للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


غاية مصطفى كمال من مراحله

لما علمت أن مصطفى كمال باشا صرح بأن له غاية يجري إليها في مراحل
مقدرة، ورأيته قطع ثلاث مراحل منها، أيقنت بالحدس المنطقي أن غايته أن
يؤسس بالجمهورية التركية اللادينية دولة جديدة وقد فعل، وأمة جديدة تسمى تركية
إلى أن يتم تكوينها، ثم تسمى باسمه فهو يقبل دخول كل عنصر فيها إذا قبل
مقوماتها ومشخصاتها التي يقترحها وينفذها بالقوة ولغة جديدة غير اللغة التركية
المعروفة في تركستان وفي الأناضول؛ ولكنها مركبة منهما ومن اللغات اللاتينية،
ولا سيما الفرنسية، وتكتب بحروفها حتى إذا نشأ عليها وحدها جيل جديد بعد الجيل
الأول المخضرم نسبت إليه، وتنقطع الصلة بين هذه اللغة وجميع لغات الشرق
الإسلامية، ولا سيما العربية التي سبقه ملاحدة الاتحاديين إلى مناوأتها، وأقدم هو
وحده على الإجهاز عليها وقطع دابرها من الشعب التركي في مراحل خاصة بها،
وهو يعتقد أنه لا يتم له الإجهاز على الدين الإسلامي ومحو جميع آثاره من هذا
الشعب إلا بذلك، ويظن أنه متفق مع زعماء البلاشفة على الانتهاء إلى الإلحاد
والتعطيل بيد أنه يلوح لي أنه إن طال عمره وبلغ آخر هذه المرحلة؛ فإنه يضع
لهذا الشعب الذي سينسب إليه دينًا جديدًا مستمدًّا من الديانة الطبيعية التي وضعها
لأوربة بعض فلاسفتها، فاستحسنها جميع شعوبها وعدوها موافقة للعقل والحضارة
والسياسة؛ ولكن لم يتدين بها أحد؛ لأن مصدر الدين الموافق للفطرة لا بد أن يكون
سلطانه غيبيًّا فوق سلطان العقل البشري؛ لأنه هو ملجؤها في كل ما تعجز عنه
عقول البشر في الدنيا، وهو وجهتها الروحانية إلى ما تجنح له وترتقي إليه من
عالم الغيب.
يظن المعطلة الماديون أن الأنبياء المرسلين هم الذين وضعوا الأديان التي
دعوا إليها، فيزين لبعضهم غرور القوة إمكان محوها، ولبعض آخر أن يخضعوا
أقوامهم الضعفاء إخضاعًا تعبديًّا كما يخضعونهم إخضاعًا سياسيًّا واجتماعيًّا، ولا
تزال أكثر شعوب البشر ضعيفة قابلة لتجارب عجيبة كتجارب البولشفيك في
الروس، ومصطفى كمال في الترك، ولكل بداية غاية، وكل شيء بلغ الحد انتهى.