ذكرنا في الجزء الماضي أن بعض المشايخ المغرمين بحب الشهرة سعى بنشر رسائل في الواسطة الشخصية بين الله سبحانه وتعالى وبين عباده، وكتب لذلك مقدمة جاء فيها بالتهافت والتناقض كأنه لا يفهم ما يكتب، أو يتوهم أن الناس لا يفهمون. إذا كان يعتقد ما قاله في أول المقدمة من أن نجاة الأرواح إنما هي في اتباع الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح من غير أدنى ملاحظة أو اعتراض واسترسال مع العقل، فلماذا أَلصق بالدين ما لم يرد في كتاب ولا سنة، ولا قال به أحد من الصحابة، ولا أئمة التابعين وتابعيهم من المجتهدين؛ وإنما هي نزغات عقلية نُسبت إلى بعض العلماء لأجل ترويجها، على أن من نُسبت إليهم ليسوا بمعصومين ولا هم ممن يجب اتباعهم لذاتهم؛ وإنما توزن أقوالهم وأفعالهم بميزان الشرع فما رجح منها قُبل وما كان مرجوحًا تُرك ورُفض. هل جاء في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أمر ببناء القبور وتشريفها واتخاذ القباب عليها، وجعلها في المساجد والصلاة إليها، وطواف الناس بها كما يطوفون بالكعبة، أم ورد النهي الصريح عن ذلك بما لا يحتمل التأويل؟ هل نُقل في حديث صحيح أو حسن أن أحدًا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم طلب من قبر النبي عليه أفضل الصلاة والسلام شيئًا مما يطلبه عامتنا اليوم من قبور المشايخ المشهورين بالولاية والصلاح، أو طلبوا منه الدعاء بقضاء حاجاتهم كما يزعم صاحب المقدمة، أم قال أحد السلف الصالح بذلك؟ كلا إن صاحب المقدمة لا يقدر على هذه الدعوى؛ ولكنه يزعم أن بعض علماء القرون المتوسطة قال بذلك، والنجاة إنما هي في اتباع الكتاب والسنة على ما كان عليه السلف الصالح، لا في اتباع هؤلاء الذين تدل رسائلهم التي نشرها على أنهم قالوا ما قالوه بآرائهم؛ لأنهم لم يستدلوا عليه بما لا يصح الاستدلال به؛ ولأنهم لا يميزون بين الحديث الصحيح والموضوع؛ لأن رسائلهم هذه مملوءة - كما قلنا - بالأحاديث الموضوعة والمنكرة. والذي استقر عليه اجتهاد الإمام الغزالي بعدما خاض في الفلسفة والتصوف، وتوسع في الفقه والجدل والكلام - أن السعادة في اتباع القرآن الكريم في العقائد، وما أجمع عليه الأئمة في الأعمال والأخذ بالاحتياط فيما اختلفوا فيه، ودعوى أن بعض الأموات يكونون واسطة بين الله وبين الناس يقضون حوائجهم بإذنه مما يتعلق بالعقائد أولاً وبالذات، ثم بالعبادة، ولم تَرِد في كتاب ولا سنة ولا قول إمام مجتهد، فالغزالي يحكم برفضها وإنكارها حتمًا، وإن صحت عنه تلك العبارة الفلسفية في احتمال تأثير أرواح الموتى في عالم الشهادة، فهي ليست من الدين؛ وإنما هي من النظريات الفلسفية، ولا بد أن يكون رجع عنها كما يفهم من كتابه (القسطاس المستقيم) وغيره. والذي روَّج غش أمثال هذه الرسائل من المصنفات في سوق العامة، وكثير ممن يلبسون لباس الخاصة - هو التسليم لكل ما يُعَدُّ تعظيمًا للأنبياء والأولياء، وأخذه بالقبول توهمًا منهم أن البحث فيه أو التوقف في قبوله يخل بالتعظيم، فما جاء في المقدمة لهذا الشيخ الأزهري المقلد ما نصه نقلاً (لو وضع شَعْر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سوطه أو عضادته على قبر عاصٍ أو مذنب لنجا ذلك المذنب ببركات تلك الذخيرة من العذاب، وإن كان في دار إنسان أو بلد لا يصيب سكانها بلاء، وإن لم يشعر بها صاحب الدار أو ساكن البلد؛ فإن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم وهو في العقبى مصروف إلى ما هو له منسوب، ودفع المكاره والعقوبات مفوض من الله تعالى إلى الملائكة، وكل ملك حريص على إسعاف ما حرص النبي صلوات الله عليه بهمته إليه من غيره، كما كان في حال حياته، فإن تقرب الملائكة بروحه بعد موته أزيد من تقربهم بها في حال حياته) اهـ النقل. ولكن هل يجوز لنا في تعظيم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أن نقول عليه وعلى ملائكة الله تعالى ما لا نعلم؟ كلا إن في هذه العبارة مسائل: (١) من أين علم قائلها أن اهتمام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في جوار الله تعالى مصروف إلى آثاره التي في الدنيا، أليس الأقرب أن يكون مصروفًا إلى مناجاة الله تعالى والأنس بلقائه؟ . (٢) إن النجاة في الآخرة منوطة بحسب ما جاء في الكتاب والسنة بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وأمر العصاة مفوض إلى الله تعالى {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (آل عمران: ١٢٩) ولم يَرِد عنه صلى الله عليه وسلم أن وضع السوط أو الشعر على القبر من أسباب النجاة، فهل يجوز لأحد أن يزيد في دينه ما ليس منه بحجة التعظيم، أم يجب الوقوف عند حدود الشريعة في الأحكام، وفي التعظيم نفسه أيضًا؟ (٣) لو كان وضع السوط أو الشعر على القبر منجيًا من العذاب لكان الأجدر بذلك الاتصال به صلى الله عليه وسلم في دار الدنيا، وقد ورد في الصحيح أن سعد بن معاذ الشهيد أحد أكابر الصحابة مات بين سَحر النبي ونَحره متكئًا على صدره، ومع ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم بأن ضغط القبر كان عليه شديدًا. (٤) أن البلاد التي فيها من شعر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كالآستانة ومصر وغيرهما أُصيبت بأنواع من البلاء، بل إن المدينة المنورة التي فيها جسده الشريف كله قد أصيبت بألوان من البلاء حتى إن الحرم الشريف نُهب وربطت فيه الخيول. وحسبنا في تعظيمه صلى الله عليه وسلم ما علمنا الله ورسوله ككونه رحمة للعالمين، وكونه على خلق عظيم إلى غير ذلك مما لا يحصى، ولكن أمثال هؤلاء المؤلفين يقولون بألسنتهم ما ليس لهم به علم ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم، فعلينا أن نعتمد في نجاتنا على تعليم الوحي من غير أن نزيد فيه بعقولنا وأهوائنا، أو ننتقص منه بالتأويل والتحريف، ولو صح في معاني تلك العبارة شيء لا ينافيه الواقع، ولا يصادمه الوجود لقبلناه على ظاهره وإلا وفقنا بينه وبين الواقع كما هي القاعدة الشرعية، وعدم ورود ذلك لا ينافي كونه صلى الله تعالى عليه وسلم في أعلى مقام. ومن أغرب مزاعم صاحب المقدمة وأفسد قياساته المساواة بين طلب المعونة من الأحياء وطلبها من الأموات، فإذا كان لا يفرق بين الحي والميت، وقد فرق بينهما الوجود والشرع والعقل، أفلا يجب عليه التفريق بين ما يطلب من الأحياء من التعاون، وبين ما يطلب من الأموات: يطلب الأحياء بعضهم من بعض التعاون على الأمور الكسبية بأسبابها التي قرنها الله تعالى بها وأمرهم بالتعاون عليها في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: ٢) ويطلبون من الأموات ما لا تناله يد الكاسب كجلب المصالح، أو درء المفاسد من غير أسبابها التي قرنها الله تعالى بها، وهذا النوع مختص بالله تعالى لا يُستعان بغيره فيه كما لا يُعبد غيره لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) يطلبون من الأموات شفاء المرضى من غير معالجة، ودفع البلاء من غير سببه، يطلبون منهم الانتقام من الأعداء الذين يعجزون عن الانتقام منهم، كتلك المرأة التي كانت تدعو المتبولي بأن يُهْلِك الطبيب الذي عالج ابنها فمات عقيب معالجته، يطلبون منهم أن يردوا عليهم من ضَلَّ وتاه من أولادهم، وما فَرّ أو سرق من مواشيهم، ويقدمون لهم النذور لإرضائهم، يطلبون منهم، بل ومن قديسي النصارى (كمارجرجس) أن يحبلوا العاقر ... إلخ إلخ. مثل هذه المطالب يعرفها الشيخ المقلد، صاحب المقدمة وكان يعدها وأمثالها من الشرك كما سمعت ذلك منه بأذني، وقد كان في مجلس ثابت باشا في بعض ليالي شهر رمضان، فذكروا الوهابية فانتصر لهم وشنَّع على الذين يُعَظِّمون القبور ويطلبون منها ما يطلبون أقبح تشنيع رد عليه في المبالغة فيه الأستاذ الشيخ حمزة فتح الله والناس يسمعون (فما عدا مما بدا) ؟ اعتذر هذا الشيخ المقلد في آخر مقدمته عن أكثر علماء هذا العصر فيما ينتقد عليهم من ترك إرشاد العامة وإهمال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأنهم بإلقاء الدروس الشرعية في أكثر المساجد قائمون بذلك حق القيام، وهذا اعتذار غير صحيح كان يجب أن يخجل من كتابته؛ فإن أكثر المساجد خالية من الوعاظ والمرشدين، وقراءة بعض الكتب الصعبة للمجاورين في الأزهر وما قرب منه كمسجد سيدنا الحسين ومسجد محمد بك وجامع المؤيد - لا تغني عن العامة شيئًا لأنهم لا يقدرون على ترك أعمالهم في النهار والهجرة إلى هذه المساجد لأجل سماعها، ولو قدروا لما فهموها، فإذا أراد العلماء إرشاد العامة وتعليمهم دينهم فلينتشروا في جميع المساجد، وليعلموهم ما تمس إليه حاجتهم في وقت يتسنى لهم الاجتماع فيه كما بين المغرب والعشاء. ثم عقَّب اعتذاره عن أولئك العلماء، واستدل على طعنه وقدحه فيهم بدليلين، بل بشبهتين سخيفتين (إحداهما) : أنهم لو كانوا مخلصين لكسيت أقوالهم جلباب القبول، وهذا الدليل مردود عليه لوجوه، أحدها أن جهله بقبول إرشادهم لا يدل على نفيه فمن المقرر عند العلماء أن عدم العلم بالشيء لا يقتضي عدم ذلك الشيء في نفسه، ثانيها: أن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لم يتبعه أحد، ومنهم من اتبعه النفر القليل كسيدنا نوح عليه السلام، ثالثها: أن سنة الله تعالى في قبول الإرشاد أن يكون بالتدريج، وتعريضه بهم بأنهم أُذِلُّوا وأُهِينُوا، حجة عليه، فهل جهل ما قاساه سيد المصلحين عليه الصلاة والسلام من النفي والطرد والسب والضرب، وأن الناس لم يؤمنوا به بمجرد دعوته إلى الإيمان، ولو لقي دعاة الإصلاح الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر عشر معشار ما لقيه المصلح الأعظم صلى الله عليه وسلم لكان هذا الشيخ المقلد يستدل بذلك على كفرهم ويطفئ نار حسده بالتشفي منهم؛ ولكن الله بفضله ورحمته أراد أن يؤيدهم ويؤيد بهم الدين ولذلك يزيدهم رفعة وعزة على ممر الأيام والسنين، وذلك من رحمته وفضله على المسلمين، وإذا أُنظر هذا الشيخ ومُدَّ في أجله فسيشاهد أثر أولئك المصلحين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولتعلمن نبأه بعد حين. (الشبهة الثانية) : قوله: (ولو صدق هؤلاء فيما يزعمون لقاموا بالنهي عما أجمعت الأمة على إنكاره كالزنا وشرب الخمر والمجاهرة بها وترك الصلاة والصوم) ... إلخ، والجواب عنها أنهم ينهون عن هذه المحرمات العملية؛ ولكنهم جعلوا جل عنايتهم في النهي عن المنكرات في العقائد والأخلاق؛ لأنها الأصل الذي تبنى عليه الأعمال وإلى هذه الإشارة بحديث (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) وكيف ينفع النهي عن الأعمال مع وجود مثل هذه الرسائل التي نشرها، والمقدمة التي حبرها وفيها السم الذي يميت خشية الله تعالى من القلوب، ويُغري الناس بالمعاصي اعتمادًا على الوسطاء الذين ينجونهم في الآخرة، وإن أساءوا بترك الفرائض وارتكاب المحرمات كما يقضون مصالحهم في الدنيا، وإن تركوا السعي والأسباب، نعم إن العامة إذا رأوا كتابًا كتب عليه إنه للإمام فلان ومقدمته للإمام فلان يغترون بهذه الألقاب الضخمة، ويأخذون ما فيها بالتسليم، فإذا رأوا فيها ما نصه: (الحديث التاسع: من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة وصلَّى عليّ في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه) يتوهمون أن هؤلاء الأئمة لا ينسبون إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما لم يقله ويجيزونه وينصحون الناس به، وبناء على هذا يعتقدون أن عمل فريضة عينية كالحج على المستطيع، وواجب كفائي كالجهاد، وفعل آخر لم ترد به بخصوصه سنة - تسقط سائر الفرائض عن الإنسان، بحيث لا يُسأل عنها، فإذا تسنى لأحد منهم ذلك، وأُمر بالصلاة وبالصوم لا يبالي لأنه يعتقد أن الله تعالى لا يسأله عنهما، إذن فإن النهي عن هذه الكتب، وعن الالتفات لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم أئمة مقدم على النهي عن الزنا والخمر، وعلى الأمر بالصلاة والصوم، والحديث موضوع كما بيَّنه صاحب كتاب (الصارم المنكى) وغيره، وفي هذه الكتب غير ذلك من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثمها على مؤلفيها وناشريها، وعلينا النهي عن الاغترار بها والله الموفق.