للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ابن القيم الجوزية


كتاب مدارج السالكين
بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

هذا الكتاب للإمام الحافظ المحقق ابن قيم الجوزية، شرح فيه كتاب (منازل
السائرين) في التصوف لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي - شرحًا بيَّن فيه
غوامضه، وفصل بين ما يوافق الكتاب والسنة وما يخالفهما منه، فهو أفضل كتب
التصوف وأنفعها، وهو يطبع الآن في مطبعة المنار، وقد أوشك أن يتم طبع
الجزء الأول منه، وقد رأينا أن ننشر هذا الفصل منه تعجيلاً بالفائدة لقراء المنار،
ولشدة الحاجة إليه.
قال المصنف - رحمه الله تعالى - في سياق بيان أنواع الكفر:
فصل
وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه،
وهو أن يتخذ من دون الله ندًّا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية
آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: ٩٧-٩٨) ، مع إقرارهم
بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا
تحيي ولا تميت. وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال
أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله.
وكثير منهم - بل أكثرهم - يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون
بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم
من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وإذا انتهكت حرمة من
حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرد، وإذا انتهكت حرمات الله لم
يغضبوا لها؛ بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئًا رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم
. وقد شاهدنا هذا - نحن وغيرنا - منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه
ومعبوده من دون الله على لسانه إن أقام وإن قعد وإن عثر وإن مرض وإن استوحى [١]
فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك،
ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه - وهكذا كان عباد
الأصنام سواء - وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب
اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها [٢] من البشر.
قال الله تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: ٣) ، ثم شهد عليهم بالكفر والكذب وأخبر أنه لا يهديهم فقال [٣] {إِنَّ اللَّهَ
لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: ٣) ، فهذه حال من اتخذ من دون الله وليًّا
يزعم أنه يقرِّبه إلى الله، وما أعز من يخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي
من أنكره!
والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله , وهذا
عين الشرك , وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له،
وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه ورضي قوله وعمله، وهم
أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه يأذن سبحانه لمن شاء في
الشفاعة لهم حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الناس بشفاعة من يأذن
الله به صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعًا من دون الله.
والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحَّدَهُ،
والتي نفاها الله [٤] الشفاعة الشِّركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله
شفعاء، فيعاملون بنقيض قصدهم من شفاعتهم ويفوز بها الموحدون , فتأمل قول
النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة - وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك
يا رسول الله؟ قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه) -
كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال به شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند
المشركين إن الشفاعة تُنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب
النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد
التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.
ومن جهل المشرك اعتقاده أن مَنْ اتخذه وليًّا أو شفيعًا أنه يشفع له وينفعه عند
الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم مَنْ والاهم، ولم يعلموا أن الله لا
يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال
تعالى في الفصل الأول: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ اللاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: ٢٥٥)
وفي الفصل الثاني: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إلا َّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: ٢٨) ، وبقي
فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول،
وعن هاتين الكلمتين يَسأل الأولين والآخرين، كما قال أبو العالية: كلمتان يُسأل
عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ [٥] وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه
ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها: لا شفاعة إلا بإذنه،
ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده
واتباع رسوله [٦] فالله تعالى لا يغفر شرك العادلين به غيره، كما قال تعالى: {ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: ١) ، وأصح القولين أنهم يعدلون به غيره
في العبادة والموالاة والمحبة كما في الآية الأخرى، {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ
* إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: ٩٧-٩٨) ، وكما في آية البقرة
{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: ١٦٥) .
وترى المشرك يكذب حاله وعمله لقوله؛ فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله ولا
نسويهم بالله. ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت - أعظم مما يغضبه لله،
ويستبشر بذكرهم ويتبشبش به [٧] سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللهفات،
وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم باب بين الله وبين عباده. ترى
المشرك يفرح ويسرّ ويحنّ قلبه ويهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة،
وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده، لحقته وحشة وضيق وحرج [٨] ورماك
بتنقص الإلهية [٩] التي له، وربما عاداك.
رأينا - واللهِ - منهم هذا عيانًا، ورمونا بعداوتهم وبغوا لنا الغوائل [١٠] والله
مخزيهم [١١] في الدنيا والآخرة، ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب
آلهتنا. فقال هؤلاء: تنقصتم مشايخنا وأبواب حوائجنا إلى الله. وهكذا قال النصارى
للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: إن المسيح عبد [١٢] قالوا: تنقصت المسيح
وعِبْته. وهكذا قال أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانًا تعبد ومساجد، وأمر
بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله، قالوا: تنقصت أصحابها. فانظر إلى
هذا التشابه بين قلوبهم حتى كأنهم قد تواصوا به و {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن
يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياًّ مُّرْشِداً} (الكهف: ١٧) .
وقد قطع الله تعالى الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعها قطعًا يعلم من
تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًّا أو شفيعًا فهو {كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ} (العنكبوت: ٤١) فقال تعالى: {قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ
وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ اللاَّ لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ} (سبأ: ٢٢-٢٣) ، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لِمَا يحصل له به من النفع.
والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه،
فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا،
فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا
مترتبًا متنقلاً [١٣] من الأعلى إلى ما دونه [١٤] فنفى الملك والشركة والمظاهرة
والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة
بإذنه، فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا للتوحيد وقطعًا لأصول الشرك
ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر [١٥]
بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع، وقوم قد خلوا من قبل ولم
يعقبوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعَمْرُ الله إن كان
أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم. وتناول القرآن لهم
كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنما
تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية [١٦] ؛
وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك. وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره،
ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو
نظيره، أو شر منه [١٧] أو دونَهُ، فينتقض [١٨] بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف
منكرًا والمنكر معروفًا، والبدعة سنَّة والسنة بدعة، ويكفَّر الرجل بمحض الإيمان
وتجريد التوحيد، ويُبَدَّع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع،
ومن له بصيرة وقلب حيّ يرى ذلك عيانًَا والله المستعان. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))