أخطأنا بتحكيمنا مدرسي التفسير بالأزهر في هذه المسألة إذ فتحنا للأزهريين وأمثالهم باب المناقشة الأزهرية فيها، فقد كتب إلينا اثنان من طلاب قسم التخصص فيه رسالتين في ذلك إحداهما طويلة، والثانية قصيرة، وعاد الأستاذ المنتقد الأول لعبارة تفسيرنا فأرسل إلينا رسالة أخرى في الانتصار لنفسه. قرأت من هذه الرسالة بضعة أسطر، ومن رسالة الطالب الأزهري مثلها الأول أو أكثر، فرأيت أنني أسفِّه نفسي إذا قرأت أمثال هذه الرسائل كلها، وأكون جديرًا بأن يحكم عليَّ بالخرف أو الجنون إذا نشرتها ورددت عليها، فقد كان مذهبي منذ أنشأت المنار إلى اليوم تخطئة الأزهريين والتشنيع عليهم بجعل جل حظهم من طلب العلم المناقشات في عبارات الكتب وإيراد الاعتراضات عليها والأجوبة عن هذه الاعتراضات، وقد قلت مرارًا ولا أزال أقول عن علم وبصيرة: إن هذه الطريقة العوج هي التي أضاعت العلم في الأزهر، ونقلت عن شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى أنه كان يقول: إنهم يتعلمون كتبًا لا علمًا، وقال في درس رسالة التوحيد في الأزهر أنه لا يسمح لأحد أن يشرحها ولا يكتب لها حاشية، ومن فعل ذلك فلا سامحه الله، دع ما يثيره الرد من ضغن وحقد، ولا سيما الرد على المنتقد الأول الذي كبر عليه أن أقول: إنه لم يفهم عبارتي التي أراد إثبات كفري بسوء فهمه لها. وقد لقيت أمس أخانا الأستاذ الفاضل الشيخ علي محفوظ من كبار المدرسين في قسم التخصص من الأزهر، وقد مضت عدة سنين لم ألقه فيها، فتذكرنا أيام تلاقينا في دروس الأستاذ الإمام رحمه الله، وأطراني الأستاذ وهضم نفسه تواضعًا عن رفعة، ثم أثنى على تفسير المنار، وذكر من مزايا مؤلفه لصديق له حيث كنا من دار الكتب المصرية: (١) أنه لم يحاب أحدًا حتى أستاذه فيه فتعقبه في مواضع. (٢) أنه شديد الإنكار على التقليد لا يترك سانحة من التأويل تساعده على إبطاله والنعي على أهله إلا اغتنمها. (٣) أنه يذكر من معاني الألفاظ ونكت البلاغة فيها ما يساعد على فهم الآيات، ويجعل كل همه بيان المعنى، وما فيه من الهدى الذي هو المراد من كتاب الله بخلاف جماهير المفسرين الذين يشغلون القارئ لتفاسيرهم بالمباحث اللفظية الصارفة عن فهم القرآن وعن هدايته. (٤) تحاميه ذكر الإسرائيليات والروايات التي لا تصح فيه. (٥) بيانه لما فيه من المسائل والسنن الاجتماعية، وقد انفرد بهذا دون جميع التفاسير، ذكر الأستاذ هذه المعاني كلها بعبارة مجملة مدمجة، والغرض من ذكرها الأمر الثالث ولولاه لم نذكرها على قرب العهد بسماعها، فإذا نحن فتحنا باب الجدل والمراء في عبارة تفسيرنا لآية (قتل الأنبياء بغير حق) نكون قد أضعنا مزية من أهم المزايا الإصلاحية التي يعرفها لنا أهل البصيرة والاستقلال، بيد أنني أذكر في الموضوع بعض المسائل التي يتجلى بها الحق لطالبه مخلصًا فيه فأقول: (١) ليفهم كلمة (الحق) مُعرَّفة ومُنكَّرة من شاء كما يشاء، وليفهم معنى التشبيه في قولنا: (إن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق كما يقول المفسرون) . كما يشاء، فنحن نصرِّح بأن مرادنا من العبارة في جملتها أن نكتة البلاغة في تقييد قتل الأنبياء بكونه بغير حق هي تعظيم شأن الحق، وأنها من قبيل قوله تعالى {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} (المؤمنون: ١١٧) فإنه تعظيم لشأن البرهان وكون المدار عليه في إثبات الدعاوي بصرف النظر عن موضوعها، وقوله تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (لقمان: ١٥) فإنه تعظيم لشأن العلم كذلك، ومن المعلوم بالعقل والنقل أن دعاء غير الله تعالى لا يكون عن برهان، وأن الشرك به لا يكون مبنيًّا على علم، بل هو محض الجهل، فإذا كانت عبارتنا تؤدي ما أردنا كما نعتقد، فالفضل لله تعالى وإن كانت لا تؤديه فالجهل والتقصير منا، ونستغفر الله تعالى. (٢) خطر ببالي عند كتابة هذا التنبيه أن أراجع تفسير الإمام فخر الدين الرازي لآية آل عمران وآية البقرة؛ فإنه يوجد فيه من أمثال هذه الدقائق ما لا يوجد في غيره أحيانًا فراجعته، فإذا هو يحيل في الثانية على الأولى لتقدمها، فأكتب ما أورده فيها من سؤال وجواب في موضوعنا، وهو السؤال الثاني قال رحمه الله تعالى: (السؤال الثاني) لمَ قال (بغير الحق) وقتل الأنبياء لا يكون إلا على هذا الوجه؟ الجواب من وجهين [١] (الأول) أن الإتيان بالباطل قد يكون حقًّا لأن الآتي به اعتقده حقًّا لشبهة وقعت في قلبه، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلاً، ولا شك أن الثاني أقبح، فقوله {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: ٦١) أي أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقًّا في اعتقادهم وخيالهم، بل كانوا عالمين بقبحه، ومع ذلك فقد فعلوه (وثانيها) أن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} (المؤمنون: ١١٧) ومستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان (وثالثها) أنه تعالى لو ذمهم على مجرد القتل لقالوا: أليس أن الله يقتلهم؟ ولكنه تعالى قال: القتل الصادر من الله قتل بحق ما، ومن غير الله قتل بغير حق. ذكر في آخر تفسير الآية ما رآه في نكتة تعريف الحق في موضع وتنكيره في آخر ما نصه: (فإن قيل) قال ههنا {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: ٦١) ذكر الحق بالألف واللام معرفة، وقال في آية آل عمران {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: ٢١) نكرة، وكذلك في هذه السورة {وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران: ١١٢) فما الفرق؟ (الجواب) الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل قال عليه السلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معانٍ ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق) [٢] فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى هذا، وأما الحق المُنَكَّر فالمراد به تأكيد العموم، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المؤمنون ولا غيره ألبتة. اهـ بحروفه. وما ذكره من تقسيم الحق إلى ما كان حقًّا في شرعنا، وما كان حقًّا في اعتقادهم وخيالهم فهو في معنى تقسيمنا إياه إلى ما كان حقًّا في الواقع، وما كان حقًّا في العرف، وإن لم يكن حقًّا في الواقع، وهو يردُّ زعم من يقول إن الحق لا ينقسم، وما قلناه أوجه، ويبقى أن يقال: إن الحق عند اليهود ما وافق شريعة التوراة لا ما وافق شريعتنا، وهو ما نبينه في الفائدة الثالثة، وهي: (٣) بيَّنا في مقالنا الدقيق الذي نشرناه في المجلد التاسع من المنار في تحقيق معاني الحق والباطل والقوة، أن الحق يدخل في معانٍ، منها المعنى الشرعي وهو يختلف باختلاف الشرائع، وإن لم يعقل هذا من لا وقوف لهم على الشرائع، ولا على العلوم والحقائق، وقد كان القتل عقابًا في شريعة التوراة التي كان يدين بها اليهود الذين ذمهم القرآن بقتل الأنبياء بغير حق على ذنوب لا يُقتل فاعلها في شريعتا، ففي الفصل ٢١ من سفر الخروج ما نصه: (١٢ من ضرب إنسانًا فمات يُقتل قتلاً ١٣ ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده فأنا أجعل له مكانًا يهرب إليه ١٤ وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحي تأخذه للموت ١٥ ومن ضرب أباه أو أمه يُقتل قتلاً ١٦ ومن سرق إنسانًا وباعه أو وُجد في يده يُقتل قتلاً ١٧ ومن شتم أباه وأمه يُقتل قتلاً) إلى أن ذكر في عدد ٢٩ إن الثور (إن كان نطاحًا وأُشهد على صاحبه فلم يضبطه فقتل رجلاً أو امرأة، فالثور يُرجم وصاحبه أيضًا يُقتل) ... إلخ فما يقول في هذا من يزعمون أن القتل بحق لا يكون إلا واحدًا في كل زمن وكل أمة وكل شريعة فيجعلونه كالحق في الإيمان بالله وصفاته مثلاً؟ (٤) إننا قد صرحنا في تفسير] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [في الآية ١١٢ من سورة آل عمران بمعنى ما قاله الرازي في آية البقرة وذكرناه آنفًا من تحريهم الباطل وتعمدهم إياه مع مخالفتنا إياه في كون الحق المنفي فيها ما وافق شريعتنا واعتمادنا أنه ما وافق شريعتهم لأنهم مؤاخذون بها لا بما جاء بعدها. وهذا نص عبارتنا (ص٢٩ج ٤ من التفسير) (أي ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم، وفي التنصيص على كون ذلك بغير حق مع العلم به تغليظ عليهم، وتشنيع على تحريهم الباطل وكون ذلك عن عمد لا عن خطأ) اهـ. وهو صريح في اعتقادنا في المسألة لا يحتمل المراء.