عليهم إذا خالفوها. هذا وإن إنكاري عليه ما قيل من حضوره حفلة الموسيقى مبني على ما أعلم من اعتقاده واعتقاد قومه تحريم جميع المعازف لا ما استثني من دف العرس وطبل الحرب مثلاً. وهذا ما عليه جمهور فقهاء المذاهب المشهورة من أهل السنة وغيرهم، خلافًا لبعض علماء السلف ولا سيما الحجازيين في ذلك، وأنا أعتقد حل الموسيقى العسكرية؛ لأنه لا يصح دليل على تحريمها، ولأنها من قبيل ما استثناه بعض فقهائنا من طبل الحرب والله أعلم.