للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة التوحيد للأستاذ الإمام وصالح التونسي

س ٢٩ من أحد طلاب العلم بدمشق الشام.
سيدي الأستاذ الإمام العلامة فيلسوف العصر ونادرة الدهر ناصر السنة وقامع
البدعة من ذكرنا بمناره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) .
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبره وإحسانه نطلب من فضيلتكم كما
عودتمونا نشر الحقائق وإبانة الحق والصدع به بالحكمة والموعظة الحسنة أن
تشرحوا لنا معنى كلام حكيم الشرق الأستاذ الإمام: (هذا النوع من العلم علم تقرير
العقائد وبيان ما جاء في النبوات كان معروفا عند الأمم قبل الإسلام ففي كل أمة كان
القائمون بأمر الدين - إلى قوله: وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس
على لسان نبي مرسل) .... إلخ.
حيث إن جاسوس أبي الهدى وصاحب الفتنة السورية الرمضانية.. . بدأ
بقراءة هذه الرسالة وتتبع ما تشابه منها ابتغاء الفتنة، ولأجل أن يطعن في الأستاذ
الإمام، وصار يحرف الكلم عن مواضعه فأخذ الآن يتبجح ويتكلم عليه ويحرف كلامه
على غير مراده؛ ذلك أنه أَوَّلَ القائمين بأمر الدين بأنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
مستدلاًّ على ذلك بقول الإمام: وتآخى العقل والدين لأول مرة ... إلخ فقال: قوله:
لأول مرة دليل على أن الأنبياء السابقين جاؤوا بدين غير مؤاخ للعقل وهذا ينافي
اعتقاد الإسلام.... إلخ، مع أنه - على ما يظهر من قول الأستاذ الإمام - القائمون
هم رؤساء الأديان الذين حرفوا وابتدعوا.
ولما بلغ صاحب المقتبس محمد أفندي كرد علي هذه الترهات أخذه الغضب لله
عز وجل ولرسوله صلى الله عله وسلم فذكر في مقتبسه اليوم عدد ٣٧٤: أن شيخًا
من مشايخ الجمود فعل كذا وكذا. ليحذر الناس عامة والدمشقيين خاصة من ضلاله
وإضلاله وفساده وإفساده ... ثم سيدي تعلمون أنه كما أن للحق أنصارًا كذلك للباطل
أنصار، ولكن العاقبة للحق كما قال عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ
فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: ١٨) وقال عز وجل:] وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ
إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [والآن جئنا راجين كشف مراد الإمام رضي الله عنه لينجلي
الحق لطالبه وأدام المولى النفع بكم.
(ج) أنتقد قبل الجواب ما جاء في السؤال من الطعن في شخص الشيخ صالح
بما لا حاجة إليه في إيضاح السؤال ولا سيما ما حذفته من ذلك الطعن وإن كنت
جريت في السنين الأخيرة على نشر الأسئلة بنصها ثم أقول:
إن مراد الأستاذ من القائمين بأمر الدين رؤساء الأديان كما فهمتم وصرح بذلك
رحمه الله تعالى في الجامع الأزهر عندما كان يقرأ الرسالة درسًا يحضره الجم الغفير
من المجاورين والعلماء والمدرسين الذين لا يبلغ الشيخ صالح مد أحدهم ولا نصيفه.
والسياق يأبى حمل الكلام على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأنه بحث في تأريخ
علم الكلام الذي يسمى عند النصارى بعلم اللاهوت، وهو علم استحدث بعد الأنبياء
عندنا وعند أهل الكتاب، ناهيك بما قال علماء السلف في ذم هذا العلم عندما ظهر
في أمتنا، وقد ذكر مؤلف الرسالة في درسها بالأزهر بعض مذاهب أهل الكتاب في
المسائل الكلامية المعروفة عندنا ومذاهبهم فيما لا نظير له عندنا كطبيعة المسيح
(عليه السلام) ومشيئته، كل ذلك في شرح هذه العبارة التي حرفها هذا الرجل
بسوء النية والنظر بعين السخط وحملها ما لا تحمل.
ومن دلائل سوء النية إذا صح ما روي لي عنه أنه ضلّل مؤلف الرسالة؛
لأنه بدأها بسورة الفاتحة دون ما اعتاده أكثر المؤلفين من الحمدلة والتصلية، وهذه
العادة وإن كانت حسنة ليست واجبة ولا سنة نبوية متبعة، وحديث (كل أمر ذي
بال) على ما في روايته من المقال، يتحقق العمل به بالقول ولا يتوقف على الكتابة،
ولذلك رأينا كثيرًا من أساطين العلماء لم يذكروا في أول كتبهم حمدلة ولا تصلية بل
بدؤوا بعد البسملة بالمقصود كمختصر الإمام المزني لمذهب الشافعي بل رأينا كتاب
(الأم) للإمام الشافعي لم تذكر التصلية في أوله استقلالاً.
فيا حسرة على الشبان الأذكياء الذين يبتلون بمعلمين يشغلون أذهانهم بمثل هذا
الجهل، ويوهمونهم أنه من دقائق العلم، ويربونهم على استنباط ما يلقي الشقاق والفتن
بين المسلمين، ويغشونهم بأن هذا هوالنصر للدين, ألا يخطر ببال أولئك الطلاب أن
رسالة التوحيد طبعت منذ ثلاث عشرة سنة وقرئت درسًا في الأزهر على أكثر من
ألف أزهري من الطلاب والعلماء، وأعيد طبعها مرتين، وانتشرت في جميع أقطار
الأرض، ودقق النظر فيها كثير من العلماء الذين كانوا يحسدون مؤلفها ويتمنون لو
يجدون له عثرة ينتقدونها، وكثير من العلماء المحبين له الذين يحرصون على تذكيره
إذا نسي وتنبيهه إلى خطئه إذا أخطأ، وأنه لم يسمع من أحد من أولئك ولا هؤلاء
انتقاد على شيء منها إلا ما ذكرناه في السنة الأولى للمنار في انتقاد الشنقيطي،
وأشرنا إليه في مقدمتنا للطبعة الثانية، فلو رأوا فيها غير ما ذكر شيئًا منتقدًا لما سكتوا
عنه مع توفر الدواعي لذكره؛ فإن ما كان يؤثر عن هذه الرجل لم يكن كالذي يؤثر
عن غيره من حيث العناية به وعدمها.
لا أقول: إن إجازة الجماهير من العلماء لشيء هي دليل على كونه صوابًا في
نفسه. وإنما أقول: إنها بالقيد الذي ذكرناه دليل على كون ذلك الشيء موافقًا
لاعتقادهم. فإذا أمكن لأحد أن يماري فيه فلا يكون مراؤه ظاهرًا مقبولاً عند المستقلين
المنصفين. فليتأمل أولئك الطلاب هذا، وليعلموا أنه لا يوجد كلام قط لا يمكن حمله
على غير المراد منه حملاً يقبله الكثير من الناس المشتغلين بالعلم. وليطالعوا كتاب
حجج القرآن، ويتأملوا كيف استدل جميع أصحاب المذاهب المبتدعة في الإسلام
بآياته التي هي في منتهى البلاغة في البيان على تلك المذاهب المتناقضة {يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (البقرة: ٢٦) .
هذا، وإن للأستاذ الإمام منزعًا عاليًا في تآخي الدين والعقل في الإسلام لا يدرك
مثل الشيخ صالح مرماه فيه، وقد بينه رحمه الله في سياق حكمة كون الإسلام آخر
الأديان، وكون نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا يفهمه مثل الشيخ
صالح؛ لأن فهمه يتوقف على المعرفة أو الإلمام بتأريخ الأمم والأديان وعلم الاجتماع
البشري، وسنن الله تعالى في الترقي، وحكمته في نسخ الشريعة المتقدمة بخير منها،
وبما عند الله أهل الكتاب من كتب الأنبياء عليهم السلام، وبمسألة تحريفها هل هو
لفظي أم معنوي فقط كما يقول أئمة الحديث كالبخاري، على أنه لو قرأها بحسن النية
والإخلاص؛ لاستفاد منها في دينه ما لا يستفيده من كتاب آخر من كتب العقائد
المعروفة، ولكنه ينوي بقراءتها تلمس عبارة يمكن حملها بالتحريف والتأويل على
غير ما وضعت له ولكل امرئ ما نوى، لا أعجب لتصديه للإنكار على رسالة
التوحيد دون الكتب الكثيرة المؤلفة في الطعن في الإسلام نفسه، والكتب التي نشرها
بعض الجاهلين من المسلمين ومحشوة بما يتبرأ منه الإسلام، ومنها ما هو منسوب
لطائفته الرفاعية التي فيها أن الشيخ أحمد الرفاعي وصل إلى درجة صارت
السموات السبع في رجله كالخلخال، وأن الله تعالى وعده أن لا تحرق النار جسدًا
يمسه هو أو أحد خلفائه إلى يوم القيامة!!
لا أعجب له بعد أن ترك دروسه في الشام وجاء الآستانة ليسعى في إبطال ما
قام به بعض العلماء والفضلاء هنا من تأسيس جمعية إسلامية لأجل إنشاء مدرسة
إسلامية عربية عالية لتربية العلماء والمرشدين الجامعين بين التقوى وعلم الدنيا
والدين والاستعانة بهم على تعميم التعليم الإسلامي، وهي أول جمعية أسست في
الإسلام للقيام بهذه الفريضة أو الفرائض الكثيرة.
شبهته في مقاومة هذا العمل الإسلامي العظيم على ما بلغني عنه أن الداعي إليه
وهابي يخشى أن يبث في المدرسة مذهب الوهابية، ولماذا لم يسع في إبطال جميع
مدارس الحكومة التي تقرأ فيها العلوم الطبيعية التي يرى هو كفر جميع الذين
يقرؤونها وإنا على كوننا لا نرى رأيه هذا نعلم أن الكثيرين يخرجون من هذه
المدارس بغير دين؛ لأن الدين لا يعلم فيها على وجهه الصحيح المعقول، ومنها ما لا
دين فيها ألبتة، ولماذا لم يسع في إبطال مدارس الجمعيات النصرانية التي تعلم
أولاد المسلمين مع العلوم الطبيعية دين النصارى وتجبرهم على حضور عبادتهم في
الكنائس؟ ألم يجد خدمة يخدم بها الإسلام إلا السعي في مقاومة جمعية إسلامية
غرضها إغناء المسلمين عن مدارس غيرهم ورفع هذه الشبهات الهاجمة عليهم من
تعليم العلوم والفنون الدنيوية لا ترى الدولة ولا الأمة لها غنى عنها؟! أما شبهته تلك
فمدفوعة من وجهين:
(١) إن الداعي إلى هذا العمل لخدمة الدين والدولة والأمة ليس وهّابيًّا؛ لأنه
ليس مقلدًا في عقيدته بل هو ناصب نفسه للدفاع بالبرهان عن عقائد الإسلام المثبتة
في كتابه وسنته وسيرة سلفه الصالح، ويقبل انتقاد كل منتقد ومناظرة كل مناظر فلماذا
لم يكتب إليه ببيان ما يزعم أنه أخطأ فيه؟
(٢) لو فرضنا أنه وهابي فماذا تضر وهابيته هذا العلم الذي يقوم به
جمهور من العلماء ويكون تحت مراقبة جمعية علمية مؤلفة من جميع علماء الأرض؟
إن الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر قد كان سبب تأليفها مشعوذ روسي فهل نقص
ذلك من قدرها أو حال دون انتفاع المسلمين بها؟ يا حسرة على مسلمي هذا الزمان
أصبح بأسهم بينهم شديد وضعفوا أمام جميع الأمم فهم يخربون بيوتهم بأيديهم ولا
يقاومون إلا من يسعى لخيرهم ورفعة شأنهم وحفظ دينهم ودنياهم، ولا يقنطنا هذا من
رحمة ربنا والسعي فيما أوجبه علينا فالله لا يصلح عمل المفسدين، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ
مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: ٤٠) .