للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بن تيمية


أهل الصُّفَة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء
وأصنافهم والدعاوى فيهم
لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين ابن تيمية قدس سره
تابع لما قبله

(فصل) وأما الحديث المروي: (ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي
لله) [١] فمن الأكاذيب، ليس في دواوين الإسلام، وكيف والجماعة قد تكون كفارًا
وفساقًا يموتون على ذلك.
(فصل) وأولياء الله تعالى هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما ذكر الله ذلك في
كتابه، وهم قسمان: المقتصدون أصحاب اليمين والمقربون السابقون، فولي الله
ضد عدو الله، قال الله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: ٦٢-٦٣) وقال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن
يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ} (المائدة: ٥٥-٥٦)
وقال: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الممتحنة: ١) وقال: {وَيَوْمَ
يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (فصلت: ١٩) وقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (الكهف: ٥٠) .
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد
بارزني بالمحاربة، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي
المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء
ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت
سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي
بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يسعى) .
والولي: من الوَلْيِ [٢] وهو القرب، كما أن العدو من العَدْو وهو البُعْد، فولي
الله مَن والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من
طاعاته، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصنفين: المقتصدون [٣]
أصحاب اليمين، وهم المتقربون إلى الله تعالى بالواجبات، والسابقون المقربون
وهم المتقربون بالنوافل بعد الواجبات. وذكرهم الله في سورة فاطر والواقعة
والإنسان والمطففين وأخبر أن الشراب الذي يُرْوَى به المقربون بشربهم إياه يُمْزَج
لأصحاب اليمين. والولي المطلق هو مَن مات على ذلك، فأما إن قام به الإيمان
والتقوى وكان في علم الله تعالى أنه يرتد عن ذلك فهل يكون في حال إيمانه وتقواه
وليًّا لله أو يقال لم يكن وليًّا لله قط لعلم الله بعاقبة هدايته؟ قولان للعلماء.
وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة
ما يحبط من الأعمال بعد كماله؟ أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب
الشمس في صيامه، ومن أحدث قبل السلام في صلاته أيضًا؟ فيه قولان للفقهاء
المتكلمين والصوفية، والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام
أحمد وغيرهم.
وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم. ولكن أكثر
أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة، وكثير من أصحاب مالك والشافعي
شرط سلامة العاقبة، وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث كالأشعري ومن
متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع هل ولي الله يصير عدو الله؟ وبالعكس،
ومن أحبه الله ورضي عنه هل أبغضه الله وسخط عليه في وقت ما؟ وبالعكس،
ومن أبغضه الله وسخط عليه هل أحبه الله ورضي عنه في وقت ما؟ على القولين.
والتحقيق - وهو الجمع بين القولين - فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من
محبته ورضاه وبغضه وسخطه وولايته وعداوته لا يتغير، فمن علم الله منه أنه
يوافي حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلقت به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلاً
وأبدًا.
وكذلك من علم الله منه أنه يوافي حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله
وعداوته وسخطه أزلاً وأبدًا لكن مع ذلك فإن الله يبغض ما قام بالأول من كفر
وفسوق قبل موته، وقد يقال: إنه يبغضه ويمقته على ذلك كما ينهاه عن ذلك،
وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى ويحب ما يأمر به
ويرضاه. وقد قال: إنه يوليه حينئذٍ على ذلك.
والدليل على ذلك اتفاق الأمة على أن مَن كان مؤمنًا ثم ارتد فإنه لا يُحْكَم بأن
إيمانه الأول كان فاسدًا بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال، وإنما
يقال كما قال الله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: ٥)
وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: ٦٥) وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا
لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: ٨٨) ولو كان فاسدًا في نفسه لوجب أن
يُحْكَم بفساد أنكحته المتقدمة وتحريم ذبائحه وبطلان عباداته جميعها حتى لو كان حج
عن غيره كان حجه باطلاً، ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان لهم أن يعيدوا صلاتهم
خلفه، ولو شهد أو حكم ثم ارتد أن تفسد شهادته وحكمه ونحو ذلك. وكذلك أيضًا
الكافر إذا تاب من كفره فلو كان محبوبًا لله وليًّا له في حال كفره لوجب أن يقضى
بعدم أحكام ذلك الكفر، وهذه كلها خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.
والكلام في هذه المسألة نظير الكلام في الآجال والأرزاق ونحو ذلك، وهي
أيضًا على قاعدة الصفات الفعلية وهي قاعدة كبيرة، وعلى هذا يخرج جواب السائل.
فمن قال: إن ولي الله لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى
فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره. ومن قال: قد يكون ولي الله من كان مؤمنًا
تقيًّا وأن يعلم عاقبته، فالعلم بذلك أسهل، ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه
ولغيره، ولكنه قليل ولا يجوز التهجم بالقطع علي ذلك. فمن ثبتت ولايته لله
بالنص وأنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له
به النص. وأما من شاع له لسان صدق من الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء
عليه فهل يشهد له بذلك؟ هذا فيه نزاع بين أهل السنة والأشبه أن يشهد له بذلك،
هذا في الأمر العام.
وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما يكشفه الله لهم. لكن ليس
هذا مما يجب التصديق العام به، فإن كثيرًا مما يظن به أنه حصل له هذا الكشف
يكون ظانًّا في ذلك ظنًّا لا يغني من الحق شيئًا، وأهل المكاشفات والمخاطبات
يصيبون تارة ويخطئون أخرى كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد؛ ولهذا
وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله وأن يزنوا مواجيدهم
ومشاهداتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن
سيد المحدثين المخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، وقد كان تقع له وقائع يردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه
التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المُحَدَّث الذي يحدث نفسه عن ربه؛ ولهذا
أوجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في جميع
أمورهم الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على
الكتاب والسنة لكان مستغنيًا عن الرسول في بعض دينه، وهذا من أقوال المارقين
الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى، ومن قال هذا
فهو كافر. وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ} (الحج: ٥٢) فقد ضمن الله للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في
أمنيته، ولم يضمن ذلك للمحدث، ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن
عباس وغيره: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى
ألقى الشيطان في أمنيته) .
ويحتمل -والله أعلم- أن يكون هذا الحرف متلوًّا حيث لم يضمن نسخ ما ألقى
الشيطان، فأما نسخ ما ألقى الشيطان فليس إلا للأنبياء والمرسلين؛ إذ هم
معصومون فيما يبلغون عن الله تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان،
وغيرهم لا يجب عصمته من ذلك، وإن كان من أولياء الله المتقين، فليس من
شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأً مغفورًا لهم،
بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر
الذي تعقبه التوبة، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
المُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ
الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الزمر: ٣٣-٣٥) فقد
وصفهم الله تعالى بأنهم هم المتقون؛ والمتقون هم أولياء الله، ومع هذا بإجزائه،
ويكفر عنهم أسوأ الذي عملوا [٤] ، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان،
وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض
المشايخ، ومن يعتقدون أنه من الأولياء، فالرافضة تزعم أن الاثني عشر
معصومون من الخطأ والذنب، ويرون هذا من أصول دينهم، والغالية في المشايخ
قد يقولون: إن الولي محفوظ والنبي معصوم، وكثير منهم لم يقل ذلك بلسانه،
فحاله حال من يرى أن الشيخ أو الولي لا يخطئ ولا يذنب، وقد يبلغ الغلو
بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي أو أفضل منه، وإن
زادوا الأمر جعلوا له نوعًا من الإلهية، وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهئة
للضلالات النصرانية، فإن في النصارى من الغلو في المسيح والرهبان والأحبار ما
ذمهم الله عليه في القرآن وجعل ذلك عبرة لنا لئلا نسلك سبيلهم؛ ولهذا قال سيد ولد
آدم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد
الله ورسوله) .
(فصل) وأما الفقراء الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه فهم صنفان: مستحقو
الصدقات، ومستحقو الفيء، أما المستحقون للصدقات فقد ذكرهم الله في قوله:
{إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة:
٢٧١) وفي قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... } (التوبة: ٦٠) وإذ
ذكر في القرآن اسم المسكين وحده أو الفقير وحده كقوله {ِإطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (المائدة: ٨٩) فهما شيء واحد، وإذا ذكرا جميعها فهما صنفان.
والمقصود بهما أهل الحاجة، وهم الذين لا يجدون كفايتهم لا من مسألة ولا
من كسب يقدرون عليه، فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من صدقات
المسلمين المفروضة والموقوفة والمنذورة والمُوصَى بها، وبين الفقهاء نزاع في
بعض فروع هذه المسائل معروفة عند أهل العلم.
وضد هؤلاء: الأغنياء الذين تحرم عليهم الصدقة؛ ثم هم نوعان، نوع تجب
عليه الزكاة، وإن كانت الزكاة تجب على من قد تباح له عند جمهور العلماء، ونوع
لا تجب عليه، وكل منهما قد يكون له فضل عن نفقاته الواجبة، وهم الذين قال الله
فيهم: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ} (البقرة: ٢١٩) وقد لا يكون له فضل.
وهؤلاء الذين رزقهم قوت وكفاف فهم أغنياء باعتبار غناهم عن الناس، وهم
فقراء باعتبار أنه ليس لهم فضول يتصدقون بها، وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى
الجنة بنصف يوم؛ لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها،
فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء، وإن لم يكن من أهل الزكاة.
ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم فقد يكونون بعد دخول
الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم، كما يقدم أغنياء الأنبياء
والصديقين عن السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم. ومن هنا قال الفقراء:
ذهب أهل الدثور بالأجور، وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية وامتازوا
عنهم بالعبادات المالية: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فهذا هو الفقير في عرف
الكتاب والسنة.
وقد يكون الفقراء سابقين، وقد يكونون مقتصدين ويكونون ظالمي أنفسهم
كالأغنياء. وفي كلا الطائفتين المؤمن الصديق، والمنافق الزنديق.
وأما المستأخرون فالفقير في عرفهم عبارة عن السالك إلى الله تعالى كما هو
الصوفي في عرفهم أيضًا، ثم منهم من يرجح مسمى الصوفي؛ لأنه عنده الذي
قطع العلائق كلها، ولم يتقيد في الظاهر بغير الأمور الواجبة، وهذه منازعات
لفظية اصطلاحية، والتحقيق أن المراد المحمود بهذين الاسمين داخل في مسمى
الصديق أو الولي والصالح، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة
فمن حيث دخل في الأسماء النبوية يترتب عليه من الحكم ما جاءت به الرسالة.
وأما ما تميز به مما يعده صاحبه فضلاً وليس بفضل، أو مما يوالي عليه
صاحبه غيره، ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها زيادة الدرجة في الدنيا - فهي
أمور مُهْدَرَة في الشريعة إلا إذا جعلت من المباحات من الأمور المستحبات [٥] ،
وأما ما يقترن بذلك من الأمور المكروهة في دين الله من أنواع البدع والفجور
فيجب النهي عنه كما جاءت به الشريعة.
(فصل) وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث
الذي يكون بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين، والنجباء
الثلاثمائة - فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضًا مأثورة عن
النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ (الأبدال) فقد
روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعًا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال أربعين رجلاً،
كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً) .
ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذا الترتيب، ولا هي
مأثورة على هذا الترتيب والمعاني عن المشايخ المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا، وإنما
توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشايخ، وقد قالها إما أثرًا لها عن
غيره أو ذكرًا. وهذا الجنس ونحوه من العلم الذي قد التبس على أكثر المتأخرين حقه
بباطله، فصار فيه من الحق ما يوجب قبوله، ومن الباطل ما يوجب رده. وصار
كثير من الناس فيه على طرفي نقيض: قوم كذَّبوا به كله لما وجدوا فيه من الباطل،
وقوم صدقوا به كله لما وجدوا فيه من الحق، وإنما الصواب التصديق بالحق
والتكذيب بالباطل، وهذا تحقيق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ركوب
هذه الأمة سَنن من كان قبلها حذو القُذَّة بالقُذَّة، فإن أهل الكتابين لبسوا الحق بالباطل،
وهذا هو التبديل والتحريف الذي وقع في دينهم، ولهذا يعتبر [٦] الدين بالتبديل تارة
وبالنسخ أخرى.
وهذا الدين لا يُنْسَخ أبدًا لكن يكون فيه مَن يدخِل فيه من التحريف والتبديل
والكذب والكتمان ما يلبس به الحق بالباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به
الحجة خلفًا عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل
الجاهلين [٧] ؛ ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون. فبالكتب المنزلة
من السماء والآثار من العلوم المأثورة عن الأنبياء يميز الله الحق من الباطل ويحكم
بين الناس فيما اختلفوا فيه.
وبذلك يتبين أن هذه الأسماء على هذا العدد والترتيب والطبقات ليست حقًّا في
كل زمان، بل يجب القطع بأن هذا على عمومه وإطلاقه باطل، فإن المؤمنين
يقلون تارة ويكثرون أخرى ويقل فيهم السابقون المقربون تارة ويكثرون أخرى
وينتقلون في الأمكنة، ليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل
منهم في السابقين المقربين لزوم مكان واحد في جميع الأزمنة، وقد بعث الله رسوله
بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة، ثم أقل من أربعين، ثم أقل
من سبعين ثم أقل من ثلاثمائة، فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد، ومن الممتنع أن
يكون منهم من كان في الكفار.
ثم هاجر هو وأصحابه إلى المدينة وكانت هي دار الهجرة والسنة والنصرة،
ومستقر النبوة وموضع خلافة النبوة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين لأبي بكر
وعثمان وعمر وعلي، وإن كان (علي) قد خرج منها بعد أن بويع له فيها. ومن
الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم مَن يكون أفضل منهم.
ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها وكان في المؤمنين في كل
وقت من أولياء الله المتقين بل من الصديقين السابقين المقربين مَن لا يُحْصي عدده
إلا رب العالمين، لا يحصون بثلاثمائة ولا بثلاثة آلاف، ولما انقرضت القرون
الثلاثة الفاضلة كان أيضًا في القرون الحالية من أولياء الله المتقين بل من السابقين
من جعل لهم عددًا محصورًا لازمًا فهو من المتظلمين (؟) عمدًا أو خطأً.
وأما لفظ الغوث والغياث فلا يستحقه إلا الله تعالى فهو غياث المستغيثين لا
يجوز لأحد الاستغاثة بغيره لا بمَلَك مقرب، ولا نبي مُرْسَل، ومن زعم أن أهل
الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها كشف الضر عنهم ونزول الرحمة بهم،
إلى الثلاثمائة، والثلاثمائة إلى السبعين، والسبعين إلى الأربعين والأربعين إلى
السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الغوث - فهو كاذب ضال مشرك، فقد
كان المشركون كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن
تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: ٦٧) وقال: {أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (النمل: ٦٢) فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم بعدة وسائط من
الحُجَّاب؟! وهو القائل تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ} (البقرة:
١٨٦) .
وقال الخليل عليه السلام داعيًا لأهل مكة: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى
عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ * الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ
إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (إبراهيم: ٣٧ - ٣٩) وقال النبي صلى
الله عليه وسلم لأصحابه لما رفعوا أصواتهم بالتلبية: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم
فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا وإنما تدعون سميعًا قريبًا إن الذي تدعونه أقرب إلى
أحدكم من عنق راحته) .
وهذا باب واسع وقد علم المسلمون كلهم أنه لم يكن عامة المسلمين ولا
مشايخهم المعروفون يرفعون إلى الله حوائجهم لا ظاهرًا ولا باطنًَا بهذه الوسائط
والحُجَّاب، فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من الملوك، وسائر ما يقوله الظالمون
علوًّا كبيرًا.
وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لا بد في كل زمان من إمام معصوم يكون
حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان إلا به، ثم مع هذا يقولون: إنه كان صبيًّا دخل
السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، ولا يعرف له عين ولا أثر ولا يدرك
له حس ولا خبر.
وهؤلاء الذين يدعون هذه المراتب فيهم معناها للرافضة من بعض الوجوه،
بل هذه الترتيب والاعتداد يشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية
ونحوهم في السابق والثاني، والناطق والأساس والجسد وغير ذلك من الترتيب
الذي ما أنزل الله به من سلطان.
وأما الأوتاد فقد يوجد في كلام بعضهم أنه يقول فلان من الأوتاد، ومعنى ذلك أن
الله يثبت به من الدين والإيمان في قلوب من يهديهم الله به كما يثبت الأرض
بأوتادها، وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة، فكل مَن حصل به تثبيت العلم
والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة والجبال الكبيرة، ومن كان
دونه كان بحسبه، وليس ذلك محصورًا في أربعة ولا أقل ولا أكثر، بل جعل هؤلاء
أربعة مضاهاة لقول المنجمين في أوتاد الأرض.
(فصل) وأما القطب فيوجد في كلامهم أيضًا: فلان من الأقطاب وفلان قطب،
فكل من دار عليه أمر من أمور الدين والدنيا باطنًا أو ظاهرًا فهو قطب ذلك الأمر
ومداره، سواء كان الدائر عليه أمر داره أو قرية أو مدينة: أمر دينها أو دنياها
باطنًا أو ظاهرًا، ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر، لكن الممدوح
من ذلك من كان مدارًا لصالح الدين دون مجرد صلاح الدنيا، وهذا هو القطب في
عرفهم، وقد يتفق في عصر آخر أن تكافأ اثنان أو ثلاثة في الفضل عند الله، ولا
يجب أن يكون في كل زمان شخص واحد هو أفضل الخلق عند الله مطلقًا.
وكذلك لفظ (البدل) جاء في كلام كثير منهم، فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه
ليس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الإيمان كان بالحجاز واليمن قبل فتوح
الشام وكانت الشام والعراق دار كفر، ثم في خلافة علي قد ثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: (تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين يقتلهم أولى
الطائفتين بالحق) فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام،
ومعلوم أن الذين كانوا مع علي من الصحابة مثل عمار وسهل بن حنيف ونحوهما
كانوا أفضل من الذين مع معاوية وإن كان سعد بن أبي وقاص ونحوه من القاعدين
أفضل ممن كان معهم، فكيف يُعْتَقَد مع هذا أن الأبدال جميعهم الذين هم أفضل
الخلق كانوا في أهل الشام؟ هذا باطل قطعًا، وإن كان قد ورد في الشام وأهله
فضائل معروفة فقد جعل الله لكل شيء قدرًا.
والكلام يجب أن يكون بالعلم وبالقسط فمن تكلم في الدين بغير علم دخل في
قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: ٣٦) وفي قوله: {وَأَن
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ١٦٩) ومن لم يتكلم بقسط وعدل خرج
من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (النساء:
١٣٥) ومن قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الأنعام: ١٥٢) {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: ٢٥) .
والذين تكلموا باسم البدل فَرَّدُوهُ بمعانٍ: منها أنهم أبدال، ومنها أنهم كلما مات
منهم رجل أبدل الله مكانه رجلاً، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم
وعقائدهم بالحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا أكثر،
ولا تُحْصَر بأهل بقعة من الأرض، وبهذا التحرير يظهر المعنيّ باسم النجباء.
فالغرض أن هذه الأسماء تارة تفسر بمعان باطلة بالكتاب والسنة وإجماع السلف
مثل تفسير بعضهم بأن الغوث هو الذي يغيث الله به أهل الأرض من رزقهم
ونصرهم. فإن هذا نظير ما تقوله النصارى في الباب، وهو معدوم بالعلم والأثر،
وتشبيه بحال المنتظر الذي دخل السرداب من نحو أربعمائة وأربعين سنة، وكذلك من
فسر الأربعين الأبدال بأن الناس إنما يُنْصَرُونَ ويُرْزَقُونَ بهم، فذلك باطل، بل النصر
والرزق يحصل بأسباب من أوكدها دعاء المسلمين المؤمنين وصلاتهم وإخلاصهم ولا
يتقيد ذلك لا بأربعين ولا بأقل ولا أكثر كما في الحديث المعروف أن سعد بن أبي
وقاص قال: يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم أيسهم له مثل ما يسهم لضعفتهم؟
فقال: يا سعد وهل تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلا بضعفائكم؟ بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم)
وقد يكون للنصر والرزق أسباب أخر، فإن الكفار أيضًا والفجار ينصرون ويرزقون.
وقد يجدب الله الأرض على المؤمنين ويخيفهم من عدوهم؛ لينيبوا إليه ويتوبوا من
ذنوبهم، فيجمع لهم بين غفران الذنوب وتفريج الكروب، وقد يملي للكفار ويرسل
السماء عليهم مدرارًا ويمدهم بأموال وبنين ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، إما
ليأخذهم في الدنيا أخذ عزيز مقتدر، وإما ليضاعف عليهم العذاب في الآخرة، فليس
كل إنعام كرامة، ولا كل امتحان عقوبة، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا
ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ} (الفجر: ١٥-١٧) .
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))