للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الصلاة مواقيتها وجمعها وغايتها

س ٣٤ - من كاتم لاسمه في مصر القاهرة
حضرة الفاضل الشيخ رشيد رضا المحترم بعد التحية والإكرام أرجوالإجابة
على ما يأتي:
١- ما هي الآيات الشريفة التي تؤيد إقامة الصلاة في مواعيدها المقررة؟
٢- هل الجمع بين صلاتين جائز وفي أي ظروف؟
٣- ما رأيكم في موظف بمصلحة تقضي عليه وظيفته أن لا يقيم صلاته أثناء
تأديته أعماله فهل عليه من حرج إذا جمع بين صلاتين مثلاً ليؤديهما أثناء خلوه من
العمل؟
٤- إذا كانت الغاية من الصلاة هي الإخلاص للخالق بالقلب مما يؤدي
إلى تهذيب الأخلاق، وترقية النفوس، وكان من المحتم على كل مسلم أن يقيم
صلاته بمواعيد فكيف يعقل - والناس على ما ترى - أن كل الصلوات التي تقام
في المساجد والبيوت، هي بإخلاص عند كل المسلمين؟ وإذا كان الجزء
القليل منها هو المقصود من الدين، والمبني على الفضيلة، فلماذا لا تترك الحرية
التامة للناس في تحديد مواعيد إقامة صلواتهم؟ وإلا ما الفائدة التي تعود على النفس
من الركوع والسجود بلا إخلاص ولا ميل حقيقي للعبادة بل اتباعًا للمواعيد واحترامًا
للتقاليد؟
(ج) ١- أما الجواب عن الأول فحسبك في التوقيت المطلق منه قوله تعالى:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (النساء: ١٠٣) ؛ أي: فرضًا
مكتوبًا مقيدًا بأوقات محددة، وفي التفصيل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ} (الإسراء: ٧٨) , وقوله سبحانه:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (الروم: ١٧-١٨) وكانوا يعبرون عن الصلاة بالتسبيح
وبالذكر.
٢- أما الجواب عن الثاني فالجمع إنما يكون عند جماهير العلماء في السفر
وكذا في المطر عند الشافعية لأجل المحافظة على الجماعة، وقد تأول بعض العلماء
بذلك حديث ابن عباس الثابت في كتب الصحاح والسنن المشهورة (صلى النبي
صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء) ؛ أي:
الظهر والعصر ثمانيًا؛ لأن كل واحدة منهما أربع ركعات، والمغرب والعشاء سبعًا؛
لأن الأولى ثلاث والثانية أربع فالنشر فيه غير مرتب على اللف , وفي رواية عنه
في صحيح مسلم وسنن الشافعي: (صلى الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء
جميعًا من غير خوف ولا سفر) روي عن مالك أنه قال: أرى ذلك في المطر.
وعليه العمل عند الشافعية، ولكنهم اشترطوا له شروطًا لا يدل عليها الحديث بل
ظاهره أنه رخصة تؤتى عند عروض شاغل قوي ويدل على ذلك ما قاله راويه ابن
عباس في تعليله كما في سنن الشافعي: (لئلا يحرج أمته) ولو فرضنا أن ذلك كان
في وقت المطر لكان المطر مثالاً لنفي الحرج لا شرطًا للرخصة على أن ذلك لو كان
في جماعة وقت المطر كما يرى الشافعية لتوفرت الدواعي على نقله فرواه كثيرون.
فالظاهر من هذه العبارة أن الجمع في الإقامة رخصة لمن كان يلحقه في أداء الصلاة
في وقتها مشقة، والحرج والعسر مرفوعان بنص القرآن العزيز. فحمل بعض
الفقهاء لها على وقت المطر أو وقت المرض كأن كان يعلم أنه يصيبه دور الحمى في
وقت الثانية فيجمعها مع الأولى كل ذلك من قبيل المثال لمن ينظر في الأمر نظرًا عامًّا
غير مقلد فيه، والشيعة تجيز الجمع مع الإقامة كما هوالمشهور عنهم. ولا أدري
أيعدون ذلك رخصة كما هو ظاهر هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أم
يعدونه عزيمة لكثرة ما يأتونه كما يروى عنهم؟
٣- وأما الجواب عن الثالث فقد علم مما قبله وملخصه أن الأصل في الصلاة
أن تؤدى في أوقاتها المعروفة وذلك ثابت بالكتاب والسنة وعمل جماهير المسلمين
سلفًا وخلفًا، وأن للرخصة وجهًا لمن شق عليه أداء بعض الصلوات في وقتها وما
أظن أن عملاً من أعمال مصالح الحكومة وما في معناها كالشركات الكبيرة يمنع
العامل فيه من أداء الصلاة في وقتها دائمًا إنما يكون ذلك نادرًا؛ فإن صلاة الفريضة
تؤدى في خمس دقائق أوأقل، ورأيت كثيرًا ممن خبرت حالهم من هؤلاء العمال
يستثقلون الصلاة لأجل الوضوء، وإنما يشق عليهم منه غسل الرجلين غالبًا، فإن
كوبًا من الماء يكفي لغسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ويسهل ذلك على المرء
أينما كان. ولكن غسل الرجلين قد يشق على العامل في أحيان كثيرة، والمخرج من
هذه المشقة أن يمسح ولو على جوربيه، فالحنابلة وغيرهم من علماء السلف يجيزون
المسح على كل ساتر للرجلين كاللفائف، ودليلهم أقوى. ولما أفتيت في المنار بهذا
صار كثير من تاركي الصلاة يحافظون على صلاتهم في أوقاتها يتوضؤون في
الصباح فيسبغون الوضوء، ويغسلون أرجلهم ويلبسون جواربهم وفوقها الخفاف
فالأحذية أو الأحذية فقط ثم يذهبون إلى أعمالهم، فإذا أراد أحدهم أن يتوضأ في
أثناء العمل وهو في عمله يمسح على الساتر كائنًا ما كان، ويحسن هاهنا أن نذكر
القارئ بما ختمت به آية الوضوء وهو بعد ذكر طهارة الرجلين {مَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: ٦) .
٤- وأما الجواب عن الرابع فهو يتضح لكم إذا تدبرتم تفاوت البشر في
الاستعداد وكون الدين هداية لهم كلهم لا خاصة بمن كان مثلكم قوي الاستعداد لتكميل
نفسه بما يعتقده أنه الحق وفيه الفائدة والخير بحيث لو ترك إلى اجتهاده لا يترك
العناية بتكميل إيمانه وتهذيب نفسه وشكر ربه وذكره. وقد رأيت بعض المتعلمين في
المدارس العالية والباحثين في علم النفس والأخلاق ينتقدون مشروعية توقيت
الصلوات والوضوء وقرن مشروعية الغسل بعلل موجبة وعلل غير موجبة على
الحتم ولكن تقتضي الاستحباب، وربما انتقدوا أيضًا وجوب غير ذلك من أنواع
الطهارة بناءً على أن هذه الأمور يجب أن تترك لاجتهاد الإنسان يأتيها عند حاجته
إليها والعقل يحدد ذلك ويوقته!!
هؤلاء تربوا على شيء وتعلموا فائدته فحسبوا لاعتيادهم واستحسانهم إياه أنهم
اهتدوا إليه بعقولهم ولم يحتاجوا فيه إلى إيجاب موجب ولا فرض شارع، وأن ما
جاز عليهم يجوز على غيرهم من الناس، وكلا الحسابين خطأ فهم قد تربوا على
أعمال من الطهارة (النظافة) منها ما هو مقيد بوقت معين كغسل الأطراف في
الصباح (التواليت) وهو مثل الوضوء، أو الغسل العام، ومنها ما هو مقيد بعمل من
الأعمال، وتعلموا ما فيه من النفع والفائدة، فقياس سائر الناس عليهم في البدو
والحضر خطأ جلي.
إن أكثر الناس لا يحافظون على العمل النافع في وقته إذا ترك الأمر فيه إلى
اجتهادهم ولذلك نرى البيوت التي لا يلتزم أصحابها أو خدمها كنسها وتنفيض فرشها
وأثاثها كل يوم في أوقات معينة عرضة للأوساخ، فتارة تكون نظيفة وتارة تكون غير
نظيفة، وأما الذين يكنسونها وينفضون فرشها وبسطها كل يوم في وقت معين وإن لم
يصبها أذى ولا غبار فهي التي تكون نظيفةً دائمًا، فإذا كانت الفلسفة تقضي بأن
يزال الوسخ والغبار بالكنس والمسح والتنفيض عند حدوثه وأن يترك المكان
أوالفراش أوالبساط على حاله إذا لم يطرأ عليه شيء فالتربية التجربية تقضي بأن
تتعهد الأمكنة والأشياء بأسباب النظافة في أوقات معينة؛ ليكون التنظيف خلقًا وعادةً
لا تثقل على الناس ولا سيما عند حدوث أسبابها، فمن اعتاد العمل لدفع الأذى قبل
حدوثه أو قبل كثرته فلأن يجتهد في دفعه بعد حدوثه أولى وأسهل. وعندي أن أظهر
حكمة للتيمم هي تمثيل حركة طهارة الوضوء عند القيام إلى الصلاة ليكون أمرها
مقررًا في النفس محتمًا لا هوادة فيه، وقد قال لي متشل أنس وكيل المالية بمصر في
عهد كرومر: إنه يوجد إلى الآن في أوربا أناس لا يستحمون مطلقًا وإننا نحن الإنكليز
أكثر الأوربيين استحمامًا وإنما اقتبسنا عادة الاستحمام من أهل الهند ثم سبقنا جميع
الأمم فيها. فتأمل ذلك وقابله بعادات الأمم في النظافة التي هي الركن العظيم
للصحة والهناء واعتبر هذه المسألة في الأعمال العسكرية كالخفارة عند عدم
الحاجة إليها لئلا يتهاون فيها عند الحاجة إليها وجعلها مرتبةً موقوتةً مفروضةً
بنظام غير موكولة إلى غيرة الأفراد واجتهادهم.
وإذا تدبرت ما ذكرنا فاعلم أن الله تعالى شرع الدين لأجل تكميل فطرة الناس
وترقية أرواحهم وتزكية نفوسهم ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد الذي يعتقهم من رق
العبودية والذلة لأي مخلوق مثلهم وبشكر نعم الله عليهم باستعمالها في الخير ومنع
الشر، ولا عمل يقوي الإيمان والتوحيد ويغذيه ويزع النفس عن الشر ويحبب إليها
الخير ويرغبها فيه مثل ذكر الله عز وجل أي: تذكر كماله المطلق وعلمه وحكمته
وفضله ورحمته وتقرب عبده إليه بالتخلق بصفاته من العلم والحكمة والفضل
والرحمة وغير ذلك من صفات الكمال.
ولا تنس أن الصلاة شاملة لعدة أنواع من الذكر والشكر كالتكبير والتسبيح
وتلاوة القرآن والدعاء فمن حافظ عليها بحقها قويت مراقبته لله عز وجل وحبه له؛
أي: حبه للكمال المطلق وبقدر ذلك تنفر نفسه من الشر والنقص وترغب في الخير
والفضل، ولا يحافظ العدد الكثير من طبقات الناس في البدو والحضر على شيء
ما لم يكن فرضًا معينًا وكتابًا موقوتًا، فهذا النوع من ذكر الله المهذب للنفس وهو
الصلاة تربية عملية للأمة تشبه الوظائف العسكرية في وجوب اطرادها وعمومها وعدم الهوادة فيها، ومن قصر في هذا العمل القليل من الذكر الموزع على هذه
الأوقات الخمسة في اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه وينسى نفسه ويغرق في
بحر من الغفلة، ومن قوي إيمانه وزكت نفسه لا يرضى بهذا القليل من ذكر الله
ومناجاته، بل يزيد عليه من النافلة ومن أنواع الذكر الأخرى ما شاء الله أن يزيد،
ويتحرى في تلك الزيادة أوقات الفراغ والنشاط التي يرجو فيها حضور قلبه وخشوعه
وهو الذي استحسنه السائل.
وجملة القول: إن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة لتكون مُذَكِرةً لجميع
أفراد المؤمنين بربهم في الأوقات المختلفة؛ لئلا تحملهم الغفلة على الشر أو التقصير
في الخير. ولمريدي الكمال في النوافل وسائر الأذكار أن يختاروا الأوقات التي
يرونها أوفق بحالهم.
وإذا راجعت تفسير {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (البقرة: ٢٣٨) في الجزء
الثاني من تفسيرنا تجد بيان ذلك واضحًا وبيان كون الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر إذا واظب المؤمن عليها، ومن لا تحضر قلوبهم في الصلاة على
تكرارها فلا صلاة لهم فليجاهدوا أنفسهم.