للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مصطفى نور الدين


قُرْب الله تعالى من عباده

من مصطفى نور الدين، إلى إمام المصلحين، وملجأ المسترشدين، السيد
محمد رشيد رضا متعه الله بالصحة والعافية ونفعنا بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فقد قرأت في الجزء الثاني من تفسير المنار
لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: ١٨٦) هذه العبارة،
وهي في آخر سطر من الصفحة ١٧٨: وقال الأستاذ الإمام: يصح أن يكون من
قرب الوجود، فإن الذي لا يتحيز ولا يتحدد تكون نسب الأمكنة وما فيها إليه واحدة
فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء؛ إذ منه كل شيء إيجادًا وإمدادًا وإليه المصير،
وهذا الذي قاله من الحقائق العالية وعليه السادة الصوفية، فقد قال أحد العلماء في
قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: ٨٥) أي إذا بلغت روحه
الحلقوم: إن القرب بالعلم وكان أحد كبار الصوفية حاضرًا فقال: لو كان هذا هو
المراد لقال تعالى في تتمة الآية: (ولكن لا تعلمون) ولكنه لم ينف العلم عنهم،
وإنما قال: {وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: ٨٥) وليس شأن العلم أن يبصر
فينفي عنا إبصاره وإنما ذلك شأن الذات اهـ بالمعنى.
لما قرأت هذه العبارة ووجدتها مصرحة بأن الله قريب بذاته من كل شيء من
مخلوقاته ومخالفة لما ذهب إليه السلف من أن الله مستو بذاته على عرشه بائن من
خلقه مع قربه منهم بعلمه عجبت لإقراركم بل استحسانكم لمضمونها، وإنما عجبت
لأني أعلم أنكم من أحرص الناس على اتباع السلف في هذه المسألة وهي كثيرة
ومستفيضة شهيرة من الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم خصوصًا
ما جاء من ذلك في كتب ابن تيمية وابن القيم، وكتاب العلو للذهبي. ومن تأمل
الآية التي في سورة الحديد تجلى له بأجلى بيان أن مذهب السلف في هذه المسألة
هو الصواب (وههنا ذكر المنتقد الآية وتكلم في تفسيرها وحديث: (اللهم أنت
الأول فليس قبلك شيء) وتفسيره ثم قال:
وأما الاستدلال بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: ٨٥) على أنه تعالى قريب بذاته من مخلوقاته فهو استدلال باطل؛ لأنه
مبني على معنًى مخالف لما عليه جمهور المفسرين، فإن بعضهم فسَّر القرب بقرب
الله من المحتضر بالعلم، وفسَّر تبصرون بمعنى الإبصار بالبصيرة وهذه عبارة
الجلال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: ٨٥) بالعلم {وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: ٨٥) من البصيرة أي لا تعلمون ذلك اهـ.
وبعض المفسرين وهم الأكثر فسَّر القرب بقرب الملائكة من المحتضر،
وفسَّر تبصرون من الإبصار بالبصيرة، ومن ذلك تعلم أن الاستدلال بهذه الآية على
أنه تعالى قريب بذاته من مخلوقاته استدلال فاسد؛ لأنه لم يسلك قائل هذا القول أحد
التفسيرين بل لفق بينهما ففسد المعنى، ثم لا غرابة ولا بُعْدَ في هذا التفسير الثاني
من حيث إسناد قرب الملائكة إلى الله فقد عهد له نظير في القرآن فقد قال تعالى:
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: ٤٢) مع إسناد التوفي إلى الملائكة
في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: ٦١) وفي
قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ} (السجدة: ١١) وأمثال ذلك في القرآن
كثيرة لمن تأمل.
والخلاصة أن المقصود من كتابتي بهذا لفضيلتكم هو أني أرجو إفادتي بما
يزيل عجبي، ولكم مني الشكر، ومن الله جزيل الأجر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى نور الدين
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بدمياط
(المنار)
أقول: (أولاً) إن قرب الوجود بالمعنى الذي فسره به الأستاذ الإمام رحمه
الله تعالى أقرب إلى مذهب السلف في علوه على خلقه مع مباينته لهم، وهو قوله:
إن نسبة الأمكنة وجميع ما فيها إليه واحدة، ففيها رد لقول من يقول: إن الله تعالى
في كل مكان من أهل الحلول الذين عني علماء السلف كل العناية بالرد عليهم بقوله:
إنه تعالى فوق عباده بائن من خلقه، وأما عبارة ذلك الصوفي فليست كعبارة
الأستاذ، فما ذكرناه من التقريب بينهما هنالك احتمال رجَّحه عندنا تحسين الظن
بقائله ولا يمنع منه إلا العلم بأنه حلولي، فإن منهم الحلوليين كما أن منهم المحدثين
الأثريين كشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري على ما في كتابه منازل
السائرين من عبارات منتقدة وكالشيخ عبد القادر الجيلاني رحمهما الله تعالى وهما
من مثبتي صفة العلو ومنكري تأويل الصفات، وستأتي تتمة لمعنى قرب الوجود
في آخر هذا الرد.
(وثانيًا) إن قول المنتقد بذهاب السلف إلى أن الله تعالى (مستو بذاته على
عرشه) خطأ وإن نقل ذلك عن بعض الأثريين من أهل القرن الثالث والرابع، وما
كل ما قاله عالم معدود من جماعة يُعَدُّ مذهبًا لهم، وإسناد الاستواء إلى الذات لم يرد
في كتاب الله ولا في حديث متواتر ولا آحادي صحيح مرفوع إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولا نقل عن جماعة الصحابة ولا عن واحد منهم، ولا علماء
التابعين على أن العمدة على العقائد نصوص الكتاب العزيز والسنة الصحيحة
القطعية الدلالة أو إجماع أهل الصدر الأول، ومن الخطأ الذي فتن به جميع
المنتمين إلى المذاهب حتى مذهب السلف الذي ليس مذهب شخص معين أن يأخذ
المقلدون له قول كل عالم منسوب إليه ويعدونه من أصول المذهب المسلمة أو
أحكامه المتبعة، ويعدون مخالفه مخالفًا للمذهب.
نقل الحافظ الذهبي في كتاب العلو عن ابن أبي زيد شيخ المالكية في عصره
أنه قال في رسالته المشهورة في مذهب مالك: وإنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته،
وأنه في كل مكان بعلمه اهـ , وقفَّى الحافظ على هذا بذكر من نقل عنهم مثل
هذا القول قبله وبعده باللفظ أو المعنى كقول بعض العلماء: (والله تعالى خالق كل
شيء بذاته ومدبر الخلائق بذاته بلا معين ولا مؤازر) مع أن هذا على ما فيه ليس
بمعنى ذاك، ثم قال الحافظ متأولاً له ولهم؛ لأنهم من طائفته الأثرية ومنتقدًا ما
نصه:
وإنما أراد ابن زيد وغيره التفرقة بين كونه تعالى معنا وبين كونه تعالى فوق
العرش فهو كما قال: ومعنا بالعلم وإنه على العرش كما أعلمنا حيث يقول:
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) وقد تلفظ بالكلمة المذكورة (أي فوق
عرشه بذاته) جماعة من العلماء كما قدَّمناه، وبلا ريب أن فضول الكلام تركه من
حسن الإسلام.
إلى أن قال بعد ذكر تاريخ وفاته سنة ٣٨٦: وقد نقموا عليه قوله بذاته فليته
تركها اهـ , وهذا وما قبله من الانتقاد الأدبي الصريح لهذه الكلمة غير المأثورة
أي المبتدعة التى جعلها أخونا المنتقد أصلاً من أصول مذهب السلف من الصحابة
فمن دونهم.
وأزيد على هذا أن قول ابن أبي زيد رحمه الله تعالى: (وإنه في كل مكان
بعلمه) منتقد أيضًا، وإن أراد به التعبير عن تأويل بعض أئمة الحديث كأحمد بن
حنبل لآيات المعية بحملها كلها على معية العلم، والرد على الحلوليين بما هو أشبه
بتأويل قولهم بما يصححه منه بإبطاله -ذلك بأن جملة (وهو في كل مكان) هي
عين ما يقولون والضمير فيها لذات الله عز وجل. فقوله بعده (بعلمه) لا ينافي
دلالة الجملة على كونه في كل مكان بذاته؛ لأن المتبادر أن الظرف فيها متعلق
بمحذوف تقديره متلبسًا أو متصفًا بعلمه- وهذا الوصف الواقع فضلة في الكلام لا
ينقض معنى ما هو العمدة فيه ولا يقيده بجعله بمعنى قول آخرين من علماء السلف:
وعلمه في كل مكان، فإن صفة الذات كالعلم لا توجد إلا حيث توجد الذات أي لا
توجد إلا بوجودها لاستحالة انفصالها عنه، وإنما الذي يصح أن يقال: إنه تعالى
فوق عباده مُسْتَوٍ على العرش، ويعلم كل شيء من أمور خلقه كما قال تعالى: {ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} (الحديد: ٤) إلخ.
(وثالثًا) قال المنتقد: إن الاستدلال بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ
وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: ٨٥) على قرب الذات باطل (لأنه مبني على
معنى مخالف لما عليه جمهور المفسرين) ونحن نقول بصرف النظر عن أصل
المسألة: إن هذا تعليل للبطلان لا يقبله أحد من أهل العلم؛ لأنه نص في أن كل ما
خالف ما عليه جمهور المفسرين باطل، وهذا باطل بالبداهة ولم يوجد عالم من
المفسرين ولا من غيرهم قال: إن قول الجمهور منهم أو من غيرهم قطعي
كنصوص الكتاب والسنة فيكون كل ما خالفه باطلاً.
ثم بيَّن أن للجمهور قولين أحدهما تفسير (تبصرون) بأنه من البصيرة أي
العلم، وذكر عبارة الجلال فيه، وثانيهما فسَّر القرب بقرب الملائكة من المحتضر،
وبأن تبصرون من الإبصار بالبصيرة، وعزا هذا القول للأكثر فيكون هو قول
الجمهور عنده، ونحن لا نعرف عن مفسري السلف رواية في ذلك، وإنما هو قول
مصنفي التفسير، وقد يقال: إن قوله تعالى قبل الآية: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} (آل
عمران: ١٤٣) دليل على أن الإبصار المنفي هو إدراك البصر لا البصيرة وأن
البصيرة ليست مرادفة للعلم، وإنما تدل على العلم المؤيد بالدليل أو اليقين في
المعرفة أو ما فيه عظة واعتبار، وتفسير ضمير الذات من الله عز وجل وهو
(نحن) بالملائكة تأويل بعيد من اللفظ جدًّا، وهو عين التأويل الذي ينكره السلف
على المبتدعة.
ولكن المنتقد قرب هذا التأويل بقوله: إنه عهد له نظير في القرآن، وهو
قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: ٤٢) مع إسناد التوفي
إلى الملائكة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: ٦١) وفي قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: ١١) قال: وأمثال ذلك في القرآن كثيرة لمن تأمل.
وهذا التأويل الذي ذكره لآية توفي الله للأنفس لا يجري على طريقة السلف
ولا الخلف فتوفي الله للأنفس غير محال عقلاً ولا شرعًا، فتأوله بجعل لفظ الجلالة
فيه بمعنى الملائكة! فالله تعالى هو الفاعل للتوفي، ولكل شىء من تدبير الكون،
وقد أسند التوفي إليه في آيات كثيرة لم يقل أحد من السلف ولا من الخلف فيما نعلم:
إنه أراد بها إسنادها إلى الملائكة، نعم إنه أسند التوفي أيضًا إلى ملائكته وإلى
رسله، أي من الملائكة في آيات أقل من الآيات التى أسنده فيها إلى ذاته خبرًا
ودعاء، وأسنده في آية أخرى إلى ملك واحد {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ
بِكُمْ} (السجدة: ١١) والجامع بين هذه الآيات كلها أن المتوفي الحقيقي للأنفس
والأرواح هو الله تعالى، وأنه وكل بذلك ملكًا له أعوان من الملائكة يتولون تنفيذ
أمره تعالى، وذلك الملك هو الرئيس لهم كما ورد في التفسير المأثور، وذكرناه في
محله من تفسيرنا.
ولو تفكر أخونا قليلاً في هذا المسألة التى توهم أن ما قاله فيها ضروري لا
خلاف فيه، وتأمل بقية آية الزمر، ثم تذكر ما في معناها من الآيات لما تعجل
بكتابة ما كتبه ليخطئ به غيره في فهم كلمة من آية.
قال تعالى: {فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ
مُّسْمًّى} (الزمر: ٤٢) فهل يتجرأ على القول بأن الملائكة هي التي تفعل ذلك؟
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (الأنعام: ٦٠) فهل يقول بجواز إسناد هذا إلى الملائكة، وإن كان بصفة
الحصر، ومع ما عطف عليه من العلم أم يفرق بين ضميري الفعلين فيجعل الأول
للملائكة والثاني لله؟
وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} (النحل: ٧٠) فهل يفرق بين ضميري
الفعلين، فيجعل الأول لله والثاني المعطوف عليه للملائكة؟
وقد علمنا تعالى أن ندعوه بقولنا: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} (آل عمران:
١٩٣) وقوله: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: ١٢٦) فهل يجوز أن يكون
الخطاب في هذا الدعاء للملائكة؟
إنني أطلت في هذا وفيما قبله لأذكر أخي في الله المنتقد لأجل الاستزادة من
العلم بأن لا يتجرأ بعد الآن على التخطئة والتصويب والترجيح والتجريح في تفسير
كلام الله بغير تدقيق وتحقيق وطول بحث وكثرة مراجعة.
إنه خطَّأ ذلك الصوفي وشيخنا في تفسير آية واحدة سلكا في تفسيرها مسلك
السلف من حيث الأخذ بالظاهر وعدم التأويل فإن الله تعالى أسند (أقرب) إلى
ضمير الذات (نحن) فمعناه أنه قريب بذاته، ووجهه على مذهب السلف أن يقال:
إنه قريب بذاته كما يليق به لا كقرب الأجسام بعضها من بعض، وهو قرب المسافة
التى تحدد بالذراع والباع معا كما يقولون: إنه استوى على العرش، وينزل إلى
سماء الدنيا، ويضحك، ويسمع، ويرى كما يليق به، لا كما هو المعهود من
المخلوقين، والمتأولون للآية إنما تأولوها كما تأولوا الاستواء على العرش والنزول
إلى سماء الدنيا، وغير ذلك من الصفات والأفعال؛ لزعمهم أن إسنادها إلى الذات
يوهم الحلول والتحيز كما قالوا في سائر الصفات.
وهذا سبب تأويل علماء السلف لآيات المعية كلها حتى قالوا: إن الإمام أحمد
لم يتأول غيرها، وانتقد عليه ذلك بعض العلماء السلفيين، وإنه لم يكن في حاجة
إلى ذلك كما تراه في رسالة العلامة الشوكاني، وإنما كان سبب هذا التأويل منه
ومن غيره وجود طائفة من المبتدعة تقول: إن الله تعالى حالٌّ في العالم كحلول
السمن في اللبن، والروح في البدن، وطائفة تقول: إنه هو عين العالم، وهذا
نقضٌ لما كان عليه السلف من الإيمان بأنه تعالى فوق جميع خلقه بائن منهم، ولكنه
على كل حال تأويل يحمل اللفظ على غير ظاهره ليوافق العقيدة، وهذا ما جرى
عليه المتكلمون كافة في تأويلهم، ولا سيما الأشعرية الذين يخطئهم السلفيون أهل
الأثر.
وأنا حملت كلام الأستاذ الإمام على مذهب السلف؛ لأنني أعلم أنه كان سلفي
العقيدة كما صرَّح به قولا وكتابة، على أنني ذكرت في التفسير أنه كان يسبق إلى
فهمه في بعض الصفات ما جرى عليه مفسرو الأشعرية من التأويل لما كان من
توغله في علم الكلام , وليس حملي هذا بتكلف بل هو مراده قطعًا، وحملت عليه
كلام ذلك الصوفي في تفسير آية (الواقعة) أيضًا؛ لأنه مع احتمال عبارته له لا
يصح أن يحمل على مذهب الحلول إلا إذا علم أن قائله كان حلوليًّا، وأنَّى لنا بذلك؟
وإذا أنت رجعت إلى ما ورد في سبب نزول الآية التى نحن بصدد الكلام
عليه رأيت أن بعض الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أين
ربنا، وفي رواية أن بعضهم سأله: (أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه) ؟
فنزلت الآية في ذلك.
ومن المعلوم بالضرورة أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يجهلون أن الله
تعالى يسمع كل دعاء ويعلم مراد كل داع، وإنما سألوا أيسمع عن قُرْب أم عن بُعْد؟
فأجابهم تعالى بأنه قريب وبيَّن لهم رسوله ذلك بأنه أقرب إلى أحدهم من عنق
راحلته، وأبلغ منه قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: ١٦) وأصح من تلك الروايات ما رواه الشيخان من قوله صلى الله عليه
وسلم للصحابة لما رفعوا أصواتهم بالتكبير: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون
أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا بصيرًا قريبًا) فقوله: (قريبًا) ليس من اللغو
ولا هو بمعنى عليم، وما أول الآية به الزمخشري مفسر المعتزلة أقرب إلى اللغة من
تأويل القرب بالعلم، وهو أنها تمثيل لحاله في سهولة إجابة من دعاه وسرعة إنجاحه
لحالة من سأله بمن قرب مكانه، فإذا دعي أسرعت تلبيته، والغرض من التأويلين
نفي قرب المكان، فكيف نرده؛ لأنه تأويل أخرج به اللفظ عن حقيقته وجعله استعارة
تمثيلية؟ والاستعارات التمثيلية كثيرة في القرآن، وهي من أكبر آيات بلاغته، وقد
صرَّح الكرخي في تفسير القرب على مذهب السلف فقال: الحق أن القرب من
الصفات نُؤْمِن به ونُمِرُّهُ على ما جاء ولا نُأَوِّل ولا نُعَطِّل اهـ.
ومما ورد في القرب ولا يصح جعله بمعنى العلم قوله تعالى لخاتم رسله:
{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ
قَرِيبٌ} (سبأ: ٥٠) وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: ٦١) .
وخلاصة ما تقدم أن الأصل في مذهب السلف فيما وصف الله به نفسه ما
أسنده إلى ذاته من الأفعال أن نؤمن بها كما وردت ونفسرها بما تدل عليه عبارتها
العربية من غير تأويل ولا تعطيل مع مراعاة تنزيهه تعالى عما قد يوهمه اللفظ في
نفسه من تشبيه بخلقه، ومن فهم مع التمسك بهذه القاعدة من كلام الله تعالى في
بعض الآيات فهما يزداد به هو وغيره إيمانًا بالله وعلمًا كان ممن قال فيهم أمير
المؤمنين علي كرم الله وجهه لما سأله أبو جحيفة هل خصكم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بشيء من العلم فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمًا يؤتيه الله
عبدًا في القرآن إلخ، فيراجع نصه في صحيح البخاري.
بعد هذا أختم هذا البحث بأن قرب الله من عباده لا يفهمه حق فهمه كمعيته إلا
بتذكر آيات آخرى كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا} (فاطر: ٤١) وقوله: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} (البروج: ٢٠) وقوله:
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} (الأنفال: ١٧) وقوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} (المؤمنون: ٨٨) إلخ وتذكر العقيدة الإسلامية المتفق عليها بدلالة أمثال هذه
الآيات، وما في معناها من الأحاديث، وهي أن الإيجاد والإمداد للعالم كله كليهما
بيد الله تعالى لا تستغني ذرة من الكون عنه تعالى طرفة عين، فمن كان هذا شأنه
كان قريبًا من كل شيء علمًا وقدرة وتدبيرًا وتصرفًا، ومنه إجابة الدعاء، والنصر
على الأعداء، وتقليب القلوب والأبصار إلخ، وتصرفه في كل ذلك كما قال:
{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر: ٥٠) فكل هذا المعاني تدخل في باب
قربه من خلقه، وهي تتعلق بعدة من صفاته، فإذا هو أسند القرب إلى ذاته أمررناه
كما هو مع التنزيه من تأويل ينافي الإسناد إلى الذات، ولا تعطيل يجعله كاللغو بل
نعطي كل مقام من المعنى ما يليق به من علم وتصرف وغير ذلك، والله أعلم.