للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة الشيخ محمد نجيب أفندي

وردت علينا الأسئلة الثلاثة الآتية من الشيخ محمد نجيب أفندي ابن الشيخ
شمس الدين محمد المدرس بالمدرسة الشمسية في توفتار (الروسية) فذكرناها
بنصها واختصرنا في جوابها لما سبق لنا من القول في موضوعاتها إلا المسألة
الثانية أطلنا فيها.
المسجد الأقصى وقت الإسراء
(المسألة الأولى) إن بعضًا من المخالفين اعترض على آية الإسراء فقال
ما حاصله: إن المسجد الأقصى كان خرابًا في ذلك الوقت بشهادة التواريخ
الإسلامية فكيف يصح قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ
الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: ١) الآية. انتهى.
وقد خطر في خاطري في الجواب عنه:
(أولاً) أن المسجد الأقصى كما يطلق على بنائه يطلق على محله والمحل
باقٍ ألبتة إلا أن يشكله ما وقع في حديث آحادي من ربط البراق في حلْقة الباب
وهو يفيد الإسراء إلى البناء لا إلى المحل، والآية تحتمل المعنيين.
(وثانيًا) أن أمر المعراج والإسراء من الأمور العادية؛ لكونه من
المعجزات، فهو وإن كان روحانيًّا جسمانيًّا عندنا - إلا أنه ليس بجسماني عادي بل
هو شبيه بالروحاني وأنه من أطوار النبوة ويحصل فيها ما لا يحصل في غيرها
وقد روي في الخبر أن النبي عليه السلام رأى ليلة المعراج طوفان نوح عليه السلام
ونار نمروذ عليه اللعنة، ويونس عليه السلام في بطن الحوت من الأمور الماضية،
وأهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار من الأمور الآتية، بحيث كُوشِفَ
بجميع تلك الأمور الحادثة وما يحدث بأوقاتها لكونه صلى الله عليه وسلم منخلعًا
عن قيد الزمان عند هذا الحال فحضر الجميع عنده بأوقاته فلا يبعد أن يكون رأى
المسجد الأقصى بوقت معموريته عند هذا المكان وإن لم يره المحبوس في
مطمورة الزمان ولا مانع من تصديقه من جهة العقل أيضًا بعد الإيقان بأنه من
المعجزات؛ لأن شأن المعجزات يكون هكذا فوق طور العقل وإنما حظ العقل منه
العلم بإمكانه وهذا يكفي للإذعان له. وأما تعقل المعجزات فهو ليس من وسع العقل؛
بل هو بمعزل عنه ولا فرق في ذلك بين أمر المعراج وسائر الأمور الخارقة. هذا
ما ظهر لي في الأمر والمأمول من الأستاذ زيادة التحقيق والإتقان.
(ج) إن هذا الاعتراض ليس بشيء، فذلك المكان المعبر عنه بالمسجد
الأقصى كان معروفًا وقد هُدم غير مرة وبُني، وكان يُسمى في حال هدمه وحال بنائه
باسم واحد وهو (هيكل سليمان) ، يقولون: هُدم الهيكل وبُني الهيكل وبَقِي الهيكل
مدة كذا خرابًا. وقد بنى أنيبال الروماني على أطلاله هيكلاً للمشترى ولم يتغير
اسمه عند اليهود لاعتبارهم ذلك شيئًا عارضًا لأمر ثابت لا يزول.
ولو استشكل المعترض تسميته مسجدًا لكان له وجه في الجملة ونقول: إنه أطلق
عليه المسجد كما أطلقه على حرم مكة وهو لم يكن يومئذ مسجدًا وإنما كان بيتًا
للأصنام وفي ذلك وجهان: أحدهما أنه سماه مسجدًا باعتبار ما كان عليه وما وضع له
فما بنى إبراهيم وإسماعيل الكعبة ولا سليمان الهيكل إلا للعبادة الصحيحة.
وثانيهما أنه أطلق عليهما اسم المسجد للإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهم وهو
كونهما مسجدين للمسلمين. وما ذكره السائل من كون الإسراء والمعراج من الأمور
الروحانية حسن وسبق لنا فيه قول ولكنه ليس الوجه في تسمية ذلك المكان بالمسجد.
ثم إن ربط البراق بالحلقة في بعض الروايات ليس مشكلاً؛ إذ هدم المكان لا ينافي
وجود حلقة في أطلاله تربط بها دابة. هذا إذا كان البراق والربط في عالم الحس
والملك، فما بالك إذا كان أمرًا ملكوتيًّا، أو تمثيلاً روحانيًّا.
(تفسير: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} (الأعراف: ١٩٠) ... الآيات)
(المسألة الثانية) إن أحد المخالفين أيضًا اعترض على قوله تعالى: {فَلَمَّا
آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الأعراف:
١٩٠) ، قال ما حاصله: إن قوله تعالى:] جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ [يُشعر بأن آدم
وحواء عليهما السلام كانا مشركين. انتهى. وما ذكر في كتب التفاسير من
التوجيهات من تقدير همزة الاستفهام أو المضاف أو التصرف في الشرك فلم يقبلها
المعترض وقال: لا بد من تصحيح الآية على ظاهرها - أيها المسلمون - فإن كان
فيه وجه آخر غير ما ذكر في التفاسير فعليكم بيانه أيها الأستاذ.
(ج) لك أن تحل الآية بهذا التفسير: الله {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (الأعراف: ١٨٩) في جنسها وهي الروح التي تتصل بالأبدان فتحييها بعد موتها
] وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [أي: جعل لها زوجًا من جنسها وذلك بعد دخولها في عالم
الأجسام. وإلى هذا التراخي أشار بقوله تعالى في سورة الزمر: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الزمر: ٦) أي: جعل تلك النفس الواحدة زوجين
ذكرًا وأنثى كما قال في سورة النجم: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن
نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} (النجم: ٤٥-٤٦) ثم بيَّن علة جعل الزوج من جنس الزوج فقال:
] لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [وسكون كل من الزوجين إلى الآخر معروف بالطبع لجميع البشر
فلا حاجة للإشعار به. ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم
مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: ٢١) .
وقد علمنا من أسلوب القرآن البديع أنه ينتقل من ذكر الآيات الكلية إلى ذكر
الوقائع الجزئية التي لها أثر عام في عقائد البشر وأخلاقهم كما يذكر الوقائع الجزئية
أحيانًا ويبني عليها الأحكام العامة. وقد انتقل هنا من ذكر خلق الزوجين وبيان
الحكمة في ذلك إلى ما يقع لهما ولنسلهما من الكفر بالنعمة، والجهل بتلك الحكمة،
فقال في ذلك الزوج المبهم مع زوجه: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} (الأعراف: ١٨٩) ظاهر أن المراد بالتغشي ما يكون سبب الحمل وأصله التغطية
وفيه من النزاهة ما ترى. ومرت به بمعنى استمرت على حالها قبل الحمل] فَلَمَّا
أَثْقَلَت [بالحمل وأصابتها الشدة ووهم الإسقاط والإجهاض] دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا [
قائلين:] لَئِنْ آتَيْتَنَا [ولدًا أو نسلاً صَالِحًا] لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [لنعمتك،
المؤمنين بأن الخير كله بيدك، {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف: ١٩٠) بأن نسبا ذلك إلى تأثير ما يسمى سببًا وما لا يصلح أن يكون
سببًا من الأمور الموهومة كالأصنام ونحوها وغفلا عن المؤثر الحقيقي الذي بيده
أزِمَّة الأسباب وهو الفاعل المختار فسرى هذا الشرك في ولدهما] فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ [وهذه الآية كقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: ٦٥) .
هذا الذي قلناه في معنى الآية ظاهر لا إشكال فيه ولا اعتراض عليه. وإنما
جاء الإشكال من تفسير النفس الواحدة بآدم وزوجها بحواء مع اعتقاد عصمة آدم من
الشرك. وليست الآيات نصًّا ولا ظاهرًا في ذلك ويؤيد قولنا تتمة السياق وهو قوله
تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ
أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوَهُمْ إِلَى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوَهُمْ أَمْ
أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ
إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ *
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (الأعراف: ١٩١-١٩٦) .
فهذه الآيات الناطقة بأبلغ الحجج على نفي الشرك وبطلانه وفساد آراء
منتحليه من مشركي العرب الذين كانوا يعتزون بأصنامهم ويستنصرون بها على
النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن تكون فاتحتها قد نزلت في الاحتجاج على آدم
وحواء والنعي عليهما ما كانا عليه من الشرك المجهول - إن كان - إذ السياق
صريح في الاحتجاج على مشركي قريش ومن على شاكلتهم ولذلك حمل بعض
المفسرين النفس على قصي وكانت زوجه قرشية مثله ومن الشرك فيما آتاهما الله
من الولد أن سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد
اللات. وإلا ظهر ما قلناه من التعميم.
فإن قيل: هل من جواب معقول عن الآية على القول بأن المراد بها آدم
وحواء؟ أقول: إن أمثل ما يقال إذًا فيها هو ما جاء في الرواية وهو أنهما سميا
ولدهما عبد الحرث فقد روى أحمد والترمذي والحاكم من حديث سمرة بن جندب
مرفوعًا: (لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها: سميه
عبد الحارث فإنه يعيش فسمته بذلك فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره)
وأراد بالحارث نفسه فإنه كان يسمى به بين الملائكة. وفي الحديث مقال وإن حسنه
الترمذي وصححه الحاكم وكم صحح الحاكم ضعيفًا وموضوعًا وقد أطال الرازي في
رد كون الآية في آدم وحواء. وإن سلمنا بالصحة نقول: إن الذنب على حواء وإنما
أسند إليها مع زوجها؛ لأنهما متكافلان وكان ينبغي له أن ينهاها عن هذه التسمية
وليس ذلك شركًا حقيقيًّا؛ لأنها لم تكن تعتقد بأن الحارث إله ولكنه صورة للشرك
فأطلق عليه اسم الشرك مبالغة في الزجر والله أعلم.
تعليم النساء الكتابة
(المسألة الثالثة) إن بعضًا من علمائنا لا يجوزون تعليم الكتابة للنساء
وينقلون في ذلك حديثًا وهو: (لا تعلموا النساء الكتابة ولا تنزلوهن الغرف) ،
فهل له أصل بيّنوه؟ أيها الشيخ. وهذا الفقير متردد في قبوله بل يجده مخالفًا
لشرعه عليه السلام فإنه عليه الصلاة والسلام أمر كل مسلم ومسلمة بطلب العلم
والكتابة مقدمة الطلب سيما في هذه الأعصار فإنه لا يمكن فيها الطلب بدونها على
أنه مخالف صريحًا لحديث آخر وهو أنه عليه السلام قال للشَّفَّاء بنت عبد الله وهي
عند حفصة: (ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة) ففيه دلالة على جواز
تعلم الكتابة للنساء؛ لأن حفصه تعلمت الكتابة من الشفاء ولم يمنعها النبي عليه
السلام وهو دليل الجواز. ثم إن حديث النهي هل هو محمول على التنزيه أو
مقصور على مورده أو بينهما تناسخ، فالمرجو من جناب الأستاذ شرح ذلك لكي
يحصل التوفيق بينهما. هذا ما تذكرت وقت تحرير هذا الكتاب.
فلو تفضلتم بالجواب ولكم الأجر والمنة والله لا يضيع أجر المحسنين.
(ج) الحديث رواه الحاكم من حديث عائشة مرفوعًا وصححه، والصواب أنه
موضوع فإن في إسناده عبد الوهاب بن الضحاك الحمصي، قال أبو حاتم الرازي
فيه: كان يكذب، وقال العقيلي والنسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: كان
يسرق الحديث لا يحل الاحتجاج به، وقال الدارقطني: منكر الحديث وقال أبو داود:
يضع الحديث، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: عبد الوهاب بن الضحاك
بن أبان العُرْضي - بضم المهملة وسكون الراء بعدها معجمة: أبو الحارث الحمصي
نزيل سلمية - متروك كذبه أبو حاتم. وأما حديث تعليم حفصة الكتابة فرواه
الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وأبو نُعيم والطبراني ورجاله ثقات. اهـ من
مقالة في تعليم النساء نشرناها في باب التربية والتعليم من مجلد المنار الثاني
(ص ٣٣٦) .