للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاحتفال السنوي بمدرسة الجمعية الخيرية
وخطبة المفتي

في أصيل يوم الجمعة ٢١ ربيع الأول احتفل في قبة الغوري الاحتفال السنوي
المعتاد بمدرسة الجميعة الخيرية الإسلامية في القاهرة، وقد أجاب دعوة رئيس
الجمعية الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية والجم الغفير من
الفضلاء والوجهاء حضروا الاحتفال، ابتدأ أحد التلامذة بترتيل آيات من
سورة الفتح، ثم ارتقى أحد التلامذة الدكة التي يختبر عليها التلامذة فأعطي كتابًا
ففتحه وقرأ فيه جملة صالحة قراءة صحيحة فسأله الرئيس بيان معناها فبينه، ثم
اختبر آخرون بالإعراب وبالحساب وبرسم خريطة أفريقيا وبالتاريخ الطبيعي ككيفية
الدورة الدموية وقرأ بعضهم مقالات محفوظة في فوائد الصوم وفوائد التربية وغير
ذلك فأحسنوا جميعًا وصفق لهم النادس مرات متعددة.
وأنكر الأستاذ الشنقيطي التصفيق على القوم لأنه بدعة فتركه بعضهم
وأصر عليه الأكثرون؛ لأن بعضهم يراه من العادات المباحة التي اقترن بها تنشيط
التلامذة وإدخال السرور على قلوبهم وبعضهم لم يصل إليه الإنكار.
وكان الرئيس كعادته يناقش كل تلميذ فيما يقول ويطلب منه التعبير عما
قاله حفظًا بعبارة أعرفية. ثم وزع الجوائز وهي على ما ذكرنا في السنة
الماضية، قسمان أحدهما ريع المال الذي جمع لإقامة تذكار لعلي باشا مبارك لخدمته
المعارف في مصر والثانية تبرع الأستاذ الشيخ عبد الرحيم الدمرداش فهذا وزع على
نفر من الناجحين في المدرسة، وأما الأول فاستقر الرأي على أن يشترى به كل
عام كتب نافعة تعطى للتلميذين اللذين يفوقان سائر التلامذة ممن أتموا المدة بشرط أن
يشتغلا بعد المدرسة بتعلم صنعة من الصنائع وكذلك كان. وبعد ختم الاحتفال بترتيل
أحد التلامذة آيات من الكتاب العزيز وقف رئيس الجميعة فشكر للحاضرين سعيهم في
الخير لمشاهدة أولاد الفقراء المتعلمين ثم قال ما معناه ملخصًا:
لا بد أن يكون بعض الحاضرين ممن يشتغلون بعلم التربية ينتقد علينا شيئًا،
أنا أوافقهم على انتقاده قبل أن أذكره وأجيب عنه، وهو أن يحفظ التلامذة مقالات
في الدين والأدب كالذي سمع منهم الآن فيها من الحكم والمعاني العالية مما لا ترتقي
عقولهم إلى الإحاطة به وما تعجز ألسنتهم عن بيانه بغير العبارة المحفوظة. أعيد
القول بأن هذا الانتقاد صحيح وأن حشو الأذهان بحفظ ما لا يفهم يُفسدها ويَذهب
باستعداد العلم منها. ومدارس الجمعية تهتم بهذا الأمر فنحن نؤكد دائمًا على أن
المعلمين أَنْ لا يعلموا التلامذة كلامًا لا يفهمونه والعمل على هذا والتفتيش من ورائه
لتحقيقه.
وأما ما سمعتم فقد جاء من باب الاستثناء لغرض صحيح يوافقنا عليه
المنتقدون بادي الرأي. وذلك أن التلميذ يخرج من مدارسنا إلى العمل غالبًا ولا ثقة
لنا بأنه يسمع في خطب المساجد وفي دروسها شيئًا من حكم الدين وأسراره التي
تبعث النفوس على العمل بأحكامه كالذي سمعتم من حكم الصوم. وكذلك لا نرجو
أن يجد معهدًا من معاهد العلم يسمع به شيئًا من مباحث التربية وعلم الاجتماع
والآداب العالية بالأَوْلَى، فرأينا أن يحفظ كل تلميذ بعض مقالات في هذه المقاصد
بجتهد في إفهامه معانيها بالجملة كما يقتضيه سنه ويوكل الفهم التفيصلي إلى حوادث
الزمان وارتقاء الفكر فيها، فهذه المحفوظات القليلة المفيدة ذُخْر للتلميذ في مستقلبه
وهي كبذرة وُضِعَتْ في أرض صالحة يتعاهدها الزمن بالسقي والتغذية حتى تثمر
الثمرة الصالحة إن شاء الله تعالى.
إذا أجلتم النظر في أحوال المسلمين دون أن نترك تعليم الدين على هذا الوجه
من بيان فوائده وحكمه وغرسها في النفوس (وهو الفقه الحقيقي في الدين) فقد أدى
إلى تركه من بعض المسلمين والإتيان على غير وجهه من بعض آخر. ولنضرب
المثل بفريضة الزكاة التي حفظ تلامذتنا مقالة في فوائدها في العام الماضي كما يذكر
من حضر احتفاله وفريضة الصوم التي سمعتم فوائدها وهي التي تلي الزكاة في
الترتيب.
الزكاة ركن من أركان الإسلام، وبذل المال في إقامة هذا الركن يفضل غيره
من أنواع البذل، ولذلك قرنت الزكاة بالصلاة في القرآن في أكثر المواضع، وقد
جعل الله إنفاق المال في سبيله آية الإيمان، وجعل تركه علامة النفاق والكفران،
وقاتل الخليفة الأول بموافقة الصحابة كلهم رضي الله عنهم مانعي الزكاة ومع هذا
كله نرى المسلمين قد هدموا هذا الركن ونسوه حتى كأنه ليس من الدين بالمرغوب
وأطال الأستاذ الكلام في الزكاة وفي مضرة تركها ثم انتقل إلى الصوم وبيَّن أن
بعض المسلمين تركوه وأن الذين يصومون لا يؤدون هذه الفريضة على الوجه الذي
أراده تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: ١٨٣) وأوضح هذا بذكر ما عليه الناس، ثم انتقل
إلى الكلام في تعليم مدارس الجمعية فقال:
إن مدارس الجمعية وضعت لتعليم أولاد الفقراء ما لا بد منه لكل إنسان وهو
أن يحسن القراءة بلغة أمته ويعرف ما يجب عليه من أحكام دينه ويتربى عليه عملاً
والحساب والتاريخ وتقويم البلدان وطرقًا من مبادئ التاريخ الطبيعي وحفظ الصحة
وآداب المعاشرة، ولا بد عندنا من تعليم هذه الأشياء على وجه مفهوم في أربع
سنين وسن التلميذ لا يتجاوز الخمس عشرة سنة، وليس عندنا لغة أجنبية لأننا لا نعد
التلاميذ للوظائف والشهادات وإنما نعدهم للعمل بالحرف والصنائع وما ذكرنا من
التعليم لا يستغني عنه صانع ولا زارع.
قال: كنت أحب أن يكون هذا التعليم عامًّا في البلاد ومبينًا في جميع الطبقات
ثم يتسنى بعده لكل طبقة أن تتناول من العلوم والفنون واللغات في المدارس الثانوية
والعالية ما هي مستعدة له , ولكن المانع للمشتغلين بالتعليم والتعليم من التوجه إلى
سلوك هذه الطريقة أمران أحدهما: أن رغبة الناس منصرفة إلى جعل التعليم ذريعة
لأخذ الشهادة؛ لأنها شرط للاستخدام في الحكومة، والسبب في رغبة الناس في خدمة
الحكومة هو أن الناس لعدم ثقتهم بأنفسهم ولجهلهم بطرق الكسب الواسعة وضعف
هممهم عن سلوكها يود كل واحد منهم أن يكون له مورد من الرزق مضمون يعتمد
عليه وإن كان وشلاً آسًا فإذا اسْتُخْدِم بمائة وخمسين قرشًا ولو في أعلى الصعيد أو
السودان ينام آمنًا مطمئنًا ويلقي هم الدنيا وراء ظهره إلا إذا تيسر له السعي في
شفاعة تزيد في راتبه أو ينتقل بها إلى مكان غير مكانه ولو استعمل مواهبه التي
منحه الله إياها وكدح في طلب الرزق من طرقه الواسعة لا سيما التجارة، لجاز
أن يكون من انتقل إلى بيان السبب الآخر في عدم التوجه إلى التعليم النافع فقال:
أما ثاني السببين فداؤه أقتل، وعلاجه أعسر، أتدرون ما هو؟ هو المعلمون
والمربون فإننا تحتاج في التعليم الابتدائي إلى من يبدئ التلميذ في السنة الأولى
بألف با فلا تنتهي السنة الرابعة إلا وهو يكتب ويعرف ما ذكرناه آنفًا وعرض
عليكم نموذجيه، والذين يحسنون هذا النوع من التعليم قليلون. وقد عزمنا على تحديد
مدرسة للجمعية، وكنا عند المذاكرة فيها كنا نشكو من قلة المعلمين. إننا نحتاج معلمًا
لإحدى مدارسنا فنعلن ذلك في الجرائد فيجيئنا الراغبون بالعشرات فنمتحنهم ونختار
من نراه الأمثل، وإن لم يكن على حسب الرغبة تمامًا ثم يتمرن على طريقتنا
في المدرسة مع طول التنبيه والتفتيش، ومثل هؤلاء يجدر بنا أن نسميهم معلمي
الضرورة.
قال: ذكرت هذه لأوجه نفوس العلماء والوجهاء إلى تلافي هذا الخطب
ومداوة هذه العلة التي هي أم العلل وذلك بإنشاء مدرسة لتخريج المعلمين ولا بد في
هذا من سعي العلماء ومساعدة الأغنياء، ثم شكر للحاضرين سعيهم فانصرفوا
شاكرين. أقول: كتبت بعد أيام من الاحتفال في إثر انحراف في الصحة فإن
نقصتُ من فوائد الخطاب ففي غير الفوائد الأصلية وإن زدت فربما كان كلمة في
معنى الكلام تزيد في إيضاحه.