دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صديق
بسم الله الرحمن الرحيم الغرض من هذه المحاضرات إيقافكم على أصول بعض أنواع العلوم الطبيعية والطبية، خصوصًا ما كان منها له مساس بعلم قانون الصحة، فإنه هو المقصد الأصلي الذي نرمي إليه في جميع هذه المحاضرات؛ لأن هذا العلم هو كثمرةٍ شهيَّةٍ ممّا تنتجه شجرة العلوم العصرية، طبيعية كانت أو طبية، والغرض منه معرفة الأصول والقواعد الصحية التي بها يحفظ الجسم من الضعف والانحلال بقدر الإمكان، وكذا من الأمراض المعدية وغير المعدية. وستسمعون مني في سياق هذه المحاضرات تعريب كثير من الألفاظ العلمية، وتطبيق حقائق هذه العلوم على نصوص الديانة الإسلامية الغراء. وهاكم أسماء العلوم التي نريد أن نتكلم عليها بعون الله تعالى: ١ - الكيمياء ٢ - الطبيعة ٣ - التشريح ٤ - الفسيولوجيا [١] ٥- الهستولوجيا [٢] ٦ - البكتيريولوجيا [٣] الأمراض المعدية، وغير ذلك. *** نبذة في علم الكيمياء Chemistry الكيمياء القديمة كان الغرض منها معرفة حجر الفلاسفة وهو الجوهر الذي إذا وضع على أي معدن يُصيِّره ذهبًا على زعمهم. ومعرفة إكسير الحياة، وهو الذي كانوا يظنون أنه يعيد الشيخ شابًّا أو أنه يشفي جميع الأمراض. وأما الآن فالغرض من الكيمياء معرفة أصول المركبات وكيفية تركيبها وتحليلها. وهذه الأصول تسمى بالعناصر، والعناصر كثيرة؛ ولكنها الآن لا تتجاوز الثمانين، ومن أهمها الحديد والنحاس والأكسجين والكربون. وأما المركبات فمنها الخشب والسكر والماء وغير ذلك. والراجح عند العلماء الآن أن جميع العناصر هي أيضًا مركبات وكلها ترجع إلى أصل واحد، وهو الأثير الذي هو أبسط جميع الموجودات ومنه ركبت؛ وأصغر أجزاء هذه العناصر تسمى بالجواهر الفردة، وهي التي لا يمكن تقسيمها إلى أقل منها ولو في الذهن. والعناصر جميعًا تنقسم إلى قسمين: معادن وغير معادن؛ فالمعادن هي مثل النحاس والحديد، وغيرها ما ماثل الفحم والكبريت (المسمى بالعمود) والمعادن تختلف عن غير المعادن في أربعة أشياء: (١) أن المعادن لها لمعة خاصة بها، وغيرها ليس كذلك. (٢) أن المعادن توصل الحرارة والكهرباء. (٣) أن المعادن تقبل الانطراق والتمدد، وغير المعادن لا يقبل ذلك. (٤) أن أكسيد المعادن يسمى القاعدة، وأكسيد غير المعادن يتركب منه الحمض. والأكسيد هو ما ينشأ من اتحاد الأكسجين مع أي عنصر من العناصر، مثال ذلك صدأ الحديد فإنه يسمى أكسيد الحديد لتركبه من الأكسجين مع الحديد، والقاعدة سميت بذلك؛ لأنها كالأساس تُبنى عليه الأملاح، والحمض غير العضوي ينشأ من إذابة أكسيد غير المعادن في الماء، واتحاد القواعد مع الحوامض يولد الأملاح. ثم إن أكسيد المعادن الذي يذوب في الماء يسمى (قلوي) ولفظ قلوي نسبة إلى قلي وهي كلمة فارسية معربة تطلق على نبات ينبت بشواطئ البحر يسمى الأشنان، إذا أُحرق تخلف منه رماد يشتمل على كثير من ملح يسمى: (كربونات الصوديوم) ، ومنه يعمل الصابون. وكربونات الصوديوم تسمى بالعربية نطرونًا، ولفظ النطرون أخذ منه اسم العنصر المسمى (صوديوم) فسموه نطريوم، ومن كلمة (قلي) أخذ لفظ قليوم وهو اسم لعنصر (البوتاسيوم) . وأشهر القلويات أكسيد الصوديوم أو النطريوم وأكسيد البوتاسيوم أو القليوم. وإذا أذيب القلوي في الماء تكون منه ما يسمى (هيدرات) أو إيدرات، ومعنى كل منهما (ماء) فإذا قيل هيدرات الصوديوم فمعناه ماء الصوديوم أو بالحري ماء أكسيد الصوديوم. *** أشهر العناصر وأشهر العناصر ما يأتي ١ - الأكسجين. ٢ - الهيدروجين. ٣ - النيتروجين. ٤ - الكلورين. ٥ - الصوديوم. ٦ - البوتاسيوم. ٧ - الكلسيوم. (وهو ما يتركب منه الجير) ٨ - الفُسفُور. ٩ - الكبريت ١٠ - الحديد. ١١ - الكربون (الفحم) . فالأربعة الأول كلها غازات طيَّارة كالهواء، وهي لا لون لها، ما عدا الكلورين فإنه أخضر اللون، وهو معنى اسمه باليونانية. وأما الصوديوم والبوتاسيوم وإلخ فهي أجسام صلبة. *** العناصر المركبة في الجسم ويتركب من هذه العناصر أجسام أخرى مركبة تدخل في جسم الإنسان وهي تنحصر في خمسة أنواع ١ - الماء ٢ - المواد الزلالية ٣ - المواد الدهنية ٤ - المواد السكرية والنشوية ونحوها ٥ - أملاح عديدة أهمها كلوريد الصوديوم (ملح الطعام) وكربونات الكلسيوم (معدن الجير) وسُلفات الصوديوم (كبريتات) . فأما الماء فهو مركب من الأكسجين والهيدروجين ويدخل في جميع أجزاء الجسم، ومنه يتكون أكبر جزء فيه، وهو من أهم ما يلزم لحياة الجسم، بحيث إن الإنسان وأي حيوان آخر إذا امتنع عنه بضعة أيام يموت قطعًا. وأما المواد الزلالية فهي كزلال البيض (بياضه) وهي مركبة من الأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والكربون (الفحم) والكبريت. وبعضها يدخل فيه الحديد كالمادة المسماة (هيموجلوبين) وهي الداخلة في كرات الدم الحمراء. ويتركب من المواد الزلالية: العظام واللحم والمخ والنخاع وجميع الأحشاء. وأما المواد الدهنية فهي مركبة من الكربون والهيدروجين والأكسجين، وتوجد في الغالب تحت الجلد وحول الأحشاء في البطن وغيره. ثم إن هذه العناصر الثلاثة الأخيرة يتركب منها الغلسرين وأحماض عضوية. فالأحماض العضوية هي التي لا تتكون بنفسها إلا في أعضاء النباتات والحيوانات. وباجتماع الغلسرين مع الأحماض العضوية ينشأ الدهن والزيوت الثابتة (مثل زيت السمك وزيت الزيتون) أما الزيوت غير الثابتة فهي مثل زيوت الروائح العطرية، وتركيبها يختلف عن ذلك كثيرًا. وأما المواد النشوية والسكرية ونحوها فتسمى في علم الكيمياء (بالكربوهيدرات) لأنها مركبة من الكربون والهيدروجين والأكسجين، والفرق بينها وبين المواد الدهنية هو في عدد الذرات وفي وضع بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر. والمواد السكرية والنشوية توجد بكثرة في الدم والكبد، فيوجد في الدم سكر العسل وفي الكبد نوع من النشا يسمى النشا الحيواني (الجليكوجين) . واعلم أن الياء والكاف (يك) إذا أضيفتا إلى آخر اسم الحامض دَلَّتَا على أن فيه أكسجين كثيرًا، والواو والزاي (وز) يدلان على أكسجين قليل، ولفظ (فوق) يدل على أن الأكسجين أكثر مما في الحمض المنتهي بالياء والكاف ولفظ (تحت) يدل على أنه أقل الحوامض التي من نوعه في الأكسجين، مثال ذلك: ١ً - فوق حامض الكلوريك: فيه ٤ ذرات من الأكسجين. ٢ً - وحامض الكلوريك: فيه ٣ ذرات من الأكسجين. ٣ً - وحامض الكلوروز: فيه ٢ ذرات من الأكسجين. ٤ً - وتحت حامض الكلوروز: فيه ١ ذرة من الأكسجين. والملح الذي ينشأ من الأول يسمى (فوق كلورات) والذي ينشأ من الثاني (كلورات) والذي ينشأ من الثالث (كلوريت) والذي ينشأ من الرابع (تحت كلوريت) . وكل ياء ودال (يد) يدلان على أن الجسم مركب من عنصرين فقط مثل كلوريد الصوديوم فإنه مركب من عنصرين فقط هما الكلورين والصوديوم، ولأجل تمييز الحوامض عن القلويات يستعمل ورق عباد الشمس Litmus فالحمض يصيره أحمر، والقلوي يصيره أزرق، والملح لا يغير لونه ويسمى (متعادلاً) . *** الاتحاد والمزج بقيت مسألة واحدة تتعلق بموضوع الكيمياء وهي الفرق بين الاتحاد وبين الخلط أو المزج. فالاتحاد معناه الارتباط والانضمام، والخلط والمزج معناهما ظاهر. وهناك في علم الكيمياء ثلاثة فروق كبيرة بين الاتحاد وبين الخلط أو المزج. (١) ففي حالة الاتحاد ينشأ مركب يخالف في صفاته وخواصه وطبائعه صفات أجزائه التي يتركب منها. وفي حالة الخلط أو المزج ليس الأمر كذلك، مثال ذلك الخشب فإن له صفات تغاير صفات عناصره كل المغايرة، وإذا خلطنا السكر مع الفحم بقي كل منهما حافظًا لصفاته وخواصه، وهناك مثال آخر وهو الماء والهواء، فالماء مركب متحد، والهواء مركب ممزوج. (٢) أن الاتحاد الكيماوي يكون دائمًا بنسب ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، والنسب في الخلط ليست ملتزمة. (٣) أن الاتحاد الكيماوي قد يولد حرارة وكهرباء، والخلط لا يولد شيئًا منها. *** النبذة الثانية في علم الطبيعة (Physics) علم الطبيعة هو علم ظواهر المادة يُبحث فيه عن طباعها وخواصها وقواها فهو علم الظاهر، والكيمياء علم الباطن. أما قوى المادة فمعناها حركات جواهرها (ذراتها) المختلفة، وتنشأ منها أعراض كثيرة أهمها ما نسميه بالكهرباء والحرارة والنور والمغناطيس؛ فإن الأشياء الأربعة ليست إلا حركات مختلفة لذرات المادة. ثم إن المادة لها ثلاثة أحوال: (١) اليبوسة. (٢) السيولة. (٣) البخارية أو الغازية، ويسمى الجسم في الحالة الأخيرة: الساطع أو الريح أو البخار وبالإفرنجية الغاز. واختلاف هذه الأحوال الثلاثة إنما نشأ من اختلاف مقدار الحرارة الموجودة في كل منها، فذرّات الغاز أشدَّها اضطرابًا وأكثرها حركة وحرارة، وذرات الجامد (اليابس) أقلها حركة وحرارة، وذرات السائل متوسطة بين الحالتين في الحرارة والحركة. فلا يمكننا تحويل الجسم من حالة اليبوسة إلى حالة السيولة إلا بالحرارة ولا يمكننا تحويله من حالة السيولة إلى الحالة الغازية إلا بالحرارة أيضًا. وكذلك الحالة في إذابة جميع الأجسام الجامدة في السوائل فإنها تمتص الحرارة من الأجسام المجاورة لها فإذا أذبنا مثلاً الملح الإنكليزي في الماء أحسسنا ببرودة في الإناء بسبب امتصاص حرارته لأجل الإذابة. والحرارة نوعان: حرارة كامنة وهي منصرفة في تفريق ذرات المادة ولا يمكن الإحساس بها، وحرارة ظاهرة وهي التي يشعر بها الإنسان. *** سنن التجاذب وأنواع التجاذب بين ذرات المادة تجاذب يظهر في أجرامها العظيمة كالكواكب، وفي أجرامها الصغيرة كالحصى، ويشاهد هذا الجذب بين القمر والأرض مثلاً في ماء البحار فيحصل فيه ما يسمى بالمد. ويُسمى هذا التجاذب بأسماء مختلفة باختلاف الأحوال: فالتجاذب بين ذرَّات الجسم الواحد كالحصى يسمى قوة الانضمام؛ وبالإنكليزية Cohesion والتجاذب بين جسمين مختلفين كالجدار وطلائه يسمى قوة الالتصاق؛ وبالإنكليزية Adhesion وبين الأرض وما عليها يسمى قوة الجذب Gravitation وكل ثقل لأي جسم إنما هو ناشئ من هذا الجذب الأرضي. واختلاف الأثقال هو ناشئ عن اختلاف عدد الذرات، فالجسم الثقيل هو ما كانت ذراته كثيرة، والجسم الخفيف هو ما كانت ذراته قليلة. وكل ما نعرفه ونشاهده على الأرض من الأجسام حتى الهواء له ثقل تسبب عن جذب الأرض له. وثقل الهواء على الأجسام يسمى الضغط الجوي، ولقياسه يستعمل البارومتر. أما البارومتر فهي كلمة يونانية معناها: (مقياس الثقل) أي ثقل الهواء وأبسط طريقة لصناعته أن تملأ أنبوبة زجاجية بالزئبق عادة طولها ٩٠ سنتي مترًا وقطرها سنتي واحد ثم تسد بالإصبع وتغطس فتحتها في إناء مملوء بالزئبق ثم يرفع الإصبع فترى أن الزئبق ينزل في الأنبوبة ويترك مسافة فارغة في أعلاها ويكون ارتفاع الزئبق في الأنبوبة عن سطح الزئبق الذي في الإناء نحو ٧٦ سنتي مترًا، والذي رفعه إلى هذه المسافة هو ضغط الهواء على سطح الزئبق الذي في الإناء. ويمكن أيضًا عمل البارومتر بأنبوبة على شكل حرف (ل) مسدودة من طرفها الأعلى ومفتوحة من الأسفل فيبقى الزئبق مرفوعًا كما في الطريقة الأولى. ومن فوائد البارومتر معرفة ارتفاع الجبال وغيرها كالمناطيد؛ لأن الزئبق ينزل في الأنبوبة كلما ارتفعنا لخفة الهواء في الأماكن العالية، وكذلك نعرف منه قرب حصول المطر؛ فإن الهواء المشبع بالرطوبة أخف من الهواء الجاف فينخفض الزئبق إذا اقترب المطر. *** تمدد الأجسام ومقياس الحرارة وجميع الأجسام تتمدد بالحرارة في جميع جهاتها أي يكبر حجمها بسبب تفرق أجزائها فتتسع المسام التي بينها، وتنكمش أيضًا بالبرودة أي يصغر حجمها وتقل المسافات (المسام) التي بين ذراتها. وعلى هذه القاعدة بني مقياس الحرارة Thermometer وهو عبارة عن أنبوبة من الزجاج فارغة من الهواء يوضع في أسفلها الزئبق ثم يبرد بالثلج حين ذوبانه حتى يصل إلى أصغر حجمه ثم توضع في بخار الماء الذي يغلي حتى يصل الزئبق في الأنبوبة إلى أكبر حجمه. وتسمى النقطة الأولى التي وصل إليها الزئبق بالتبريد (نقطة الصفر) وهي درجة الجليد. أي التي يجمد بها الماء فيكون جليدًا والنقطة الثانية التي وصل إليها بالتسخين (نقطة المئة) وهي درجة الغليان - أي للماء - ثم تقسم المسافة التي بين هاتين النقطتين إلى مائة قسم يسمى كل قسم منها درجة ويرمز للدرجة بدائرة صغيرة كرقم (٥) فإذا وضعت بجانب عدد كان المراد أنه عدد الدرجات كما ترى قريبًا وقد يوضع في هذه الأنبوبة مواد أخرى غير الزئبق كالكحول (روح الخمر أو السبرتو) . وفي بعض البلاد يقسمون المسافة التي بين النقطتين المذكورتين إلى ٨٠ قسمًا أو درجة، وفي هذا المقياس تكون الدرجة أكبر من درجة المقياس الأول، وقد يقسمون هذه المسافة أيضًا إلى ١٨٠ قسمًا فتكون الدرجة أصغر، ويضعون في هذا المقياس الأخير بدل الصفر رقم ٣٢ وبدل ١٠٠ رقم ٢١٢. ويسمى المقياس الأول بالمقياس المئيني Centigrade (سنتجراد) . ويسمى المقياس الثاني مقياس (ريومر) والمقياس الثالث يسمى مقياس (فهرنهيت) وأكثر هذه المقاييس استعمالاً في مصر وفرنسا هو الأول ويليه الثالث كما في بلاد الإنكليز، وأما الثاني فهو قليل الاستعمال. أما حرارة الجسم الإنساني الطبيعية فهي بالمقياس الأول من ٣٦ درجة صباحًا إلى ٣٧ درجة مساءً، وبالمقياس الثالث من ٩٨ درجة إلى ٩٩ درجة تقريبًا. وكل درجة من هذه الدرجات تقسم إلى عشرة أقسام، فالخمسة منها هي نصف الدرجة وهكذا. وطريقة معرفة حرارة الإنسان أن يوضع المقياس في أي جزء من الجسم بحيث يكون محاطًا باللحم من جميع الجهات مدة ثلاث دقائق تقريبًا. وأشهر هذه الأماكن تحت اللسان وتحت الإبط وقد تؤخذ الحرارة أيضًا من الشرج وذلك في الأنعام والأطفال. والحيوانات تنقسم إلى قسمين باعتبار الحرارة: القسم الأول: الحيوانات ذوات الدم الحار كالإنسان والخيل والسباع والطيور وغيرها. والقسم الثاني: ذوات الدم البارد كالضفادع والأسماك والزواحف. فحيوانات القسم الأول تبقى حرارتها على حالة واحدة تقريبًا في الحر والبرد، في أواسط الأرض عند خط الاستواء، وفي أعلاها عند المتجمد الشمالي مثلاً. وحيوانات القسم الثاني تختلف حرارتها باختلاف البيئة (الوسط) فترتفع حرارتها إذا كان المكان ساخنًا وتنخفض إذا كان باردًا. أما الإنسان فإذا قلت حرارته عن ٣٥ أو ارتفعت عن ٤٤ مات غالبًا، وارتفاع الحرارة هو ما يسمى بالحمى، وانخفاضها يسمى بالهمود (أو الهبوط) وهو الحالة التي يكون الإنسان فيها عند الموت عادة. *** المادة وقواها إن جميع الأجسام وقواها المشاهدة في هذا العالم لا توجد الآن من العدم ولا تقبل العدم أو الزوال، وذلك بحسب استقرائنا الحالي وعلى ذلك يجب علينا أن نبين مصادر (أو منابع الحرارة) في العالم؛ حيث لا تنبعث من العدم. مصادر الحرارة للحرارة مصدران: طبيعي وصناعي. (١) أما المصدر الطبيعي فهو الشمس، وباقي الشموس الأخرى المسماة عندنا بالنجوم الثابتة، والحرارة التي فيها إنما تنشأ من احتراق أجزائها. والاحتراق عبارة عن اتحاد الأجزاء بعضها مع بعض اتحادًا كيماويًّا، وأهم أنواع الاحتراق المشاهد في هذه الأرض ما يحصل من اتحاد الفحم مع الأكسجين، والهيدروجين مع الأكسجين أيضًا. والاحتراق لا يعدم المادة وإنما يحولها إلى صور وأشكال أخرى. (٢) وأما المصدر الصناعي فهو ينشأ من الأسباب الآتية: (أ) الاحتكاك. (ب) القرع؛ كقدح الزناد الحجرية أو زناد الآلات النارية (البنادق) . (ج) التفاعل الكيماوي أو الاتحاد الكيماوي (كاحتراق الخشب) . (د) التيار الكهربائي (كالأتون الكهربائي) . فالحرارة الحيوانية تتولد في الجسم من الاحتراق من الشمس، ومن الحركات الجثمانية الظاهرة والباطنة. وأهم احتراق يحصل في الجسم هو اتحاد ما يوجد فيه من الفحم أو الهيدروجين بأكسجين الهواء. والفرق بين اشتعال الجسم الإنساني وبين اشتعال غيره أن اشتعال الجسم تدريجي بطيء واشتعال الآخر سريع شديد. ويتولد من اتحاد الفحم مع الأكسجين غاز يسمى (ثاني أكسيد الفحم) ويرمز إليه هكذا (ك أ ٢) [٤] ومن اتحاد الهيدروجين مع الأكسجين يتولد الماء ويرمز إليه هكذا (هـ ٢ أ) ، وهذان الجسمان ينشآن أيضًا من احتراق كثير من أجسام أخرى كالخشب والشمع وزيت البترول [٥] . ولخروج الحرارة من الجسم الإنساني عدة طرق: (١) طريق التوصيل وذلك بسريان الحرارة من الجسم الإنساني إلى جميع الأجسام المحيطة به كالملابس والفرش والهواء. (٢) الإشعاع، أي خروج الحرارة من الجسم بشكل أشعة كأشعة النور منبعثة في جميع الجهات، وسريانها هذا يكون في الأثير. (٣) طريقة الحمل وذلك يكون بحمل الهواء المحيط بالجسم للحرارة وارتفاعه بسبب خفته وحلول هواء آخر بارد محله؛ فإن الهواء الحار أخف من الهواء البارد. (٤) طريقة الإفرازات كالبول والبراز وغيرهما فإنهما يحملان شيئًا كثيرًا من حرارة الجسم. ومثلهما الهواء الخارج من الرئتين في الشهيق. (٥) التبخر وذلك يكون بتبخر عرق الجسم، ولا يخفى أن تحول الماء إلى بخار يحتاج إلى حرارة كما قلنا سابقًا، فلذلك كان العرق في تبخره مخرجًا لكثير من حرارة الجسم وهو من أهم الطرق المذكورة هنا. فإذا اشتدت حرارة الجو انبعث الدم من داخل الجسم إلى خارجه وملأ الجلد كله وكثر إفراز العرق وقل الاحتراق الداخلي في الجسم حتى لا تزيد الحرارة عن الدرجة الطبيعية. وإذا اشتدت برودة الهواء كثر الاحتراق الداخلي في الجسم وهرب الدم من ظاهره إلى باطنه وامتنع العرق وبذلك تحفظ حرارة الجسم فيه وتبقى في الدرجة الطبيعية. وكل هذه الحركات التي تحصل في الجسم من هروب الدم إلى الباطن وخروجه إلى الظاهر ومن زيادة الاحتراق أو قلته - مدبَّرة بالأعصاب ومركز هذا التدبير في الدماغ أو المخ. فإذا أصيبت مراكز التدبير بأي شيء اختلت وظيفتها، فإما أن يبرد الجسم برودة شديدة أو يسخن سخونة شديدة. وذلك الأخير هو الحمى وقد يموت الشخص بسبب البرودة أو السخونة. والذي يفسد عمل هذه المراكز العصبية المدبِّرة في الغالب سموم تتولد في الجسم من الجراثيم المرضية (الميكروبات) وقد ينشأ اختلال هذه المراكز من إصابات أخرى للدماغ أو آلام شديدة في جزء من أجزاء الجسم كالمغص الكلوي. فأعظم أسباب ارتفاع الحرارة الجثمانية (أي الحمى) شيئان: (١) سموم الميكروبات التي تدور في الدم. (٢) كل ما يؤثر في المراكز العصبية كالألم الشديد أو ضربة الشمس أو غيرهما. ومما تقدم يفهم أن الحمى تتولد في الجسم بثلاثة طرق: (١) زيادة الاحتراق مع خروج الحرارة من الجسم كالمعتاد. (٢) قلة خروج الحرارة عن المعتاد مع كون التولد كالمعتاد. (٣) اجتماع الطريقتين السابقتين بأن يزيد الاحتراق ويقل خروج الحرارة، وهذا أشد طرق الحمى. ففي الأمراض المختلفة المصحوبة بالحمى يحصل أحد هذه الطرق وخصوصًا الأول والثالث منها. فالحمى على ذلك ضرب من ضروب النار. وأفيد عمل لإطفائها بسرعة استعمال الماء البارد مصداقًا للحديث الشريف: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) أي كأنه من حر جهنم أو مما انتشر منها إلى الأرض. ومن الغلط الشائع معالجة الحمى بكثرة التدفئة بالملابس وغيرها فإن ذلك يزيد حرارة الجسم ويضر المريض كما لا يخفى. *** كلمة في الخمر يظن كثير من جهلة الناس أن استعمال الخمور في البلاد الباردة ضروري للحياة، وقد أثبت جميع أطباء العالم بلا خلاف بينهم نقيض هذه الدعوى وظهر لهم أن الخمر من أعظم ما يخفض الحرارة الجثمانية لأسباب: (أحدها) أنها تقلل الاحتراق الداخلي في الجسم المسمى بالتفاعل الحيوي. (ثانيها) أنها تمدد جميع أوعية الجلد وتكثر العرق وبذلك يخرج كثير من حرارة الجسم. (ثالثها) أنها إذا تعوطيت بمقادير كبيرة انتهى الأمر بها إلى إضعاف جميع قوى الجسم فيضعف القلب والدورة الدموية، ولذلك شوهد في البلاد الباردة كثير من الناس الذين تقتلهم الخمر. نعم إن جزءًا منها يحترق في الجسم فيولد فيه حرارة ولكنها لا تعد شيئًا في جانب تبريدها الشديد للجسم كما بيَّنّا. أما الإحساس بالحرارة عقب تعاطيها فذلك ناشئ من ورود الدم بكثرة إلى الجلد لا للزيادة في الاحتراق، فهو إحساس كاذب ضار بالجسم. ومما تقدم يعلم أن الخمر نافعة في تبريد حرارة الجسم إذا أصابته الحمى، وهي كذلك، فإن خير استعمالها طبيًّا هو في الحميات بشرط عدم الاستمرار عليها طويلاً وعدم الإكثار منها، وإلا لأحدثت سرعة في النبض وزادت في هذيان المحموم. وقد تستعمل أيضًا بمقادير قليلة للتنبيه والإنعاش فإنها في أول أمرها وبمقادير قليلة تؤدي إلى تنشيط حركة الجسم؛ ولكن ذلك يعقبه غالبًا - وخصوصًا إذا أخذت بمقادير كبيرة - هبوط ضار في جميع القوى. أضف إلى ذلك مضراتها الأخرى الكثيرة بجميع الأحشاء وغيرها من أجزاء الجسم، فإن الخمر هي من أعظم أسباب جميع الأمراض العقلية والعصبية والجثمانية، وهي تضعف النسل وتورثه بعض ما أصابت به والديه كالصرع مثلاً، ومن أكبر مضاراتها أيضًا أنها تعوق حركة الكرات البيضاء التي في الدم، وبذلك يتغلب كثير من الأمراض على الجسم فتفتك به كما هو مشاهد كثيرًا في السِّكِّيرين فقل أن ينجو منهم أحد أصيب بمرض شديد. وقد يتوهم بعض الناس مما ذكر أن الخمر إذا شربت بمقادير قليلة نفعت الجسم! والحقيقة خلاف ذلك، فإن الإدمان والمواظبة على شرب الخمر ولو قليلاً لمدة طويلة قد ينشأ عنه كثير من الأمراض التي ذكرت، والقليل يجر الكثير حتمًا وإلا لضاعت مزيتها عند الشارب. والمدمن على تعاطيها - ولو باعتدال - هو دائمًا ضعيف القوى بحيث لا يتحمل ما يتحمله غيره من المشاق، وهو أيضًا معرض لكثير من الأمراض المعدية كالسل والحمرة؛ لأن الخمر تقلل مقاومة الجسم لجميع الميكروبات كما قلنا وخصوصًا ميكروب الالتهاب الرئوي. ولذلك لوحظ أن الجنود الإسلامية أقوى الناس تحملاً للمشاق وأقلهم تعرضًا للأمراض. والخلاصة: أن الخمر إذا أخذ منها قليل مرة أو مرتين قد تنفع؛ ولكن الإدمان على قليلها هو ضار جدًّا كالإكثار منها غير أن ضرر القليل بطيء، وضرر الكثير سريع قد يقتل الشخص في أقرب وقت، فهي كما أخبرنا الله تعالى في كتابه: وفيها منافع للناس وإثمها أكبر من نفعها. *** الذوبان وما يتعلق به إذا وضع جزء من السكر أو نحوه في الماء، وترك قليلاً من الزمن مع تحريك السائل أو السكر انحل السكر، كأنه فقد، والحقيقة أنه لا يزال باقيًا في الماء فيعطيه خواصه وصفاته. وإذا مزج قليل من الدقيق بالماء شوهد أنه باق فيه بلا انحلال. فالحالة الأولى تسمى حالة الذوبان والحالة الثانية تسمى حالة التعليق؛ لأن ذرات الجسم الصلب تكون معلقة أو محمولة على ذرات الجسم السائل. وكما يحصل الذوبان في الأجسام الصلبة كذلك يحصل في السوائل والغازات فإذا مزجنا بعض السوائل بالبعض الآخر يشاهد فيها هذا الانحلال (الذوبان) مثال ذلك اختلاط الخل بالماء والخمر به فإنهما يذوبان فيه. وكذلك الغازات فإن بعضها يذوب في السوائل أي تنحل وتمتزج بها امتزاجًا تامًّا كالهواء مع الماء. وكما أن بعض الأجسام الصلبة لا يذوب في بعض السوائل كذلك توجد سوائل لا تذوب فيها كالزيت في الماء. وأحسن طريقة لتعليق الزيت في الماء أن يمزج الماء قبل إضافة الزيت إليه بقليل من الصمغ ويسمى المزيج الحاصل من هذه الأشياء الثلاثة (مستحلبًا) . فمن أمثلة التعليق في الأجسام الحيوانية الدم واللبن؛ فإن الدم مركب من بعض أجسام ذائبة وبعض أجسام غير ذائبة وكذلك اللبن فإن الدهن معلق فيه كتعليق الزيت فيما سميّناه هنا مستحلبًا تشبيهًا له باللبن الحليب (المحلوب) . ويمتاز الجسم المعلق عن الجسم الذائب بما يأتي: (١) إن الجسم المعلق يشاهد بالعين المجردة أو بالآلات المكبرة (الميكروسكوب) . (٢) إذا ترك الجسم المعلق زمنًا ما شوهد أنه ينفصل عن السائل الذي كان معلقًا فيه، فإما أن يصعد إلى أعلى كالزيت أو يسقط إلى أسفل كالدقيق. (٣) إذا وضع السائل المعلق عليه شيء في إناء ناضح نضح السائل وحده وبقي الجسم المعلق في داخله. (٤) توجد آلة تسمى (المبعدة عن المركز) إذا وضع فيها سائل عليه أشياء معلقة وأديرت بسرعة شديدة طردت الأشياء الثقيلة إلى جهة دائر محيطها، واقتربت الخفيفة نحو مركزها، وبذلك يمكن فصل الأجسام المعلقة بعضاه عن بعض، وهذه الآلة تستعمل في فصل زبدة اللبن عنه فنجد فيها الزبدة بقرب المركز لخفتها، وكذلك تستعمل في فصل كريات الدم عن بقيته؛ فتوجد الكريات عند محيطها لثقلها. ولفصل الجسم الذائب عن السائل عنه طريقة شهيرة وهي التبخير السريع أو البطيء. والسائل الذي يبخر إذا برد وجمع يسمى مقطرًا، وهو يكون خاليًا من جميع الأجسام التي كانت ذائبة فيه إلا التي تتصاعد بالحرارة كالروائح الزكية وغيرها. وهذه سنة الله تعالى في استخراج ماء المطر من البحار كما قال الله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: ٣١) ويستعملها الإنسان لاستخراج المِلح لطعامه، ولاستخراج الماء العذب من الماء الملح إذا كان مسافرًا في البحار المحيطة. وتختلف الأجسام في الذوبان باختلاف أنواعها فمنها ما يذوب كثيرًا، ومنها ما يذوب قليلاً، ولها كلها في الذوبان نسب خاصة ثابتة، وكلها تحتاج لحرارة في ذوبانها فتختلف النسَبُ حينئذٍ باختلاف درجة الحرارة، فإذا كانت الحرارة كثيرة ذاب كثير وإذا كانت قليلة ذاب قليل، ولا يستثنى من ذلك إلا أجسام قليلة كمِلح الطعام الذي يذوب في الماء البارد كالساخن مع فرق طفيف. وإذا أذيب في السائل في درجةٍ ما أكبر مقدار يمكن إذابته فيه في هذه الدرجة سمي السائل مشبعًا، وهذه الطريقة تسمى سنة (الإشباع) . وإذا أشبع السائل وهو حار بمقدارٍ ما من الملح ثم برد السائل رسب من الملح ما ذاب في حالة السخونة وبقي مقدار قليل ذائبًا يناسب الدرجة التي وصل إليها الماء في برودته. وهذه الأجسام الراسبة تتخذ أشكالاً هندسية بديعة عجيبة في أثناء رسوبها تسمى (البلورات) وكما أن الرسوب يحصل إذا اختلفت الحرارة من عالية إلى واطئة، كذلك يحصل إذا قل مقدار السائل بالتبخر. ومما يساعد على رسوب الأجسام من السائل المتبخر وجود أي جسم غريب فيه يكون كمبدء للرسوب، وكما أن الرواسب تحصل في الخارج إذا انخفضت حرارة السائل أو وضع فيه جسم غريب، كذلك يجوز أن تتكون الحصوات في الجسم الإنساني (كالحصوات الكلوية والصفراوية) من انخفاض حرارته فجأة في بعض الحميات ومن وجود بعض أجسام غريبة في داخله كبويضات الديدان الطفيلية. وهذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أكثر الحصوات الكلوية هي من حامض البوليك، وهو يكثر إفرازه في الحميات ويرسب في البول إذا اشتدت حموضته؛ فلذا أرى أن الحميات هي من أعظم أسباب الحصوات الكلوية؛ لأن البول يكثر فيه هذا الحامض ويكون شديد الحموضة فلذا يرسب فيه حامض البوليك وأملاحه خصوصًا إذا انخفضت الحرارة. أما ذوبان الغازات في السائل كالماء فإنه يختلف في أحكامه عن الأجسام الصلبة، فالغازات تذوب بكثرة كلما اشتدت برودة السائل وكلما زاد الضغط عليها، وهي في ذوبانها كباقي الأجسام الأخرى تختلف أيضًا باختلاف طبيعتها، فمنها ما يذوب كثيرًا ومنها ما يذوب قليلاً. ولولا ذوبان الهواء في الماء لماتت الحيوانات البحرية، فإنه ضروري لحياتها كالحيوانات البرية سواء بسواء. أما الأكسجين الموجود في الهواء الذائب فهو بنسبة خمسة وثلاثين في المائة من حجمه. وفي الهواء العادي ٢١ % وهذه الحقيقة الأخيرة تثبت أن الأكسجين في الهواء ليس متحدًا اتحادًا كيماويًّا مع النيتروجين؛ بل ممزوجًا به فقط، ولذلك اختلفت النسبة في حالة الذوبان عنها في الجو. ((يتبع بمقال تالٍ))