للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أعمال حسن باشا عاصم

كتبنا في الجزء الماضي شيئًا عن أخلاق حسن باشا عاصم، ونكتب في هذا
الجزء شيئًا عن أعماله، وعمدتنا في هذا وذاك الاختبار، وغرضنا منه بيان طريق
التأسي والاعتبار، وإنما قدمنا الكلام في الأخلاق لأنها هي مصادر الأعمال، فهي
الأصل الأصيل في تفاضل الرجال، ولم نسلك فيما كتبنا ولا فيما نكتبه الآن مسلك
الاستقصاء بل نكتفي بما قل ودل.
تمهيد في تربيته وتعليمه
بالتربية والتعليم يتفاضل المتساوون والمتقاربون في الاستعداد، وقد اتفق
لحسن عاصم منهما ما أظهر استعداده العظيم. كان والده من حاشية محمد باشا
عاصم أحد كبار المديرين في هذا القطر ولم يكن لهذا نسل. وولد حسن في حجره
فسُر به وتولى تربيته، بل تبناه وأضاف اسمه إلى اسمه، فعلمه التعليم الابتدائي
والوسطي والعالي، فانتقل من المدارس الابتدائية إلى مدرسة الإدارة (الحقوق)
فكان في طليعة النابغين ثم أرسل مع بعض النابغين إلى فرنسا على نفقة الحكومة؛
للترقي في علوم الحقوق والسياسة، فتلقاهما بجده واجتهاده حتى كان من خير
النابغين وحملة الشهادات العالية فيهما. وكيف لا وهو لم يكن يعرف اللهو والبطالة،
ولا ممن يحفل باللذات والشهوات البدنية، وتلك هي قواطع طريق العلم على طلابه لا
سيما في أوروبا ولا سيما في فرنسا. وما أظن إلا أن بيت محمد باشا عاصم كان نقيًّا
من اللوث الذي تلطخ به كثير من البيوتات كالسكر وما يتصل به عادة، وكأني بذلك
الرجل وأنا لم أعرفه ولم أعرف عنه شيئًا كان بصيرًا بالمفاسد التي تدب إلى الناشئين
في السعة، فحال بين ربيبه وبينها، فلم تتدنس نفسه برذائل المترفين ولا بدناءة
المعوزين، فهذه التربية النقية هي التي ساعدته على كمال تحصيل العلوم، حتى كان
وهو ابن الخادم مشرفًا للمخدوم بنسبته إليه ومحييًا لذكره، ولولاه لما عرفه مثلي ولا
دوّن اسمه في هذه المجلة الإصلاحية. وكم أفسدت باريس من أولاد الأمراء والوجهاء
الذين هم أرفع من محمد عاصم باشا ذكرًا في قومهم.
عمله في القضاء والنيابة:
لما عاد من أوروبا جعلته الحكومة مساعدًا للنيابة فوكيلاً فرئيسًا في الإسكندرية
ثم في طنطا، وكان قد مات محمد عاصم باشا فكان خير خليفة له في أهله، حتى
إنه كان ينفق معظم مرتبه الشهري على قلته في المرتبات التي كان يقوم بها مربيه
الذي مات ولا مال له. بل لم يتعجل في العودة من أوربا إلى مصر إلا لأجل هذا،
فقد كان يبغي الاستزادة من العلم إلى أن يصير دكتورًا في العلوم التي كان يشتغل
بها بعد أن نال شهادتها العالية المعبر عنها عندهم بالليسانس، ففاجأة نعي مربيه
فاكتفى بما حصل، ورجع عما كان أمّل، وقد كان في النيابة العالم المصلح للنظام
ولحال الاجتماع، إذ كان يتعقب الأشقياء المفسدين وسلبة الأمن المعتدين، حتى طهر
منهم المديريات التي عظم بلاؤها بهم وكان يزجي كل من تحت رياسته في الجد
والاجتهاد، فلا يكادون يجدون ساعة بطالة.
ولما جعل السير سكوت مستشارًا قضائيًّا لمصر، وجه همته إلى إصلاح
المحاكم الأهلية، وكانت مختلة معتلة، فكان يطوف على رجال القضاء والنيابة
يسألهم عن رأيهم في الإصلاح وعما يشكون منه، فما كان يسمع من الأكثرين إلا
عبارات الثناء والإقرار بالرضا عن الحال الحاضرة. حتى ظفر بحسن عاصم
فأخبره هذا بجميع العلل وبطرق علاجها، فجاء به وبصديقه علي بك فخري الذي
رأى فيه مثل نباهته واستعداده، وجعلهما مفتشين للقضاء ثم عضوين للجنة المراقبة
التي أنشئت في نظارة الحقانية، فكانا هما الواضعين لنظام المحاكم الحاضر وطريقة
المراقبة القضائية المتبعة، بل كان حسن عاصم هو الذي اقترح بموافقة رفيقه
اختيار القضاة من أهل الكفاءة بالاستقامة والنباهة واختبار البلاد، كالمتخرجين من
دار العلوم وغيرهم ممن عرف بالعلم والفضل وإن لم يكن متخرجًا في مدرسة
الحقوق، وبذلك تيسر للحكومة إصلاح المحاكم بقدر الإمكان.
ومن خدمة حسن عام للقضاء وضع مشروع المحاكم الجزئية، ثم السعي مع
صديقه على فخري في إنفاذه عند سنوح الفرصة لهما بثقة السير سكوت المستشار
المحب للإصلاح بهما. وله في ذلك أعمال أخرى ليس من غرضنا تقصيها. وكان
للسير سكوت من الإعجاب بعلمه واستقامته وقدرته على العمل ما أحله عنده في
أعلى منازل الثقة والكرامة. وأراد ترقيته فلم ترض الوكالة البريطانية بذلك، بل
حاولت أن تدليه لاتهامها إياه بمناصبتها، فعرقلت عليه السياسة الاستمرار في عمله
النافع في المحاكم، وذلك شأنها ما دخلت في عمل إلا وأفسدته، كما كان يقول
الأستاذ الإمام. وما كانت تهمة حسن عاصم بالسياسة محض اختلاق، ولكن ربما
كان يبالغ فيما ينقل للوكالة عنه أو كانت الوكالة تنظر إلى الأمور بعين الاحتياط،
فتراها أكبر مما كانت عليه.
وكانت في البلد حركة وطنية قبلتها بل روحها الأمير الجديد (عباس حلمي
باشا) تبعثها الآمال وتحدو بها الأقوال، حتى تزجيها إلى بعض الأعمال التي كان
يظن أنها وسائل لإزالة الاحتلال والتمتع بكمال الاستقلال، وكان أكثر أهل الفهم
والرأي من رجال الحكومة وغيرهم مغرورين بتلك الحركة، ولم يسلم من شيء من
ذلك حسن عاصم على أناته وبصيرته، وكان صديقه ورفيقه في العمل علي فخري
بك أشد منه إعجابًا بل تحمسًا بها، بل أقول: إنه لم يسلم من الغرور بتلك الحركة
أحد من أهل الرأي والظهور في البلد إلا ما دون عدد أنامل اليد الواحدة.
قد يظن بعض الشبان اليوم أن في البلاد حركة وطنية قوية لم تكن من قبل،
وما ذلك إلا لأنهم لا يعرفون شيئًا عن الحركة التي كانت من نحو خمس عشرة سنة
إذ كان الرجال يجرون عربة الأمير بأيديهم، وإذ كان الأمير يعود من سياحته
الصيفية فتكتظ الإسكندرية بمئات الألوف للقائه، حتى قيل: إنه دخل في
الإسكندرية في يوم واحد ثمانون ألفًا من أهل الأرياف. وما ذلك إلا لأن السلطة
الأجنبية ثقيلة على النفوس البشرية تنفر منها بالطبع، فإذا آنست بصيصًا من الأمل
بالتملص منها على يد من تثق بهم من أبناء جنسها السياسي أو الديني، فإنها لا تعتم
أن تعشو إليه وتعول عليه، وقد كان الشعب يرى من الأمير الجديد منذ تولى ذلك
البصيص، بل كانت ترى من حاله وتسمع مما ينثر من درر أقواله، ما يجعل ذلك
البصيص نورًا ساطعًا يملأ الجوانح أملاً، وينفر بالنفوس إلى الجهاد الوطني خفافًا
وثقالاً، فلا عجب إذا كان مثل حسن عاصم وهو في شبابه ممن كان يظن أن في
تلك الحركة بركة، لا سيما وهو مطلع على ما كانت تدبره فرنسا، وما تعد به
مصر وتمنيها.
غرضنا من هذا البيان ومن سائر ما نكتبه عن الرجل أن تكون العبرة بسيرة
رجل نابغ منا مبنية على أصل ثابت، ورواية صحيحة في زمن لا يكتب فيه عن
رجال العصر إلا أصحاب الصحف السياسية في الغالب، وهم لا يبينون من الحقائق
إلا ما تسمح لهم به السياسة على الوجه الذي تحبه وترضاه.
فليعلم الشبان المتحمسون في الوطنية الذين تهيجهم نغمات المتغنين بأشعارها،
والضاربين على أوتارها، أن هذا النابغة الذي يفتخر الوطن به قد تحمس في شبابه
بالسياسة أيامًا كانت دواعي التحمس فيها أوفر، والآمال بالنجاح أقوى، ثم
استقر رأيه بعد الاختبار على أن العاملين للوطن والمخلصين في خدمة الأمة، يجب
عليهم أن يتنزهوا عن الشوائب والتحمسات السياسية والتهيجات الطبيعية، وأن
يلتزموا السكينة والروية، ويجعلوا عمدتهم إتقان الأعمال دون الغرور بزخرف
الأقوال والانخداع بالدعاوي العراض الطوال؛ لذلك كان يعمل ليله ونهاره من غير
لغط ولا دعوى، ولا تذمر ولا شكوى، بل كان ذلك دأبه منذ كان.
كان السير سكوت المستشار المصلح المخلص على ما هو مشهور بين جميع
العارفين، قد وعده بأن يجعله نائبًا عموميًّا بعد أن جعله الأفوكاتو العمومي، ولكن
الورد كرومر أمره بعزله كما يقال، فحار في أمره وبعد العناء والجهاد قدر على أن
يستبدل العزل وجعله قاضيًا في محكمة الاستئناف الأهلية بمرتب أنقص من
مرتبه قبله، فلم يزده ذلك إلا جدًّا في العمل ومضاء في الإصلاح. ومما يؤثر عنه
أنه كان يسمع خبر عزله، فلا يحدث عنده فتورًا ولا مللاً ولا يثنيه عن الابتداء
بعمل جديد أو وضع مشروع لعمل مستقبل، وإن كان يتوقف تنفيذ هذا وإتمام ذاك
على بقائه في عمله. وقد كان مما اقترحه في أثناء التحدث بعزله نقل طائفة من
الكتاب باليومية في محكمة الاستئناف لعدم الحاجة إليهم إلى المحاكم الابتدائية التي
هي في أشد الحاجة إليهم، فأخبره رئيس الكتاب بأن أمر عزله قد تقرر بل كتب،
ولم يبق دون تنفيذه إلا ختمه، فقال رحمه الله ما معناه: إن هذه فرصة تحرم
إضاعتها، وإنني أعمل الواجب ما دمت متمكنًا منه، وإن هذا التمكن يستمر إلى أن
أبلغ الأمر بالعزل رسميًّا.
عمله في المعية
عز على أصدقاء هذا العامل المصلح أن يكون ظنينًا على عمله عند القوة
الفعالة في البلاد، وأن لا يوضع في الوضع الذي يستحقه من ناصية القضاء، ولما
خلا منصب رياسة التشريفات عند الأمير بنقل عباني باشا منه إلى نظارة الحربية،
بادر الأستاذ الإمام فرغب إلى الأمير أن يجعل الفقيد رئيسًا للتشريفات، فذكر له
الأمير رجلاً آخر من المرشحين عنده لهذا المنصب، فقال الأستاذ الإمام رحمه الله
وكان الأمير أطال الله عمره يقدر رأيه حق قدره: كلا الرجلين كفء ويمتاز عاصم
بمعارفه القضائية، وأفندينا تعرض عليه القوانين واللوائح فيحسن أن يكون في
معيته من يدرسها ويبدي رأيه فيها. ذكر لي ذلك الأستاذ في سياق عناية الأمير به،
وكونه هو الذي اقترح جعله مستشارًا في الاستئناف، ثم جعله مفتيًا، وما كان فضل
عاصم ليخفى على الأمير، لذلك فضله على غيره وولاه هذا المنصب.
إننا نرى من المتعلمين من يختار أو يختار أولياؤه له علم الحقوق ليكون قاضيًا
أو محاميًا، أو علم الهندسة ليكون مهندسًا، أو علم الطب ليكون طبيبًا مثلاً. ولكننا
نرى النابغين فيما يوجهون جل عنايتهم إليه قليلين، وأقل من هذا القليل من
يبرع في العمل كما نبغ في العلم، وأقل من هؤلاء من يعهد إليه عمل غير ما استعد
له واشتغل فيه، فيتقنه بعد إتقان غيره والبراعة فيه. أولئك الذين أعطوا من
المواهب العقلية ما أعدهم لإتقان كل عمل يشتغلون به، وقد كان حسن عاصم من
هذا الفريق النادر، فإنه كان في أخلاقه وجل معارفه وسابق عمله أبعد الناس عن
خدمة الأمراء، ولكنه على هذا عمل في خدمة الأمير ما عجز عن مثله كل من كان
في خدمته وخدمة أسلافه، كما عجز عن الزيادة عليه من جاء بعده.
كان رجال التشريفات من قبل رياسته لا عمل لهم في غالب أوقاتهم، فخلق
لهم من الأعمال ما استغرق عامة أوقاتهم في القصر، حتى إنه استخرج دفاتر
التشريفات القديمة من عهد محمد علي، وعرف ماضي ذلك وحاضره، ثم وضع
للتشريفات نظامًا ثابتًا حدد فيه أوقات المقابلات الرسمية وغير الرسمية، وكذلك
الدعوات وحفلة المرقص الخديوي، فقد كان كل ذلك محفوفًا بالفوضى والخلل.
ومن ذلك أنه اشترط فيمن يقابل الأمير شروطًا في الزي للموظفين وغير
الموظفين، قد تختلف باختلاف المقابلات واختلاف زي الأمير العسكري والملكي
فيها، ونفذ ذلك كله على الوطنيين والأجانب على سواء. وما كان يسهل عليه أن
يشذ عن نظامه ذاك أحد.
وأذكر من تنفيذه النظام على الأجانب من كبار المحتلين وغيرهم أن بعض
كبار الموظفين منهم جاء عابدين بلباس غير ما يجب في تلك المقابلة فنبهه إلى ذلك
فعاد إلى بيته وغير زيه.
وأعظم من ذلك أن مرقص الخديوي كان يحضره من أوشاب الإفرنج من
يعرف ومن لا يعرف. وسبب ذلك أن ديوان التشريفات كان يرسل إلى كل وكالة
سياسية للدول عدة أوراق، ليس عليها أسماء ليدعي بها وجهاء الأجانب، فكان
يأخذها من هم أهل ومن ليسوا بأهل لحضور مجالس الأمراء والملوك، فكان من
النظام الذي وضعه له حسن عاصم أنه لا يحضر المرقص أحد إلا من دعاه ديوان
التشريفات دعوة خاصة باسمه، وأنه لا يدعو من الأجانب إلا من كان معروفًا عند
الأمير، ولو بتقديمه إليه قبل المرقص بزمن قريب، كما أنه لا يدعو من الوطنيين
إلا من كانت صفته كيت وكيت ككونه من أصحاب الرتبة الثانية فما فوقها أو ما
يقابل ذلك. فساء هذا النظام وكلاء الدول وقناصلها فعهدوا إلى لورد كرومر وهو
أقدمهم أن يعترض على ذلك ويتلافاه، فكلم حسن باشا فيه فاحتج عليه هذا بتفضيل
النظام على الفوضى، وأطلعه على إعلان من شركة كوك التي تتولى نقل السياح
في مصر من مكان إلى آخر، وفيها أن سياحها يشاهدون كذا وكذا من الآثار
القديمة، ويحضرون المرقص (الباللو) الخديوي! فقال له اللورد: إنني أجل النظام
ولا يليق بي ولا بدولتي أن نعترض عليه، ونحن دعاته ولكنني أعلم أن السراي لا
يلتزم فيها نظام بل المستثنى فيها من القاعدة أكثر من المستثنى منه، فنحن لا
نرضى أن يكون النظام ساريًا علينا وهو غير مطرد. فقال له الفقيد: إنني أضمن
لجنابكم بأنني أنفذ هذا النظام ما دمت هنا بلا شذوذ قط، وعليّ تبعة ذلك إلا أن يأمر
رب المكان بشيء، فلا يمكن لخادمه أن يعارضه فيه. إذ يحتمل أن يقدم له شخص
في غير السراي فيدعوه هو مثلاً، فهل يمكن أن يسئل عن ذلك؟ فاقتنع اللورد بذلك
ولم يسعه إلا الرضا. سمعت هذا من الفقيد نفسه.
وقد مكث في منصب رئيس التشريفات بضع سنين، ثم رقاه الأمير فجعله
رئيس الديوان الخديوي، فكانت خدمته أجل وأوسع؛ إذ تعدت خدمة الأمير الخاصة
إلى خدمة الأوقاف العمومية. ولكن قلب الأمير تغير عليه ففصله بعد ثلاث سنين
من منصبه بالإحالة على المعاش. فكبر ذلك على الناس، وكثر حديثهم فيه وظهر
أثر ذلك في الجرائد، فكانت متفقة على الثناء على الفقيد، فرأينا أن نجعل ذلك
وسيلة للموعظة وسوق العبرة إلى المستعدين للاقتداء بعظماء الرجال وطلاب
الفضيلة والاستقلال، فكتبنا يومئذ في المنار نبذة في ذلك (راجع ص٧٥٨م٧) .
وقد أشار المؤيد إلى نحو ما نقلناه يومئذ عن اللواء مع زيادة؛ إذ قال عند بيان
سبب عزل الفقيد من رياسة الديوان الخديوي في ترجمته له ما نصه:
(وقد أمضى الفقيد نحو سبع سنوات رئيسًا للتشريفات الخديوية وثلاثًا رئيسًا
للديوان الخديوي مثالاً لأشرف موظف نزيه، يخلص العمل والخدمة لمولاه، ويؤدي
الوظيفة المنوطة به أشرف أداء. ثم فصل بعد ذلك لأمر حسب نفسه فيه مؤديًا
واجبًا كما ينبغي عليه، وحسبه الجناب الخديوي متعنتًا فيه. وزادت الريبة منه كلمة
قالها اللورد كرومر لأحد رؤساء الدواوين الخديوية ليبلغها للجناب العالي، إذ قال
اللورد: (إنني أهنئ الجانب الخديوي بوجود رجل مستقل قوي الإرادة نزيه مثل
حسن عاصم باشا في معيته) فخالج الجناب العالي ذلك الفكر الذي طاف قبلاً على
خاطر اللورد كرومر؛ لأن هذا اللورد كان قد اعتقد أن لشدة مراس الرجل في
وظائفه القضائية أثر ظاهر من آثار الانحياز إلى جانب المعية السنية، وهي التهمة
التي كانت تلقى على كرام الوطنيين للتنكيل بهم. ولذلك كان يحسب الفقيد من أشد
أعداء الوكالة البريطانية. فلما جاء الوقت الذي تجلت فيه صفات الفقيد كما هي شهد
تلك الشهادة العالية، فأولت التأويل الطبيعي الذي كان نتيجته شدة التنافر بين قصر
الدبارة وعابدين. ولذلك قال كثيرون من الناس: إن اللورد أراد بحسن عاصم باشا
سوءًا إذ شهد له هذه الشهادة، وهو يعلم ماذا يكون وقعها في نفس مولاه في تلك
الظروف) .اهـ ثم قال المؤيد: إنه لم يطل الأمر بعد ذلك حتى رضي عنه
الأمير.
ونحن نعلم أن اللورد قال كلمته في الفقيد عن إعجاب بمزاياه لا سيما بعد ما
تبين له أن الحق عنده يعلو على كل شيء، فلا يتحيز لغيره ولا يراعي فيه مولاه
الأمير فضلاً عمن دونه. وإن الذين قالوا: إنه أراد به سوءًا. يسيئون الظن بالأمير
إذ يعتقدون أن اللورد يقدر بكلمة واحدة أن يغيره على ما يشاء، وإن ثبتت استقامته
وكفاءته بحيث صار أشهر بهما من علم في رأسه نار، وأظهر من الشمس في رابعة
النهار، والأمير أذكى ذهنًا وأوسع فهمًا مما يعتقدون.
عمله في الجمعية الخيرية الإسلامية:
كان سبب تأسيس هذه الجمعية أن مشعوذًا ممثلاً أجنبيًّا، جاء مصر من نحو
ست عشرة سنة، فربح منها مالاً كثيرًا، فأراد أن يجعل ليلة من لياليه لفقراء
المسلمين، وبلغ محافظ العاصمة إبراهيم باشا رشدي ذلك فاجتمع بعض أهل الغيرة
والفضل وائتمروا بينهم في ذلك، فاتفقوا على أن يزينوا حديقة الأزبكية في تلك
الليلة، ويضيفوا إلى ألعاب المشعوذ فيها ضروبًا أخرى من اللهو المباح، ويحفظوا
المال ليجمعوا إليه غيره بالتبرع وغيره، ويجعلوا ذلك أصلاً لجمعية خيرية إسلامية،
وكاشفوا المحافظ بذلك فوافقهم عليه (وقيل إن زينة الحديقة كانت بعد) أولئك هم
الأخلاء الصادقون في خلة بعضهم لبعض وفي حب ملتهم وأمتهم، منهم فقيدنا اليوم
الذي نعتبر بسيرته، وفقيدنا بالأمس الأستاذ الإمام رحمهما الله، ومنهم سعد باشا
زغلول وحشمت باشا ودرويش بك السيد أحمد وإخوانهم من الأحياء أطال الله
أعمارهم، وقد وضع هو قانون هذه الجمعية بمشاركتهم على أساس من الحكمة متين
وكان أحكم أصوله وجوب إضافة نصف الدخل (الإيراد) السنوي إلى رأس المال؛
لأجل الاستغلال والنصف الآخر يكون للتعليم وإعانة الفقراء. والسبب في هذا
ضعف ثقتهم بأهل البلاد في كل ما يقوم بالتعاون والاجتماع لاسيما إذا كان لمحض
الخير، وكان حسن عاصم أضعفهم ثقة حتى إنه لم يكن يطلب من أحد معاونة ولا
تبرعًا إلا نادرًا، وكان جل خدمته للجمعية في الإدارة الداخلية لماليتها ومدارسها،
فكان ينظر بنفسه في الأمور الكلية والجزئية حتى ما كان من شأن الكتبة. قال لي
درويش بك أمين سر الجمعية: إنه ما كان يكلفني إلا ضبط الحسابات ثم هو يقوم
بسائر أعمالي. وأما الأستاذ الإمام فكان لا ينظر في الأمور الداخلية إلا إلى الكليات
ونحو امتحان من يرشحون للتعليم في المدارس من الجزئيات، وكذا أمور التنفيذ إذ
كان رئيسًا ولكنه كان يسعى في الخارج لتكثير مال الجمعية، ويدعو الأمراء
والوجهاء حتى كبراء الأجانب إلى التبرع لها أو الاشتراك فيها، وهو الذي دفع
الوشايات عنها ولولاه لما بقيت، فكانا رحمهما الله تعالى يكمل أحدهما ما يقصر فيه
الآخر.
وههنا نبين الحقيقة في مسألة ألمّ بها المؤيد، فلم يحسن التعبير ولا وافق
الصواب، وكانت عبارته وهو يقصد بها مدح عاصم باشا ذمًّا له بالاستبداد والشذوذ
عن الآداب، وهضمًا لحق رئيسه في الجمعية (الأستاذ الإمام) وكذا لسائر أعضاء
مجلس الإدارة؛ إذ جعل وجودهم في المجلس كعدمهم من حيث إنهم لم يكن لهم رأي
ينفذ إذا خالف رأي عاصم باشا. بل أقول: إن هذه العبارة تفيد سلب أقوى
مزايا عاصم باشا عنه وهي مزية التزام النظام واتباع القانون كأنه أمر إلهي. ولا
شك أن صاحب المؤيد لا يقصد هذا، ولكنها زلة قلم ولا عصمة إلا لكتاب الله تعالى.
أما عبارة المؤيد فهي:
(ولم يكن يسمح لأحد أن يتعدى على النظام الذي عمله لها، حتى استبد بجميع
شؤونها، وله في كل سنة وقفة أمام مجلس إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية في
شيء ينتهي الأمر فيها إلى العمل برأيه، ومع ما كان من صداقته للمرحوم الشيخ
محمد عبده وخصوصًا حيث كان رئيسًا للجمعية الخيرية الإسلامية، قد أراد هذا أن
يتداخل سنة ١٩٠٤ في أمر مدرسة المحلة الكبرى، فرأى الفقيد أن تداخله هذا قد
يشوش عليه عمله، ويجعل لأساتذة مدارس الجمعية وأهالي تلامذتها مندوحة إلى
مخاطبة غيره في أمرها فكتب إليه تلغرافًا وهو في المنصورة يقول له: (لا تضع
قدمك في المحلة الكبرى قبل أن تقابلني ولا أسمح لك بالتداخل في شئون مدرستها)
أو ما هو بمعناه - فجاء الأستاذ المرحوم إلى القاهرة وجرى بينهما كلام أدى إلى
اختلافهما في الرأي اختلافًا شديدًا، فأبى الفقيد إلا أن ينفذ رأيه أو يعتزل عمله كله
في الجمعية، وتم له ما أراد ولم يكن قصده إلا أن يستقيم أمر المدارس على ما
اعتقده أفيد لإدارتها) اهـ.
أما حقيقة المسألة التي أشار إليها المؤيد، فهي أن بعض المؤسسين لمدرسة
المحلة بما تبرعوا به من المال لهم أولاد تجاوزوا السن التي يشترطها قانون مدارس
الجمعية الخيرية في التلاميذ الذين يدخلونها. وهم ما بذلوا المال إلا رغبة في تعليم
أولادهم في بلدهم أولا وبالذات ثم المساعدة على تعليم الفقراء ثانيا وبالعرض فلما
عهدوا بإدارة المدرسة إلى الجمعية كما هو القصد الأول من تأسيسها أراد حسن باشا
أن لا يقبل أولئك الأولاد في المدرسة التي أسسها آباؤهم لأن اتباع النظام والتزام
القوانين عنده من الأمور الوجدانية التي لا يناقش فيها، كما عُلم ذلك مما كتبناه في
أخلاقه رحمه الله. وكان من رأي الأستاذ الإمام رضي الله عنه أن يقبل أولئك
الأولاد لأن رأيه في القوانين أنها وسائل لدفع المضار وحفظ المصالح وإقامة العدل
فمتى عرض من الحوادث ما يكون التزام القانون فيه مخلاًّ بالمصلحة أو منافيًا للعدل
وجب أن يعمل في الحادثة التي هذا شأنها بما يقوم به العدل وتتحقق به المصلحة
وهذا ما عناه حسن باشا عاصم نفسه بقوله في تأبينه أنه كان في القضاء ما يعبر عنه
الإفرنج (بقاضي العدل والإنصاف) وأقول والشيء بالشيء يذكر أنه كان قد وشي
به إذ كان قاضيًا للمستشار القضائي بأنه يخالف القانون عمدًا في بعض أحكامه، فسأله
المستشار عما قيل فأجابه: هل القانون وضع لأجل العدل أم العدل وضع لأجل
القانون؟ فقال: بل القانون وضع لأجل العدل. فبين له حينئذ القضايا التي لم يلتزم
فيها نص القانون وأنه لو التزمه لخرج عن العدل وترتب على ذلك من المفاسد كيت
وكيت. فشكر له المستشار ذلك.
وكان على هذا الاختلاف بين الصديقين في هذا الأصل أو المبدأ كما يقال قد
حدث أن الأستاذ أمر بشيء مخالف للقانون على سبيل الاستثناء لأجل المصلحة
العارضة فأنفذه حسن باشا ممتعضًا ثم قابل الأستاذ وقال له: إنني أنفذت أمرك الذي
كتبت إلي به لأن أمر الرئيس متى صدر بالفعل وجب تنفيذه كيفما كان وإلا فلا معنى
للنظام ولا للرئاسة، ولكنني أرجوك أن ترجي ما تراه من مثل هذا إلى أن نجتمع
ونتذاكر فيه. فلما عرضت مسألة مدرسة المحلة خاف حسن باشا أن يعد رئيس
الجمعية آباء أولئك الأولاد أو يكتب إليه أمرًا بقبولهم بطريق الاستثناء، وذلك صعب
عليه جدا ولا بد من تنفيذه متى أمضاه الرئيس. فكتب إليه يرجوه أن لا يبت شيئًا في
المسألة لا بالأمر ولا بالوعد بل يرجئ ذلك إلى الاجتماع. وكان الأمر كذلك فاجتمع
مجلس الإدارة وتناقشوا فيها وكان من رأي بعضهم تغيير ما فرضه قانون المدارس في
السن فعلم حسن باشا بذلك، فتشدد رحمه الله تعالى في المحافظة على القانون وعدم
قبولهم وكتب إلى الأستاذ الإمام كتابًا يستقيل به من إدارة المدارس إن تغيرت مادة
تحديد السن في القانون. وبعد طول المناقشة تقرر بأغلب الآراء تنفيذ رأي الرئيس
وهو الأستاذ الإمام بقبول أولئك الأولاد بطريق الاستثناء وإرضاء الوكيل ومدير
المدارس بوعد المجلس له بأن يكون هذا الاستثناء قاصرًا على هؤلاء الأولاد لا
يتعداهم إلى غيرهم ولا يطلب إدخال غيرهم باستثناء آخر.
في ذلك اليوم الذي قرر فيه مجلس إدارة الجمعية ما ذكر ذهبت إلى مكتب
الجمعية لمقابلة الأستاذ الإمام عند خروجه فرأيته خارجا مع بعض أعضاء المجلس
وعلمت ما تقرر. ولما كتب المؤيد في ترجمة حسن باشا ما كتب كدت أشك فيما
أعلم فراجعت درويش بك سيد أحمد أمين الجمعية (سكرتيرها) منذ وُجدتْ فقلت له:
هل رأيت ما كتب المؤيد في ترجمة المرحوم حسن باشا؟ قال: نعم. قلت له: إن
الذي علمته أنا يومئذ مخالف لما في المؤيد - وذكرته له - فأينا الغالط؟ فقال: إن
الغلط هو ما جاء في المؤيد وما تذكره أنت هو الذي وقع.
وعجبت مما قال المؤيد أن حسن باشا كتب إلى المرحوم الشيخ (لا تضع
رجلك في المحلة) إلخ وحسن باشا أعلى أدبا من أن يكتب ذلك لمن دون الشيخ في
مكانته الذاتية وفي صداقته له، فلا أدري من أين جاء المؤيد هذا.
وجملة القول: إن حسن باشا رحمه الله تعالى كان شديدا في المحافظة على
النظام والقوانين كما كتبنا من قبل، ولكن لم يكن مستبدا في الجمعية الخيرية ولا في
غيرها وكيف يكون متبع النظام مستبدا؟ وإن أعضاء مجلس إدارة الجمعية كلهم من
أهل الاستقلال فما كانوا يتبعون له رأيا، وإنما يقول كل واحد ما يظهر له أنه
الصواب وكان كل شئ يختلفون فيه يقرر بأكثر الآراء إن لم يتفقوا، كما هو نص
القانون.
أقول: سمعت حسن باشا رحمه الله تعالى يقول بعد ما بلغه أمر الأمير بعزله:
الحمد لله أنني الآن صرت قادرا على أن أعطي الجمعية الخيرية حقها من الخدمة
فإن السراي كانت آخذة معظم وقتي.
وقد عين بعد ذلك وكيلا لدائرة القصر العالي وكانت مختلة معتلة مسلوبة منهوبة
فأدارها بدقة ونظام يعجز عنهما سواه ممن قضوا أعمارهم في إدارة الأعمال
الزراعية والإدارية والمالية. وعين مع ذلك مأمورا لتركة الأمير محمد إبراهيم وهي
تضاهي دائرة القصر العالي ثروة وأعمالا ومشاكل فضبطها أحسن ضبط. ولما
تأسست الشركة الإنكليزية المصرية للاتجار بالأراضي الزراعية كان - وهو من
مؤسسيها - وكيل أعمالها وأدهش الإفرنج بأعماله فيها على كثرة أعماله في القصر
العالي وفي تركة لأمير محمد إبراهيم وفي الجمعية الخيرية ومدارسها. ثم عين مع
ذلك عضوا في اللجنة الإدارية لمدرسة القضاء الشرعي، فكان لها من خدمته العظيمة
الحظ العظيم. وقد أشرنا في الكلام عن إخلائه إلي بعض عمله في جمعية إحياء
العلوم العربية التي كان وكيل رئيسها، بل لم يكن لها بعد الأستاذ الإمام رئيس سواه.
كان يعمل هذه الأعمال كلها مع منتهى الدقة والإتقان، فيالله ولهمم الرجال.
وههنا أقول أني كنت أنتقد عليه كثرة العمل وأخاف أن ينهكه فيقتله، وأنى
لجسمه النحيف أن يحتمله، وقد كان ما خفت أن يكون، فإنا لله وإنا أليه راجعون،
أصابه منذ أشهر ضعف في المعدة ترك لأجله أكل اللحوم كلها حاشا السمك وقد كان
صام رمضان الماضي كله على الوجبة إذ لم يكن يتسحر، فكلمته في ذلك غير مرة
فقال لي: إنني جربت مرة فأكلت في السحور شيئًا من الكنافة والفاكهة فثقل علي
وأصابني منه غثيان في النهار. وكنت أراه أحيانا بعد العصر من رمضان وقد
ضعفت قوته وخفت صوته، حتى لو استفتاني في الفطر لأ فتيته، ولكن الله تعالى
أحب أن يكون ذلك خاتمة عمله. فرحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأحسن عزاءنا
عنه، ونفعنا بسيرته الحميدة بمنه وكرمه.