للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


آثار عن إمبراطور ألمانيا في الشام والقدس

زار إمبراطور ألمانيا وقرينته في دمشق الشام ضريح السلطان صلاح الدين
الأيوبي، ومكث عنده برهة واقفًا ثم بسط يديه كأنه يستنزل عليه الرحمة الإلهية
وأطراه في الثناء قائلاً: إنه كان الآية الكبرى في زمانه في الشهامة والعدل والكرم
ولما انفتلا صنعت الإمبراطورة بيدها إكليلاً بديعًا من الزهر إجابة لطلب
الإمبراطور، وأمر أن يكتب عليه بالعربية: (ويلهلم الثاني قيصر ألمانيا وملك
بروسيا تذكار للبطل السلطان صلاح الدين الأيوبي) .
ألقى الإمبراطور خطبة حيث أقيمت له المأدبة من بلدية دمشق أثنى فيها أطيب
الثناء على الحفاوة التي لقيها في زيارته للشام، وذكر فيها أن من أسباب سروره
وجوده في بلدة عاش فيها من كان أعظم رجال عصره وفريد دهره شجاعة وبسالة،
من كان قدوة الشهامة وطائر الشهرة في الآفاق، السلطان صلاح الدين الأيوبي
الشهير، وأثنى فيها على مولانا السلطان الأعظم صديقه المخلص، وشكره ثم ختم
خطابه بقوله:
وليوقن حضرة صاحب الشوكة السلطان عبد الحميد خان الثاني والثلاث مائة
مليون من المسلمين المرتبطين بمقام خلافته العظمى ارتباطًا قويًّا، والمنتشرين في
جميع أنحاء الكرة الأرضية أن إمبراطور ألمانيا سيبقى محبًّا لهم إلى الأبد (وفي
رواية معضدًا لهم) .
اتفقت الجرائد العربية والأوروبية على شدة سرور الإمبراطور بما لقيه من
الحفاوة في دمشق الشام، وروي عنه أنه قال: إنه لم ير منذ جلس على سرير الملك
جمعًا رحب به وابتهج بلقائه أكثر مما رحب به أهل دمشق الفيحاء. وقد ابتهج في
دمشق بأمور كثيرة، ورأى فيها ما لم يره في غيرها، منها: لعب العرب بالرماح
وبالسيف والترس، ومنها: الرقص المعروف (بالدبكة) ومنها: آثار قديمة رآها
في منزل أحد أمراء بني العظم، وقد أبيح له أن ينتقي منها ما أحب ويأخذه، فانتقت
الإمبراطورة بعض أوانٍ نفيسة، وأعجب بما أهدي إليه من المصنوعات الشامية من
أثاث ورياش. منها: عباءة من الحرير عسلية اللون موشاة بخيوط الذهب والفضة،
وكوفية من الحرير المرزكش أيضًا، وعقال - أهداه تلك متصرف لواء حماة -
فلبسها في الوقت وكان يخرج بها إلى البرية. وقد أهدى الإمبراطور والإمبراطورة
لكثير من الرجال والنساء هدايا نفيسة.
ومما نقلته الجرائد الأجنبية: أن جلالة الإمبراطور أقام احتفالاً في البقعة التي
أهداه إياها صديقه السلطان الأعظم في جبل صهيون، وهي التي يقول المؤرخون:
إنها كانت منزل السيدة العذراء عليها السلام. وقد أهداها الإمبراطور لأبناء رعيته
الكاثوليك، وطير في إثر الاحتفال للحضرة البابوية رسالة برقية قال فيها: (أعد
نفسي سعيدة برفع هذه الرسالة البرقية إلى قداستكم لأعرب لكم عن سروري وامتناني
من رجل الكرم والفضل السلطان عبد الحميد الذي أهداني بقعة أرض مقدسة في
أورشليم، ليبرهن لي على صداقته التي لا أشك بصدقها، فقد وفقني الله للحصول
على منزل السيدة العذراء في أورشليم، وقد وهبته لأبناء بلادي الكاثوليكيين، وإني
ليسرني جدًّا أن أؤكد لقداستكم أن الآثار المقدسة عزيزة لدي، لا سيما ما يختص منها
بالكاثوليك الذين هم تحت حماية إمبراطوريتي ومستظلين بالراية التي جعلتني العناية
الإلهية حاميًا لها. وأرجو من قداستكم قبول خالص شكري واعتباري لكم، وتحققوا
صدق إخلاصي للكرسي الرسولي) فأجابته الحضرة البابوية بالشكر على هذه
الهدية الثمينة التي أهداها للكاثوليك الألمانيين قائلة: إنهم لا شك يقبلونها من جلالتكم
بالشكر الخالص.
لما استعرض الإمبراطور العساكر السلطانية في دمشق أعجب بانتظامها وأثنى
على المدفعية قائلاً لسعادة القومندان: (إنى أهنئك بحسن انتظام مدفعيتك التي هي
كأحسن مدفعيات الدول، وبمثلها تخاض معامع الحروب) وقد شهد للجيش
الشاهاني عقب استعراضه في دار السعادة قائلا: (بمثل هذا الجيش ينبغي أن
يحارب المحاربون) وفي هذه الشهادة من أعظم إمبراطور ما يحق لنا معاشر
العثمانيين الافتخار به لأن سيد القول ما يقول الرئيس.
***
تعصب أوروبا الديني
إمبراطور ألمانيا رجل حربي لأنه رئيس أعظم جيش منظم في العالم اليوم،
وقد كان السلطان صلاح الدين الأيوبي أعظم رجل حربي في عصره، ومن سجايا
البشر أن البارع في شيء يحترم من هو مثله في طبقته، وإن كان خصمه، ولذلك
شواهد كثيرة، وقد عهد في تاريخ الحروب أن الشجاع الباسل يأسف على قرنه
الباسل إذا قتل، ولو بسيفه، وفي هذا المعنى قال بشر لما قتل الأسد:
وقلت له يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدًا وفخرًا
من أجل هذا افتخر الإمبراطور في دمشق بأنه في (بلد عاش فيه ذلك البطل
الهمام الذي دوخ الألمان وسائر الصليبين وأعاد للإسلام سلطته) وأهدى لضريحه
ذلك الإكليل، وقد أعمى التعصب جرائد الألمان عن هذا المعنى، فأقام أصحابها
النكير على الإمبراطور قائلين: إن هذه اللهجة لم تكن تنتظر من إمبراطور يتظاهر
بأنه حامي المسيحيين وملكهم، وزعم بعضهم بأنه نسي التاريخ وأورد نبذة من
تاريخ صلاح الدين، وأنه أسس دولة عظيمة وقهر الفرسان المسيحيين في ملحمة
طبريا وأخذ الصليب الحقيقي وكسر الدولة النصرانية، فاضطر الإمبراطور فردريك
بربروس بأن يأتي لمحاربته، فكسر السلطان جيشه ومات غريقًا، وملك صلاح
الدين البلاد المقدسة النصرانية. قال: هذا هو السلطان الذي كسر الجيوش
المسيحية الغربية، قد قام الإمبراطور الألماني الجديد اليوم يطريه بالمدح والثناء،
فكيف استطاع أن يحرك لسانه بالثناء على رجل هدم معالم الدولة النصرانية وسد
طريقها في أوجه الزائرين ... كل هذا عند القوم وهم يرموننا بالتعصب ويدعون
البراءة منه، فمن لنا بمن ينصفنا منهم بالحجة، ولا حجة إلا القوة، فمن لا يستطيع
أن يفعل لا يستطيع أن يقول.
ومن تعصب أوروبا (والشيء بالشيء يذكر) : اضطهاد اليهود والهياج عليهم
في فرنسا المتمدنة بسبب مسألة دريفوس الذي اتضحت براءته، وقد سرى لهيب
هذا الهياج من باريس إلى الجزائر، وطار بعض شرره إلى تونس ويوشك أن يعم
كل بقعة لفرنسا فيها نفوذ، فليعتبر المعتبرون.