للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
يوم ٢٨ و٣١ مارس سنة - ١٨٦
نحن الآن سائرون تحت خط السرطان، ويُرى على (لولا) أنها لغرارتها
تقلب وجهها في السماء تفتيشًا عن ذلك الحيوان البشع الشبيه بالسرطان البحري في
شكل أرجله كما هو مرسوم في التقاويم التي جعل فيها من علامات منطقة فلك
البروج، وهي بذلك تستهدف لسخرية (أميل) وزرايته.
تجري بنا السفينة بأقصى سرعة لها تُزجيها رياح شديدة، وقد مدت جميع
شرعها فجعلت حبالها تصر صريرًا. ذلك أنا أردنا اغتنام هذه الرياح الانقلابية [١]
التي يسميها الإنكليز رياح الشمال الشرقي التجارية.
يتدرج النهار في النقص ويكاد الآن يساوي الليل.
تنقذف من باطن المياه أسراب كالغيوم من السمك الطيار، وتسف سفيف
الخطاف، فبينما كان أحد الملاحين البسلاء يوقد مدخنته (عود دخان التبغ)
البارحة؛ إذ لطمه جناح بارد مندي على خدّه فتولاه من ذلك دهش عظيم. ثم التفت
حوله فإذا هو بسمكة من ذلك الصنف تحت قدميه على ظهر السفينة، ويندر أن
تصل أمثالها في انقذافها إلى هذا الارتفاع، وإنما جذبها إليه ضوء المدخنة.
أخوف سكان البحر الأخرى التي لم يرها (أميل) حتى الآن وأهيبها بلا
نزاع، كلاب البحر , وللملاحين في صيدها نوع من الحماسة والنخوة، وقد اصطادوا
غدوة اليوم واحدًا من هذه العفاريت (كما يقولون لأنهم أطلقوا عليها أبشع الأسماء
كلها) وذلك بواسطة هبرة من لحم الخنزير زنتها نحو خمسة أرطال ألقوها إليه
وكان منظر صيده مؤثرًا؛ فاسترعى أبصار جميع المسافرين وبعثهم على الصعود
إلى ظهر السفينة لمشاهدته، وكان أول عمل لهم بعد صيده أن بتروا ذنبه بفأس ,
وهو احتياط أراه ضروريًّا على ما فيه من القسوة؛ لأنه شوهد غير مرة أن إغفاله
كان سببًا في أن يكسر بذلك الطرف المرن ساق بعض القريبين منه أثناء معالجته
التفلت من أيدي صائديه، ويأكل الملاحون أحيانًا صغار كلاب البحر غير أنهم
يقرون بألسنتهم أن لحمها غير جيد، وهم إذا قتلوا هذه الحيوانات فإنما يبعثهم على
قتلها مجرد بغضهم لها، ولشد ما يؤذونها بسبب هذا البغض , وحجتهم فيه أن ما
يصطادونه ويقتلونه منها التقم فلانًا أو فلانًا من أصحابهم، فإن لم يكن هو الذي
التقمه كان أخوه أو أحد أقاربه، ولقد حاولت صدهم عن ممارسة هذه الألاعيب
الوحشية مبينًا لهم أن الإنسان لا ينبغي له أن يعذب عدوه بعد غلبه , فذهب نصحي
أدراج الرياح، ولكني آمل أن لا تفوت (أميل) هذه العبرة.
تبقى لكلاب البحر بعد موتها في السفينة رائحة خبيثة لا تزول إلا بعد بضعة
أيام , وهكذا الأشرار يؤذون حتى بعد موتهم من يسعون لخلاص الناس من شرهم.
قلما يفهم الأطفال من القوانين شيئًا إلا قانون القصاص، ذلك أن الملاحين
اصطادوا دلفينًا [٢] عشية اليوم الذي اصطادوا فيه كلب البحر فما كان من (لولا)
إلا أن قالت وهى تنظر إليه نظرًا يشفّ عن الرحمة: لقد استحق هذا، فإني رأيته
التهم كثيرًا من الأسماك الطيارة الجميلة، ولقد صدقتْ فإن ما التهمه منها لم يكن إلا
لقمة واحدة من لقمه، وإن سنة الله في خلقه أن من أَكَل أُكِل , وقد أثبتها الملاحون
لها بجعله عشاء لهم , ولحم هذا الحيوان إذا غلي في الماء كان فيه شيء من الجودة
إلا أنه يكون ناشفًا.
في نحو الدرجة السادسة عشرة والدقيقة الثلاثين من العرض الشمالي أنشأنا
نرى في السماء برجًا جديدًا يسميه الملاحون صليب الجنوب , وهو مؤلف من
خمسة نجوم.
وعجيبة أخرى أبصرناها في ذلك المكان؛ وهي أن المياه تضيء ليلاً , وقد
راع منظرها (أميل) و (لولا) فلم يستطيعا أن يفيقا من التلذذ بجماله , وإن كان
قد بعث فيهما شيئًا من الخوف , فإن كليهما سألاني من ذا الذي أوقد النار في البحر,
ففسرت لهما بما في وسعي ما أعلمه من أسباب هذه الحادثة التي لم تعلم تمام العلم ,
وقد علل العلماء وجود هذا الضوء في الماء بوجود حيوانات مضيئة تشبه النباتات
فيه.
كان ذلك النور من شدة سطوعه بحيث أن (أميل) تناول كتابًا من جيبه وقرأ
فيه على انعكاس ضوئه عن الأمواج الملتهبة هذا البيت من قصيدة لشكسبير وهو:
خير جزء في روحي ... وهي بالتحقيق روحك
نعم إن الله سبحانه لم يفض علينا جميع روحه , وما أقل ما أفيض علينا منه
غير أن هذا القليل الذي يهبه لنا يتصل بروحنا اتصالاً حقيقيًّا [٣] . الذي يدهشني من
حادثة ظهور الضوء في البحار أنها تقع عادة في أحلك الليالي. اهـ
***
يوم ٣ أبريل سنة - ١٨٦
قد صرنا تجاه الرأس الأخضر، ولما رأى الملاحون سكون الريح في هذا
المكان، أدلوا قواربهم وسبحوا لصيد السلاحف البحرية، وهذه السلاحف من عادتها
أن تظهر قريبًا من سطح الماء فتكون كأنها نائمة فوقه , فتصطاد بنوع من السهام له
أربعة أسنان يسميها ملاحو الإنكليز بالحبوب , وكل ما يصاب منها بتلك السهام
يجذب بعد صيده إلى القوارب بواسطة حبال تكون في أيدي الرماة، وقد رأيتهم
اصطادوا منها في ساعتين ثمانية زنة كل منها من خمسة عشر إلى خمسة وأربعين
رطلاً إنكليزيًّا. اهـ
***
يوم ٤ أبريل سنة -١٨٦
أعوزتنا الرياح الانقلابية التي كانت مواتية لنا أحسن المواتاة على جرينا في
فضاء المحيط، وعوضنا عنها الآن رياحًا خفيفة متناوحة تهب على التعاقب من
جهات مختلفة للأفق , وانتقبت السماء في مواضع متفرقات منها بسحب بيضاء ,
وسفرت في مواضع أخرى بزرقة شاحبة جميلة، وللشمس في هذا المكان شروق
يخطف الأبصار ضياؤه؛ فلا تقوى على احتماله , وأما غروبها ففخيم جليل. اهـ
***
يوم ٩ أبريل سنة -١٨٦
تمطرنا السماء شآبيب ووابلاً حارًّا. وكل ما نراه يؤذن باقترابنا من خط
الاستواء , فترى الملاحين على ظهر مقدم السفينة مشتغلين بوضع لحى كاذبة لهم
وتغطية رءوسهم بعوارٍ من الشعر , وارتداء ثياب بشعة، حتى إنه ليخيل للرائي
أنهم في أمس عيد المرافع، ويشهد (أميل) هذه الضروب من الاستعداد شهادة
الخائف؛ لعلمه حق العلم بما سيلاقيه، فإن كل تلميذ بحري لم يجتز خط الاستواء
لابد أن يقتحم صنوف بلائه ومحنه كما هي العادة , فلا تزال شعائر الملاحين
القديمة متبعة , وإن كانت قد فقدت كثيرًا من مظاهرها الصبيانية الوحشية التي
كانت تجعلها مخوفة جدًّا في قلب المبتدئ في الملاحة، وعلى كل حال فالملاح
طفل, ولولا ذلك لما لعب بالمخاطر ملاعبة الباسل المقدام. اهـ
***
يوم ١٣ أبريل سنة - ١٨٦
اصطبغ (أميل) بالمعمودية البحرية فصار الآن من أولاد إله البحر. حالة
الجو في اختلاف وتغير، فمن رياح شديدة إلى سكون عام , ومن مطر هتان إلى
شمس محرقة ترمي رءوسنا بسهام أشعتها العمودية.
لفتنا الربان إلى إعصار من الأعاصير المائية التي يخشاها الملاحون بحق ,
فرأيناه من مسافة بعيدة , وأكثر ما تثور هذه الأعاصير في جهة خط الاستواء.
اهـ
***
يوم ١٥ أبريل سنة - ١٨٦
صادفتنا سفينة قافلة من الهند أو من الصين إلى بريطانيا العظمى , وآذنتنا
بإشاراتها أنها مستعدة لحمل ما نُحملها من الكتب , ولما كان تبادل صنائع المعروف
مما تحفظ به المودة في البحر أرسلنا لها بعض صحف إنكليزية مضى على نشرها
ستة أسابيع , ولكن أخبارها يكون لها من الجدة عند ركابها ما لصحف الصباح عند
سكان لوندره , وقد كتبت وكتب (أميل) كلمتين لصديقنا الدكتور وارنجتون. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))