للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


(الدرس ١٩)

الحاجة إلى الوحي والنبوة
بيَّنا وجه حاجة الإنسان إلى الوحي لسعادته في الحياة الدنيا، من حيث إنه
نوع اجتماعي أودع في طبيعة أفراده من الرغائب والحظوظ ما يقتضي التباين
والتنازع، كما أُودِع فيها من حب الاجتماع والعجز عن تحصيل معظم ما تطالبها به
الفطرة ما يدعو إلى التعاون، الذي يعارضه التخالف والتغابن، ولا يتم للنوع
ارتقاؤه - بل ولا بقاؤه - مع هذه الغرائز المتعارضة؛ فمن ثَمَّ كان محتاجًا إلى إرشاد
يوافق بين آثار هذه الغرائز وعوارضها، بما يذهب بتعارضها، ويعرف كل فرد من
الأفراد حدّه، ويجعل له من نفسه وازعًا يوقفه عنده، ولم تكمل له هذه الحاجة إلا
بالدين.
ويرد على هذا القول ثلاث شبهات إحداها: أن الإنسان لا يتربى إلا بالكون وما
يعرض عليه من شؤونه وأطواره، فالذي تثبت له الوقائع الكونية أنه ضار يرغب
عنه ويجتنبه، والذي تثبت له أنه نافع يرغب فيه ويجتلبه، ولذلك لم تنتفع الأمم
والشعوب بهدي الأديان، إلا بمقدار ما أعدتها له الأكوان، وقد أجبنا عن هذه الشبهة
في الدرس السابق من غير أن نقررها، ولم يكن الجواب ناقضًا لمسألة الاستعداد، فقد
ورد أن الأنبياء أُمروا أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وما منح الله تعالى الإنسان
الدين إلا بعدما ارتقى استعداده لفهمه {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ} (البقرة: ٢١٣) ... إلخ.
وقد ارتقى هدي الدين وإرشاده بارتقاء الإنسان حتى كمل بالإسلام على ما
بينه أستاذنا الأكبر في رسالته، وسيرتقي أهله وهم العالم الإنساني كله بالنسبة إلى
الدعوة حتى يفهموه حق فهمه، وذلك بعدما ترتقي علوم الفطرة والطبيعة أكمل
ارتقاء كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الحَقُّ} (فصلت: ٥٣) .
الشبهة الثانية: هي أن الحكماء والعقلاء يمكنهم أن يضعوا للناس قوانين
وحدودًا تغنيهم عن الوحي والشرائع السماوية، والجواب عنها أنه إذا فرض أن في
استطاعة الحكماء أن يستقلوا بهذا الوضع، فهل في استطاعتهم أن يحملوا الناس
جميعًا على قبوله والعمل به بغير وازع الدين؟ فإن قيل: إن الحكماء يضعون
القوانين والحكام يلزمون الناس بالعمل بها؛ نقول:
لا ترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
والوازع الدين وازع نفسي؛ لأن مبدأ الدين من الإلهامات الفطرية في نفوس
البشر، وأما وازع القوة فلا سلطان له إلا على الظواهر، فمتى أمن أهل البغي
والتعدي من اطِّلاع الحاكمين يرتكبون ما شاء البغي، ويجترحون ما أحبت الشهوة من
التعدي على الأموال والأعراض وراء الحجب والأستار، وحيث لا تمتد أعين
الشهداء ولا تصل معارف القضاة والأمراء، ثم إن القضاة والحكام أنفسهم إذا كانوا
على غير دين ينتهكون الحرمات، ويقترفون السيئات، ويساعدون الجناة ويشاركون
الجباة.
والحاصل أن الإنسان لا يستغني في حياته الاجتماعية عن حدود عادلة يقف
أفراده عندها في معاملتهم ومعاشرتهم، وأن هذه الحدود لا تُحْتَرم ويوقف عندها،
إلا إذا كانت على موافقتها للمصلحة العامة مضافة إلى تلك السلطة الغيبية التي فُطِر
الناس على الاعتقاد بها والخضوع لها، وهذا عين حاجتهم إلى الوحي لسعادة الدنيا،
وقد تقدم المثال العملي في إثبات هذه النظرية في الدرس السابق.
الشبهة الثالثة: لقائل أن يقول: إن أمم أوربا التي تحكم بالقوانين الوضعية،
هي أسعد من الأمة الإسلامية، وإن الحكومات الإسلامية التي أخذت ببعض هذه
القوانين كمصر والدولة العلية أحسن حالاً ممن لم يأخذ بشيء منها كحكومة مراكش.
والجواب يعرف مما كتبناه في الدرس الماضي من المقابلة بين المسلمين في
نشأتهم الأولى، وبين الأوربيين في نهايتهم، مع أنهم لم يمرقوا كلهم من الدين الذي
بني على وجوب طاعة الحكام، وقد صرحنا مرارًا أن المسلمين صاروا حجة على
دينهم، بل قلنا في المقابلة المذكورة: إنهم حجة من لا دين له على كل دين.
(المسألة ٥٦) :
الحاجة إلى الوحي لسعادة الآخرة: خلق الله للإنسان حواس ومشاعر،
ووهبه عقلاً وفكرًا يهتدي به إلى مصالحه ومنافعه في الدنيا كما قال: {أَعْطَى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: ٥٠) وعلمنا أن هذه المواهب لم تكن كافية له
لسعادته الدنيوية، لولا الدين؛ فما بالك بحياته الأخرى الغيبية التي يقصر عن
تناولها حسه، ولا يحيط بشيء من كنهها عقله، وإنما يشعر بها وجدانه شعورًا
مجملاً مبهمًا؟ وقد بيَّن أستاذنا في (رسالة التوحيد) هذا الشعور أحسن
بيان، واستنتج منه وجه الحاجة إلى الوحي بأجلى برهان، والأفضل أن نقتبسه
بلفظه ومعناه؛ لئلا يضيع شيء من فحواه، قال حفظه الله:
اتفقت كلمة البشر موحدين ووثنيين مليين وفلاسفة إلا قليلاً لا يقام لهم وزن
على أن لنفس الإنسان بقاء تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت فناء،
وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء، وإن اختلفت منازعهم في
تصوير ذلك البقاء، وفيما تكون عليه النفس فيه، وتباينت مشاربهم في طرق
الاستدلال عليه؛ فمِن قائل بالتناسخ في أجساد البشر أو الحيوان على الدوام، ومِن
ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال، ومنهم من قال:
إنها متى فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة حافظة لما فيه لذتها، أو ما به
شقوتها. ومنهم من رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية، ألطف من هذه الأجسام المرئية،
وكان اختلاف المذاهب في كنه السعادة والشقاء الأخرويين وفيما هو متاع الحياة
الآخرة، وفي الوسائل التي تعد للنعيم أو تبعد عن النكال الدائم، وتضارب آراء الأمم
فيه قديمًا وحديثًا مما لا تكاد تحصى وجوهه.
هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة المنبث في جميع الأنفس عالمها
وجاهلها، وحشيها ومستأنسها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن
يكون ضلة عقلية أو نزغة وهمية؛ وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا
النوع، فكما أُلْهِم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا، وإن
شذ أفراد منه ذهبوا إلى أن العقل والفكر ليسا بكافيين للإرشاد في عمل ما، أو إلى
أنه لا يمكن للعقل أن يوقن باعتقاد ولا للفكر أن يصل إلى مجهول، بل قالوا أن لا
وجود للعالم إلا في اختراع الخيال، وأنهم شاكون حتى في أنهم شاكون، ولم يطعن
شذوذ هؤلاء في صحة الإلهام العام المشعر لسائر أفراد النوع أن الفكر والعقل هما
ركن الحياة، وأس البقاء إلى الأجل المحدود، كذلك قد ألهمت العقول، وأشعرت
النفوس أن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل الإنسان
ينزع هذا الجسد كما ينزع الثوب عن البدن، ثم يكون حيًّا باقيًا في طور آخر،
وإن لم يدرك كنهه، ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء يُشْعِر كل نفس أنها
مستعدة لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة شيقة إلى لذائذ غير
محدودة، ولا واقفة عند غاية مهيئة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب
والغايات، معرضة لآلام من الشهوات، ونزعات الأهواء، ونزوات الأمراض على
الأجساد، ومصارعة الأجواء والحاجات، وضروب من مثل ذلك لا تدخل تحت عد
ولا تنتهي عند حد، إلهام يستلفتها بعد هذا الشعور إلى أن واهب الوجود للأنواع إنما
قدر الاستعداد بقدر الحاجة في البقاء، ولم يعهد في تصرفه العبث والكيل الجزاف،
فما كان استعداده لقبول ما لا يتناهى من معلومات وآلام ولذائذ وكمالات لا يصح أن
يكون بقاؤه قاصرًا على أيام أو سنين معدودات.
شعور يهيج بالأرواح إلى تحسس هذا البقاء الأبدي وما عسى أن تكون عليه
متى وصلت إليه، وكيف الاهتداء وأين السبيل، وقد غاب المطلوب وأعوز الدليل؟
شعورنا بالحاجة إلى استعمال عقولنا في تقويم هذه المعيشة القصيرة الأمد لم يكفنا
في الاستقامة على المنهج الأقوم، بل لزمتنا الحاجة إلى التعليم والإرشاد وقضاء
الأزمنة والأعصار، في تقويم الأنظار، وتعديل الأفكار، وإصلاح الوجدان،
وتثقيف الأذهان، ولا نزال إلى الآن من هم هذه الحياة الدنيا في اضطراب لا ندري
متى نخلص منه، وفي شوق إلى طمأنينة لا نعلم متى ننتهي إليها.
هذا شأننا في فهم عالم الشهادة، فماذا نؤمل من عقولنا وأفكارنا في العلم
بما في عالم الغيب، هل فيما بين أيدينا من الشاهد معالم نهتدي بها إلى الغائب؟
وهل في طرق الفكر ما يوصل كل أحد إلى معرفة ما قدر له في حياة يشعر بها،
وبأن لا مندوحة عن القدوم عليها؛ ولكن لم يوهب من القوة ما ينفذ إلى تفصيل ما
أعد له فيها، والشؤون التي لا بد أن يكون عليها بعد مفارقة ما هو فيه أو إلى
معرفة بيد من يكون تصريف تلك الشؤون؟ هل في أساليب النظر ما يأخذ بك إلى
اليقين بمناطها من الاعتقادات والأعمال وذلك الكون مجهول لديك، وتلك الحياة في
غاية الغموض بالنسبة إليك؟ كلا، فإن الصلة بين العالمين تكون منقطعةً إلا فيك
أنت، فالنظر في المعلومات الحاضرة، لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم
المستقبلة.
أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد
والتعليم، الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم، والكتاب
للتراسل، أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعدلها بمحض فضله بعض
من يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ
بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون
سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته
وعظمه، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه،
ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين نهاية الشاهد، وبداية الغائب،
فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها،
ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته
الرفيعة بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قُدِّر أن يكون له مدخل في سعادتهم
الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه
بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة
تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم ما هو مناط سعادتهم
وشقائهم في ذلك الكون المُغَيَّب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق
ضمائرهم في إجماله، وتدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة
وباطنة، ثم تؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات حتى تقوم بهم الحجة ويتم
الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه مبشرين ومنذرين؟
لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد
على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرًا ولا جليلاً من خلقه
يكونون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام
المواهب التي اختص بها غيره أن ينقذه من حيرته ويخلصه من التخبط في أهم
حياتيه، والضلال في أفضل حاليه.
يقول قائل: ولِم لمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم، ولم يضع فيها
الانقياد إلى العمل وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا
النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل
والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإنساني، ذلك النوع على ما به وما دخل
في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب
الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدًّا لكل حال بطبعه، وأن
يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات
لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إما حيوانًا آخر كالنحل والنمل، أو ملكًا من الملائكة
ليس من سكان هذه الأرض) اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))