فاجأنا في ضحوة يوم شديد الحر من هذا الشهر المحرم (سنة ١٣٥٤ - مارس سنة ١٩٣٥) نبأ وفاة شاعر العرب المطبوع وعلم الفصاحة المرفوع الشيخ عبد المحسن الكاظمي بعد مقاساة أمراض طال أمدها عدة سنين، صبر عليها صبر الكرام، ويحزنني أنه لم يتح لي تشييع جنازته، وقد قمت بكل ما استطعت من حقوق مودته (المادية والأدبية) في أكثر من ثلث قرن، حتى إنني عرضت نفسي لمرض طويل كاد يكون مزمنًا بزيارتي له ليلاً وأنا مصاب بنزلة صدرية شديدة، وكان يزورني في وسط العهد بيننا في يوم الجمعة من كل أسبوع، وقد يزيد عليها لأسباب عارضة، وإنني أنشر هنا ما كتبته في شأنه بعد تعارفنا بمصر بأيام قليلة، وهو ما تراه في ص ٣٢٨ من مجلد المنار الثالث، بتاريخ ربيع الأول سنة ١٣١٨، يوليو سنة ١٩٠٠ بعنوان: (القديم في الحديث، والأول في الآخر) وهذا نصه: (ذهبت بلاغة الشعر العربي بذهاب دول العرب حتى صار القرن يمضي كله ولا يظهر فيه شاعر عربي الأسلوب بليغ الكلام، وحتى صرنا نعد وجود مثل سعادة محمود سامي باشا البارودي من قبيل ما يسميه الحكماء بالرجعة، كأن السليقة العربية رجعت إليه بالوراثة لأحد أجداده الأولين من غير عناء في كسب ملكتها، والظاهر أن بلاد العراق لا تزال أقرب إلى السليقة العربية من أهل هذه البلاد، وأن النابغين فيها أكثر منهم في غيرها. ولقد وافى هذه البلاد من أشهر رجل فاضل جدير بلقب (الأديب) وقلَّ الجدير به في العصر، ألا وهو الشيخ أبو المكارم عبد المحسن الكاظمي (نسبة إلى الكاظمية بلدة في ضواحي بغداد) لقيناه فلقينا الأدب الصحيح والأخلاق الحسنة من الشاعر المفلق، العذب المنطق، الذي ناهز المقدمين، وخاطر المقرمين، ومن السجايا الفاضلة الظاهرة فيه الإباء وعزة النفس، حتى إنك لا تشعر في أول عهدك به بما عنده من لطف المعاشرة ورقة الطبع ولين العريكة. قال صاحب السعادة إسماعيل باشا صبري وكيل الحقانية وأحد أركان الأدب في مصر: (إنني عندما لقيته أول مرة ظننت أنه لا تطيب معاشرته، فلما خبرته علمت أنه لا تطيب مفارقته) ا. هـ. وما أجدره بقول شاعرنا أحمد بن مفلح المشهور بابن منير الطرابلسي: إباء فارس في لين الشام مع الظر ... ف العراقي واللفظ الحجازي أما شعره فعلى الطريقة العراقية العذبة القديمة، طريقة الشريف الرضي ومهيار الديلمي، وأما إنشاده فهو يناسب شعره في التأثير الذي هو المقصود الأهم من بلاغة القول) ا. هـ. ونشرت بعد هذا قسمًا من قصيدته العينية، وهي أول ما سمعناه من إنشاد شعره، ونشرت القسم الآخر منها في جزء آخر، ولعمري إن إنشاده للشعر لأبلغ من نظمه له في إثارة الشعور، بما شاء من شجو وشجن، وحنين إلى سكن ووطن، وشوق إلى لقاء حبيب، وحزن على فراق عشيق أو صديق، وإن أنسَ فلن أنسى إنشاده إيانا قول الشاعر: وارحمتا للغريب في البلد النازح ... ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده وما انتفعا فلئن قال ابن المنير في يائيته: وما المدامة بالألباب ألعب من ... فصاحة البدو في ألفاظ تركي فإن لنا أن نقول: ما لعب المدامة بالعقول، ولا عزف الفارابي بالقانون، بما أضحك الثغور وأثار الشجون، وأجرى الشئون وران على العيون، ولا نعي جميل لبثينة أمام دارها، ولا كلمتها للناعي سافرة نابذة لوقارها - بأعظم سلطانًا على القلوب من إنشاد الكاظمي لهذين البيتين بصوته الرخيم ولهجته العراقية، وتقطيعه للبيت بغير أوزانه الشعرية، كوقوفه على كلمة الغريب، والنازح، والعيش، فإني لأتذكر الآن خفقات قلبي لسماعهما، فأجد الذكرى تعيدها سيرتها الأولى، ولقد كانت كلمة بثينة أشجى كلمة سمعتها من كلام البشر، ولا بأس بذكرها هنا. لَمَّا شعر جميل العذري بدنو أجله في مصر عهد إلى رجل أن ينعاه إلى بثينة في حي أهلها، وأعطاه حلته آية لها، فوقف فأنشد هنالك: صرخ النعيّ وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول فخرجت حاسرة وقالت: يا هذا إن كنت كاذبًا فقد فضحتني، وإن كنت صادقًا فقد قتلتني! ! فأخرج لها حلته فأنشدت: وإن سلوي عن جميل لساعة ... من الدهر لا حانت ولا حين حينها سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها هكذا كان الكاظمي يخلب ألبابنا بإنشاده العراقي الشيعي، وكل أدباء العراق يخلبون الألباب بضروب الإنشاد، وإن كان لأشجى من سمعنا منهم، ولقد أحببناه لإنشاده ولشعره معًا، ثم اتصل بشيخنا الأستاذ الإمام وخصه بمدائحه المؤثرة، وكان بالمدائح ضنين، فعشقناه لتنويهه بالإصلاح وإمامه، وقد ذكرته في تاريخ الأستاذ الإمام منوهًا بما كان من عطف الإمام عليه ومواساته له، ومما لم أذكره أنه كان له منه راتب شهري قدره عشرة جنيهات ما عدا الهدايا، وكان أنكر ما عددته عليه من كنوده عدم رثائه له، وكان يعتذر لنا بوجده وكمده، ثم علمنا أنه إنما كان يخشى غضب الخديوي عليه إذا هو رثاه، إذ سعى له صاحب المؤيد عند سموه براتب من الأوقاف. إنني كنت صدقت الكاظمي زعمه أن شدة الحزن والأسى على الإمام أخرست لسانه، وحيرت وجدانه، وأطاشت جنانه، فأمسى عاجزًا عن رثائه لا يستطيع منه شيئًا. وظللت سنين مصدقا له، وأرى من حق الوفاء لأستاذنا عليّ بره والوفاء له، على أنه حدثني فيما كان يقصه عليَّ من سيرته الشخصية أن الخطوب ليس لها على نفسه سلطان، وأن الحزن ليس له في شجون قلبه ولا في شؤون عينيه مكان، وأنه كاد هجومها عليه يغلبه على جَلَده، مرة أو مرتين، ففطن لذلك فكان لإرادته الغلب والرجحان، فكان عصي الدمع شيمته الصبر، ليس للحزن عليه نهي ولا أمر. ولقد كان يقول لي إنه لم يجد بعد الأستاذ الإمام من أخلص له الوفاء مثلي، ويظهر لي أنه على رأيي ومذهبي فيما أدعو إليه، وأحيا لأجله من الإصلاح الإسلامي والوحدة العربية، وكان ينشدني بعض قصائده في مدح من يرجو برهم ويقف لي عندما تتضمنه من الإشارة إلى ما أحب من المصلحة العامة، في تضاعيف ما أكره من المدائح الشخصية، بله ما نظمه في المسألة العربية ورجالها، ومنه ما يخصني بزعمه دون غيري، ولم أكن لأحفل بالتصريح بشيء يخصني؛ فكيف أحفل بالتلويح والتعريض الذي لا يكاد يفهم المراد منه أحد؟ ولكن خطر ببالي كثيرًا ما لم أذكره له ولا أشرت إليه من تقصيره في رثاء شقيقي اللوذعي الأحوذي السيد حسين الشاعر الأديب الخطيب، وقد كان عشقه للكاظمي غرامًا، ووده له لزامًا، وكان وكيلي في إدارة المنار مدة غيبتي في الآستانة عامًا كاملاً لم يكد يفارقه فيه يومًا، ثم عاد إلى سورية فقتل بيد مجرم أثيم، فكان من إكبار خطبه عندي أن قلت في تأبينه إنه ليعز علي أن أرثيه، وكنت أرجو أن يرثيني، وأكبر المصاب فيه أهل الفضل والأدب في جميع البلاد العربية، وعقدوا له في بيروت حفلة رثاء وتأبين تبارى فيها أدباء الطوائف الدينية بما كان أقوى مظهر لرابطة الأدب الجامعة، فكانت حفلة نادرة في ذلك الوقت، ولكن كان صديقي وصديقه أبخل بشعره عليه منه بدمعه، وهو الغني المليء بالشعر، الفقير الشحيح بالدمع، وإنما يجود بالشعر حيث يرجى به النوال الجزل. لقي الملك فيصلاً في مصر فرأى من لطفه وتواضعه وتكريمه له ما أحدث له أملاً بأن يحيا بجوده حياة جديدة من الإتراف والسعة، أقلها أن يكون له راتب شهري كبير وهو في مصر، أو ينقل إلى منصب كبير في بغداد، فمدحه كما مدح أخاه الأمير عبد الله وبيتهم الشريف بقصائد غر، كان ينشدها كلها أو بعضها قبل إرسالها، ويحاول إرضائي وأنا المنكر لسياستهم البريطانية بما فيها من التنويه بالإصلاح والوحدة العربية، حتى إذا ما خاب أمله فيهم، وغلبهم ابن السعود على الحجاز، وحدث له من الرجاء في جوده وسخائه ما يئس من مثله منهم، طفق يمدح هذا وآله؛ ويعرض، بل يصرح، بهجو أولئك، ومن ذلك قصيدة في الفرق بين الفيصلين فيصل بن عبد العزيز وفيصل بن الحسين، وكان يدعي أنه لم يكن له من باعث على هذا وذاك إلا ما يهمنا جميعًا من مصلحة العرب والإسلام. كذلك كان يستشيرني في القصائد التي كان ينظمها في القضية العربية، التي يقيمها حزب الاتحاد السوري، فاللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني؛ ويكل إليَّ السعي لما يرجوه من الجائزة عليها من الوجيه ميشيل بك لطف الله، وهي من غر قصائده. وكثيرًا ما كان يزيد في هذه القصائد التي نظمها ولم يكتبها، وكثيرًا ما كان يرتجل غيرها، فقد ثبت عندنا أنه أوتي من ملكة الارتجال ما يساهم به فحول العرب من الجاهليين والمخضرمين والمولدين، وهو يعد من فصحائهم لا من بلغائهم، فشعره فحل في لغته وأسلوبه، دون فلسفته وتأثيره الروحي. وما كان لي أن أطمع بإرجاعه عما يبغيه من الكسب بشعره، وهو بضاعته الرائجة، فكنت أحمد من قصائده ما فيها من الآراء العامة، وأقتصد في الإنكار على المبالغة الشعرية في المدح فيوافقني على ما أقول، ولا أدري ما يكتبه بعد ذلك ويرسله، وما يثبته في ديوانه الذي يدخره لمستقبله وورثته؛ فقد كان يحفظ كل ما ينظمه، وينشدني وينشد غيري من حفظه، وقد ينقح ما ينتقده عليه السامع في المجلس، ويزيد فيه ما شاء وينقص منه؛ وكان يرجو أن يبذل له أحد الملوك أو الأمراء أو الكبراء ما يكفي لوفاء ما يذكر من دَينه وطبع ديوانه، فإن لم يتح له ما يرجو، وَكَل أمر طبعه من بعده إلى أبر الأوفياء له، الذي اختار أن يجعله وصيًّا على كريمته الرباب، وإياي كان يعني. هذه خلاصة ما يقال في شعره وأدبه ومودته وكسبه، ولقد علمت أنه كان له كسب نسائي خفي من كتابة التمائم للحب والبغض، وكان أمين سره في هذا العمل صديقه المرحوم توفيق أفندي الرافعي، وأول من أفشاه لنا امرأته الأولى التي عشق أختها وتزوجها، حملت إلى أهل بيتنا بعض هذه التمائم فأبيت أن أنظر فيها، وحدثتْهن عن إسرافه في النفقة، وما كان يوهمني (قبل بنته الرباب) من أن له عيالاً ينفق عليهم، وقد سمعت منه ورأيت ما يعد من عجائب إسرافه، فلقد كان يشتري ثمر المنجا الجيدة بالعشرات أو مائة بعد مائة وهي أغلى الثمار ثمنًا، وكان دائمًا يشكو الحاجة أو الضرورة، ويطرق أبواب الكبراء الواسعة والضيقة، وقد لجأ أخيرًا إلى المرحوم سعد باشا زغلول ومدحه بالقصائد الفياضة التي ذكر فيها الأستاذ الإمام أول مرة بعد وفاته، ثم لجأ إلى زعيم الوفد من بعده، وظهر في هذه الأثناء بشعر بنته الرباب، وقد شبت على استبدال البرنيطة بالحجاب. وجملة القول فيه أنه كان شاعر العرب المرتجل المفلق، كما كان قال قبل اختيار هذا اللقب لنفسه. لتُخلِ القوافي ميادينها ... فقد عصف الشاعر المفلق وكانت حياته الشخصية في داره ومع أصدقائه وزواره مفاكهات أدبية أكثرها في شعره وأغراضه منه، ثم لم يكن يتحدث في السنين الأخيرة إلا عن مصائبه وأمراضه وخُلته، حتى صار مملولاً بالطبع. نذكر هذا للعبرة والموعظة، ونسأل الله تعالى لنا وله العفو والمغفرة والرحمة الواسعة. ويسرنا جد السرور عناية الحكومة العراقية بإكمال تربية كريمته، وعناية أدبائها وأدباء فلسطين وسورية بتأبينه، وهمَّ بعض أصحابنا بإقامة حفلة تأبين حافلة، ثم أرجؤوها إلى انتهاء هجير الصيف، وما كان لمصر أن تهضم حق أدبه وما كان ظهوره واشتهاره إلا فيها.