للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الامتيازات
والشريعة الإسلامية [*]

الأسباب التي تحمل الدول الأوروبية على صيانة الامتيازات الأجنبية في
تركيا - الشريعة الإسلامية قائمة على القرآن لا تساوي بين المسلم وغير المسلم.
أعلنت الحكومة العثمانية أنها ألغت امتيازات الأجانب في بلادها فاحتجت
الدول الأوروبية والولايات المتحدة على هذا العمل الذي خرقت به تركيا المعاهدات
الدولية، وعلت الأصوات بالشكوى من الحالة السيئة التي يصير إليها الأجانب في
تركيا فيما لو أُلغيت الامتيازات المذكورة وصار الأجانب في تركيا مثل العثمانيين
خاضعين للمحاكم الأهلية، ولم يبق لهم الحق على رجوعهم إلى محاكم قنصلياتهم
في دعاويهم المدنية والجنائية.
وقد عثرنا على مقالة خطيرة في هذا الشأن لأحد الكَتَبَةِ السياسيين في جريدة
الصن النيويركية أردنا تلخيصها إتمامًا للفائدة، قال:
لا الولايات المتحدة ولا دولة أخرى أجنبية نصرانية ترضى أن رعاياها الذين
لهم مصالح في تركيا والذين لسبب من الأسباب اضطروا أن يسكنوا فيها مؤقتًَا أو
دائمًا - أن يكونوا خاضعين للمحاكم القضائية القائمة على تعاليم القرآن، فطرائق
العدالة الإسلامية شرقية بلفظها ومعناها، وطرائق العقاب الإسلامية بلغت من
القساوة مبلغًا عظيمًا بحيث إن الحكومة الأجنبية التي تترك رعاياها تحت رحمة
محاكم تركيا الوطنية تخسر ثقة شعبها.
وفضلاً عن ذلك أن الأجانب بعد إلغاء هذه الامتيازات لا يكونون تحت رحمة
تلك المحاكم الجائرة فقط؛ بل يعرضون نفوسهم لضرائب فادحة فإن الحكومة
العثمانية التي تنفق أموالاً طائلة على جنديتها وبحريتها وعليها دين وطني وأجنبي
عظيم، وهي منكوبة بأشد أزمة مالية - لا بد أن تضرب في المستقبل ضرائب
فادحة على الأجانب في بلادها، بعد أن نضبت مواردها الوطنية بكثرة ما وضعته
عليها من الضرائب الباهظة.
ولا يقدر الباب العالي أن يمنح الحكومات الأجنبية شيئًا يذكر في مقابل
موافقتها على إلغاء الامتيازات الأجنبي في تركيا، فالحكومة الحاضرة في الآستانة
غير قائمة على أساس ثابت؛ بل هي دائمًا تحت رحمة أناس مغامرين متهوسين
نظير أنور باشا ناظر الحربية السابق (؟) أو المسيطر الحقيقي على تركيا، الذي
تلطخت يداه بدم ناظم باشا القائد العثماني الشجاع المقتول بخيانة جبانة. ولذلك
باتت الحكومة العثمانية تحت خطر دائم، ولا يبعد أن تقع ثورة في الغد تسقط هذه
الحكومة وتلغي الدستور وتنقض كل الاتفاقات التي عقدتها الحكومة السابقة، وتعيد
الحكم الاستبدادي بما يرافقه من جور وفظاعة.
وما لابد من ذكره أن امتيازات الأجانب في تركيا لم تؤخذ منها بالقوة؛ بل
هي منحتها مختارة، ومنشأها احتقار المسلم الشديد لكل من هو غير مسلم، فالإسلام
لا يقدر أن يتصور وجود مملكة مختلفة، فهو لا يحسب حسابًا إلا للبلاد التي كل
سكانها مسلمون، ويعتقد أن العالم كله سيؤلف في آخر الأمر مثل هذه المملكة.
هذا من جهة النظريات، أما من الوجه العملي فالمسلم لا يكترث لوجود غير
مسلم في بلاده، ولا يعترف بمساواة غير المسلم به. وبالتالي إن المسلمين لا يهمهم
ما يفعله غير المسلمين ويتفكرون به ما زالوا خارجين عن دائرة الإسلام.
والذي يستحق الذكر أيضًا أن الإسلام انتشر بالفتح لا بمساعٍ سلمية، وقد
استعان المسلم الفاتح على إدارة شؤون البلدان التي فتحها بالطرائق الإدارية التي
وجدها مرعية فيها، وقد رأى في تلك البلدان دوائر روحية للنصارى واليهود أبقاها
على حالها، وصار الأساقفة والحاخاميون ورؤساؤهم المسؤولون واسطة بينهم وبين
الحكام المسلمين.
وعلى هذه القاعدة صار الأجانب الساكنون والمتاجرون في تركيا وبلاد فارس
ومصر وبقية الممالك الإسلامية تحت سيطرة قناصلهم القضائية أولاً باستمرار
العادة، وثانيًا بعقد معاهدات. ولم ينالوا هذا الأمر من باب الامتياز بل من وجه
أنهم أحط من أن ينتفعوا بمنافع العدالة الإسلامية القائمة على القرآن.
وقد فتحت عن هذه الطريقة شريعة الامتيازات الخارقة العادة التي أعفت
السفير الأجنبي وبيته وأملاكه من القضاء العثماني، وتناولت هذه الشريعة رعايا
دولته الأصليين والمجنسين بجنسيتها. ومع نقصان قوة المملكة الإسلامية وازدياد
قوات الدول الأجنبية كانت امتيازات الأجانب تزداد قوةً وأهمية في البلدان الخاضعة
للحكم الإسلامي حتى أصبحت المستعمرات الأجنبية في كل مملكة إسلامية أشبه
بممالك صغيرة ضمن مملكة كبيرة.
ومن الأدلة على أن الامتيازات الأجنبية في الممالك الإسلامية لم تُنَل بالقوة أن
سويسرا والبرتوغال والبلجيك تتمتع في تركيا وبلاد فارس ومصر بنفس
الامتيازات التي تتمتع بها الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وروسيا وألمانيا
وغيرها من الدول العظمى.
هذا وإن كثيرين من رجال الحكومة العثمانية نظير أحمد رستم بك السفير
العثماني في واشنطون المتعصب لإسلامه الجديد - يقولون: إن قوانين تركيا
المدنية والجنائية لا تنقص بشيء عن القوانين الغربية بعد أن وضعها مشترعون
عثمانيون وأوروبيون.
إنهم مصيبون في قولهم، فالقوانين العثمانية خليط بين نظام نابليون والشريعة
الإسلامية وملتقى الأنهر، ولكنها موجودة بالاسم فقط، فإن نجم الدين بك ناظر
العدلية في الحكومة العثمانية الجديدة أدرى الناس بهذا الأمر، فقد رفع بالأمس
تقريرًا عن الإصلاحات التي أدخلتها حكومته على دوائر الشريعة والقضاة وإنفاذ
النظام الجديد، ولما سئل عما إذا كان هذا النظام يساوي بين المسلم والنصراني
واليهودي أجاب بكلام لا يحتمل الريب، وقال: (إن هذا الأمر يستحيل على
المسلم أن يتصوره فهو لا يفكر به أبدًا) .
وبناء على ما تقدم يظهر أن نظام العدل في تركيا ديني غير خاضع لناظر
العدلية كما هو في بقية الحكومات؛ بل لشيخ الإسلام الذي ليس رئيس رجال الدين
الإسلامي في المملكة العثمانية فقط؛ بل قاضيها الأكبر، فلا مرد لحكمه ولا
اعتراض على فتواه. وهو يرأس مرتين في الأسبوع محكمة العدل العليا المتصلة
بقصره في إستامبول.
ولشيخ الإسلام سيطرة على الأمة والعلماء والمتصوفة، وعلى رؤساء الكليات
الدينية والمحاكم القضائية، فكل القضاة في محاكم تركيا العليا والبدائية ينالون
مناصبهم منه وهم تحت نفوذ ديني شديد، بدليل أن مرتباتهم المالية تؤخذ من ريع
الأوقاف الإسلامية التي هي ثلاثة أرباع العقارات المدنية في المملكة العثمانية، وقد
رافقت أُجَّارها من الفلاحين شروط جائرة: منها أن الفلاح المستأجر بعضها إذا
مات بدون عقب فأرضه تعاد إلى الأوقاف لأنه لا يقدر أن يتركها لأرملته أو أحد
أنسابه.
ولا يمكن حمل مفسري الشريعة الإسلامية على جعلها حديثة، أو إقناعهم بأن
الأحكام تتغير بتغير الأزمان، وبأن الأزمنة قد تغيرت منذ أربعة عشر قرنًا حين
وضع النبي محمد الشريعة الإسلامية في بلاد العرب لتنطبق على حاجات أبناء
البادية وسكان الوبر. فشيخ الإسلام في الآستانة والمفتي الأكبر في القاهرة وكل
قاض مسلم كبيرًا كان أم صغيرًا يعتبرون الحَيَدَان عن تعاليم النبي محمد خطيئة
مميتة أو جريمة ضد الأشياء المقدسة.
ومن الأدلة على عدم إمكان تطبيق أحوال النصارى على منطوق الشريعة
الإسلامية ما جرى في القاهرة سنة ١٩١٠ حين رفض المفتي الأكبر الموافقة على
إعدام الورداني قاتل بطرس باشا غالي رئيس الوزارة المصرية والأول مسلم
والثاني نصراني قبطي، وكانت حجة المفتي في عدم الموافقة على إعدامه أن
الشريعة الإسلامية لا تحكم بإعدام المسلم لقتله نصرانيًّا، فالمسلم الذي يقتل نصرانيًّا
لا يعتبر مجرمًا في نظر الشريعة الإسلامية.
وقد استغربت الحكومة الإنكليزية هذه الفتوى ولم تعمل بها، وشنقت الورداني
غير مكترثة لفتوى المفتي الأكبر الذي ذكر سببًا آخر لامتناعه عن الفتوى بإعدام
الورداني فقال: إنه لم يرد في القرآن ذكر للمسدسات، ولا في الشريعة القائمة على
الحديث، ولذلك لا يعتبر المسلم بالشريعة المقدسة مجرمًا إذا استعمل المسدس لجرح
أو قتل.
وزبدة القول: أن فتوى مفتي الديار المصرية في عدم تجريم مسلم يقتل
نصرانيًّا، وقول ناظر العدلية العثمانية باستحالة مساواة النصراني واليهودي بالمسلم
أمام الشريعة العثمانية - حجة قاطعة تحتج بها دول أوربا والولايات المتحدة في عدم
تنازلها عن الامتيازات الأجنبية في تركيا والسماع للباب العالي بإلغائها.
***
تفنيد مزاعم السياسي الأمريكاني
في الشريعة الإسلامية
يتوهم كثير من الشرقيين ولا سيّما المتفرنجين منهم أن كُتاب السياسة والتاريخ
وعلماء القوانين والشرائع من الإفرنج لا يكتبون في جرائدهم الشهيرة ومصنفاتهم
إلا الحقائق الثابتة التي قتلوها بحثًا وتدقيقًا وتمحيصًا. ويظن الذين يسيئون الظن
بالإفرنج ويتهمونهم بالتعصب وغمط حقوق الشرقيين كافة والمسلمين خاصة؛ أنه لا
يكاد يوجد فيهم عارف منصف يقول الحق إذا كان لغير قومه لا لهم، ولا حظ لهم
فيه، والمحققون المعتدلون يعلمون أن المستقلين فيهم كثيرون، ويظنون أن
الأمريكيين منهم أقرب إلى الإنصاف، وأبعد عن الجور والاعتساف فيما يحكمون
به على الشرق والإسلام ويصفونهما به؛ لأنه ليس بين الأمريكيين والشرقيين من
المنازعات والمطامع السياسية مثل ما بين الأوربيين والشرقيين. وهؤلاء
يستغربون مثل هذه المقالة من سياسي أمريكي في جريدة أمريكية شهيرة.
بل أقول: قد يستغرب مثل هذه المقالة كل من قرأها من أبناء العربية في مصر
وسوريا بقدر احترامه للأمة الأمريكية الجليلة؛ لأنه لا يستطيع أن يبرئ الكاتب
من إحدى الخلتين: الجهل أو التعصب الحامل على قول الزور، فإن من لم يعلم
من أهل هذه البلاد أن ما حكم به الكاتب على الإسلام زور وبهتان كقليلي الاطلاع
من النصارى - يعلم أن ما نسبه إلى مفتي مصر من القول بأن الشريعة الإسلامية لا
تحكم بقتل المسلم الذي يقتل النصراني، قول باطل لم يقله ولا يمكن أن يقوله مفتي
مصر؛ لأن جميع الكتب التي يستمد منها نصوص الفتوى مصرحة بأن المسلم يقتل
بغير المسلم.
جعل الكاتب السياسي العلة الأولى لوجوب عدم رضاء الدول بالخضوع
للمحاكم العثمانية هي كونها قائمة على تعاليم القرآن وكون المسلم يحتقر غير المسلم
ولا يعترف بمساواته له.
ماذا عرف هذا الكاتب من أحكام القرآن في العدل والمساواة، ومن أين
استنبط حكمه عليه؟
قال الله تعالى في مسألة الحكم بين اليهود وكانوا أشد الناس عداوة للنبي
صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من جميع مَن ناصبوه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم
بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: ٤٢) والقسط هو العدل.
وقال تعالى في مسألة الحقوق والحكم العام بين الناس كافة من مسلم وغيره:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) قال: بين الناس، ولم يقل: بين المسلمين.
وقال في العدل العام والشهادة التي هي ركن القضاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ
أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: ١٣٥) أمر بالمبالغة في العدل وشهادة الحق،
ومنع أن يحابي أحد في ذلك نفسه أو والديه أو أحدًا من أقاربه أو غنيًّا لغناه أو
فقيرًا لفقره، وأن يتبع هوى نفسه في ترك شيء من العدل أو يحرف فيه أو يعرض
عنه. وكل هذه الآيات في سورة واحدة.
وقد نهى تعالى عن ترك العدل مع الأعداء، سواء كان في الأحكام أو الشهادة
كما نهي عن ترك العدل مع الأعداء، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: ٨) الشنآن: البغض والعداوة؛ أي
ولا يكسبنكم ويحملنكم بغض قوم وعداوتهم لكم أو عداوتكم لهم على ترك العدل فيهم
إذا حكمتم بينهم أو شهدتم في خصام لهم.
وليست هذه الآيات كل ما في القرآن من الأمر بالعدل؛ بل ثَمَّ آيات أخرى
كقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: ٩٠) وقوله:
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (الأعراف: ٢٩) ومثلها ما ورد في الميزان.
فليأتنا ذلك السياسي الذي يفر هو وقومه من حكم القرآن بمثل هذا التشديد في
الأمر بالعدل المطلق والمُفيَّد بالأعداء وتحريم المحاباة فيه - لعلة من العلل - من
التوراة أو الإنجيل أو كتب الأولين والآخرين. أما نحن فنستطيع أن نأتيه
بالنصوص والشواهد على عدم مساواة الإفرنج الأفريقيين والآسيويين بأنفسهم.
وأما المساواة فهي لم توجد على حقيقتها وإطلاقها وعمومها إلا في الإسلام،
كما تدل على ذلك النصوص والأعمال، وتشهد به تواريخ القرون والأجيال.
أما النصوص فحسبك منها ما تقدم من الآيات آنفًا فإنها أمرت بالتزام الحق
والعدل في الحكم والشهادة والمعاملة مع الموافق في الدين والمخالف، والغني
والفقير، والقريب والبعيد، والمحب الوديد، والعدو البغيض. وإنما يخرج الناس
عن صراط المساواة بمحاباة من يمت إليهم بصلة الدين أو لُحمة النسب ووشيجة
الرحم، أو رابطة الصداقة والمودة، أو من يطمعون في غناه أو يرحمونه لفقره،
وحينئذٍ يظلمون خصم من يحابونه، ومن الناس من يظلم كل من يخالفهم في دين أو
جنس، أو يبغضونه لسبب ما. وقد أتت الآيات على جميع ذلك.
وأما العمل فقد اشتهر عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من أمراء المسلمين من
العدل والمساواة ما لم يؤثر عن غيرهم. وناهيك بقضية غضب علي المرتضى من
عمر الفاروق؛ لأنه كنَّاه وسمى خصمه اليهودي ولم يساوِ بينهما في التسمية كما
ساوى بينهما في سائر الأمور. واعترف عمر بذلك. ولا تنس مساواة عمر بين
الغلام القبطي وولد عمرو بن العاص فاتح مصر وأميرها. فأمثال هذه القضايا لا
يتجرأ أمريكاني ولا أوربي أن يدعي مثلها لحكومته! وكيف ومن قواعد حكومة
الولايات المتحدة التي هي من أرقى حكومات الغرب أن المساواة بين الأبيض
والأسود غير جائزة؟ بل رأينا بعض محاكمهم في هذه الأيام - ولا أقول في هذا
القرن الذي يضربون المثل بارتقاء البشر فيه - تنكر على السوريين حق الجنسية
الأمريكانية والتشرف بمساواة البيض، على عراقة السوريين في النسب السامي من
الجنس الأبيض وكونهم من وطن المسيح عليه السلام، الذي يعبده الأمريكيون
ويتخذونه ربًّا وإلهًا.
فالشريعة الإسلامية وحدها هي التي ساوت بين جميع البشر في الحقوق،
حتى إن الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعد نفسه مساويًا لغيره
في الحقوق، وقصة اليهودي الذي جذبه من طوقه لدَين له لم يحل أجله، مشهورة.
وقد طلب من الناس في مرض موته أن يقتصّ منه مَن كانت له قِبَله مظلمة، فادّعى
عكاشة بن محصن - رضي الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم ضربه مرة على
عاتقه مكشوفًا فكشف له صلى الله عليه وسلم عاتقه ليضربه كما ضربه! !
وليس للخلفاء في الإسلام امتياز على أحد من الناس في الحقوق المدنية ولا
الجزائية، وكان الموالي والذميون والمعاهدون يتحاكمون مع الخليفة إلى القاضي
فيساوي بينهم. فإن كان العثمانيون قد قالوا في قانونهم الأساسي: (إن السلطان
مقدّس وغير مسئول) وجعلوه من قبل ذلك لا يحاكم ولا يخاصم، فهم إنما أخذوا
ذلك عن الأجانب غير المسلمين.
وإننا نعد من استعلاء الإفرنج بقوتهم على ضعفنا تحكمهم بذم كل شيء لنا أو
عندنا، وإن كانوا لم يعرفوا كنهه ولا وقفوا على حقيقته، كأنهم يرون أن الحق
والفضيلة والخير وكل ما يمدح لا يكون إلا للأقوياء أصحاب المدافع الكبيرة والذهب
الكثير؛ بل هذا مذهب معروف صرّح به كثير من فلاسفتهم وساستهم، وهم
يجرون عليه في مستعمراتهم.
ولولا اطلاعنا على أقوال العلماء المستقلين والحكماء الراسخين في وصف
الإسلام والمسلمين كغوستاف لوبون وجبون، وأضرابهما - لظننا أنه لا يوجد
في الإفرنج كلهم عارف منصف يقول الحق الذي يعتقده.
يقول الكاتب الأمريكي: إن المسلمين أعطوا الأجانب ما أعطوهم من امتياز
الحكم فيما بينهم طوعًا واختيارًا؛ لأن الإسلام لا يقدر أن يتصور وجود أناس غير
مسلمين يستحقون أن يتمتعوا بعدل الإسلام. فكأنه يقول: إن المسلمين يريدون بذلك
أن يتجاهلوا وجود أحد غير مسلم في الأرض!
وإنما المعروف من القرآن العظيم أن الله تعالى خيَّر رسوله صلى الله عليه
وسلم في الحكم بين اليهود في قضية عرضوها عليه، وأمره بأن يحكم بالعدل إذا
هو اختار الحكم بينهم في تلك القضية التي كان لهم فيها هوىً بيناه في التفسير من
عهد قريب. ثم قال: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة:
٤٩) فقيل هذا ناسخ للتخيير وقيل غير ناسخ.
فمن هنا أخذ المسلمون أن حكامنا مخيرون في غير المسلمين بين الحكم
بينهم وبين السماح لهم بأن يحكموا بشريعتهم فيما بينهم. ولغلبة الحرية الدينية
والتسامح في الإسلام واحترام عقائد الناس سمح الخلفاء والملوك لغير المسلمين بأن
يتحاكموا إلى رؤساء دينهم في الأمور الشخصية، وكذا في غيرها أحيانًا إذا كان
خاصًّا بهم. فهذه المبالغة في الحرية والتسامح واحترام المخالفين، كان يجب أن
يطري به الأمريكي وغيره الإسلام والمسلمين، فما كان منه إلا أن قلب الحقيقة،
وعكس القضية، فجعل ما يقتضي الإطراء في المدح، موجبًا للإسراف في الذم
والقدح! !
ثم إن الكاتب أخطأ فيما نقله عن شيخ الإسلام في حكومة الآستانة كما أخطأ
فيما نقله عن مفتي الديار المصرية، فهل يوثق بعلمه بالشريعة الإسلامية نفسها
وبأحكامها، وهو لا يوثق بعلمه في الأمور الرسمية التي تقع في عصره، وهو لا
يحتاج فيها إلى علم واسع، بل يكفي فيها التثبت في النقل، وإننا نحمل كلامه على
الخطأ وسوء الفهم، وعدم التثبت في النقل، ونربأ به عن تعمد الكذب، لمحض
الغلو في التعصب.
الجهل والخطأ أهون من الكذب، وشر الكذب ما حمل عليه التعصب واحتقار
الأمم، وأقبحه ما صدر ممن يدعي الحرية والإنصاف، ويحتكر لنفسه وقومه
فضيلة العدل والمساواة، ولولا الأدب مع الكاتب لاحترام أمته لقلنا أنه كذب شر
الكذب وأقبحه على الإسلام والمسلمين عامة، وعلى ناظر العدلية العثماني إذ زعم
أنه قال: إنه يستحيل على المسلم أن يتصور المساواة بين المسلم أو النصراني
واليهودي، وعلى مفتي الديار المصرية إذ زعم أنه احتج على امتناعه من الإفتاء
بقتل قاتل بطرس باشا بأن الشريعة لا تحكم بإعدام المسلم لقتله نصرانيًّا ولا تعده
مجرمًا.
وليس الخطأ في كلمات أو وقائع أسندت إلى بعض الرجال بأقبح منه في
الشرائع والنظام العام، ومنه قول الكاتب: إن نظام العدل في تركية ديني غير خاضع
لناظر العدلية، وإن شيخ الإسلام في الآستانة هو القاضي الأكبر الذي لا مرد لحكمه،
وإنه يرأس مرتين في كل أسبوع محكمة العدل العليا المتصلة بقصره في إستانبول،
وإن له السيطرة على الأمة وعلى العلماء والمتصوفة، وعلى رؤساء الكليات
الدينية والمحاكم القضائية، وإن جميع القضاة في المحاكم التركية الابتدائية والعالية
ينالون منه مناصبهم وهم تحت نفوذ ديني شديد.
وليست هذه المزاعم بأغرب من الاستدلال عليها بكون مرتبات مَن ذكر من
القضاة وغيرهم تؤخذ من الأوقاف الإسلامية، ومِن زَعْم الكاتب أن تلك الأوقاف
هي ثلاثة أرباع العقارات المدنية في المملكة العثمانية.
شيخ الإسلام ليس قاضيًا لمحكمة تسمّى العدل العليا، ولا سيطرة له على
الأمة ولا على محاكم العدلية المدنية والجنائية، ولا هو يعين أحدًا من قضاة هذه
المحاكم؛ بل يعين رؤساءها ناظر العدلية، وأعضاؤها ينتخبون انتخابًا من الأهالي
المسلمين وغير المسلمين، ويأخذون مرتباتهم من خزينة الحكومة لا من الأوقاف
الإسلامية، والأوقاف الإسلامية ليست ثلاثة أرباع العقارات ولا ربعها ولا عشرها،
وليس شيخ الإسلام ناظرًا للأوقاف ليكون مسيطرًا على مَن يأخذ مرتبًا منها.
نعم إن شيخ الإسلام هو الذي يولي القضاة الشرعيين الذين يحكمون بين
المسلمين في الأمور الشخصية، وهؤلاء تستأنف أحكامهم وتميز في باب المشيخة
الإسلامية، في مجالس لها رؤساء غير شيخ الإسلام، ومرتباتهم كمرتبات قضاة
المحاكم المدنية تؤخذ من خزينة الحكومة. في باب المشيخة رئيس للمدارس الدينية
التي بناها السلاطين في الآستانة وغيرها يسمى وكيل الدرس، وبالتركية (درس
وكيلي) ، ولهذه المدارس أوقاف خاصة بها تديرها نظارة الأوقاف.
ولا حاجة إلى تفنيد كلامه في إجارة الأوقاف الإسلامية وعيبه إياها بأن
المستأجرين لها لا يتركونه إرثًا لأولادهم، فإن أجهل الناس في كل أمة وملة يعلمون
أن المستأجر لا يكون مالكًا حتى يترك ما استأجره إرثًا لأولاده.
بقي مما يؤبه له: كلامه في تعذر إقناع مفسري الشريعة الإسلامية بأن الأحكام
تتغير بتغير الأزمان، وبأن الأزمنة تغيرت عما كانت عليه منذ أربعة عشر قرنًا،
وأن الشريعة الإسلامية وضعت في بلاد العرب لتنطبق على حاجات أبناء البادية
فهذا الكلام لا نلومه عليه؛ لأنه قلد فيه كثيرًا من الأوربيين الذين لا يخطر في بال
مثله أن كلامهم لا يؤخذ على علاته. وهذا التعليق لا يتسع لإطالة الكلام في بيان
الحق في هذه المسألة، فنكتفي بكلمة وجيزة نقولها له ولأمثاله وهي:
إن مفسري الشريعة الإسلامية لا يحتاجون إلى الإقناع بأن الأحكام تتغير بتغير
الأزمنة فكلهم يعرفون ذلك، وطالما قرّروه في كتبهم، وأقدم كلمة يروونها في
التصريح بذلك عن إمامٍ في العلم والحكم من أهل العصر الأول ما قاله عمر بن عبد
العزيز الذي يعده المسلمون خامس الخلفاء الراشدين في علمه وعدله وهو: (يحدث
للناس أقضية بحسب ما أحدثوا من الفجور) ومثله ما يُحدِثونه من غير الفجور
أيضًا. ويعلمون أيضًا أن الزمان مخالف للزمان الذي وجدت فيه الشريعة الإسلامية،
ويعلمون أن الشريعة الإسلامية وضعت لتنطبق على حاجات أبناء البادية كما يعلم
الكاتب وأمثاله.
ويعلمون أيضًا ما لا يعلمه هو وأمثاله؛ وهو أن هذه الشريعة وضعت لتنطبق
على حاجات أهل الحضر في ذلك الزمان وفي كل زمان ومكان أيضًا، وكان لهم
في الشرق وفي الغرب حضارة كحضارة بغداد والأندلس، وأن الشريعة الإسلامية
كانت مطبقة عليها ولم يكن عندهم شريعة غيرها، وأن عدلها هو الذي جعل الناس
يخضعون لها مختارين ولولا ذلك لم يستطع أولئك الشراذم من العرب فتح الشرق
والغرب في جيل واحد. فالدين الإسلامي هو الذي أوجد الحضارة والفتوحات
بطبيعته لا بقوة سيوف أهله، ولم تكن الفتوحات الموجدة أو الناشرة له.
وقد بيّن علماء الشريعة أن معنى سعتها وموافقتها لمصالح الناس من بدوٍ
وحضرٍ في كل زمان ومكان هو كون قواعدها العامة مبنيّة على أساس الشورى
والعدل والمساواة، واعتبار عرف الناس الحسن في معاملاتهم، ودرء المفاسد
وجلب المصالح ودفع الضرر والضرار، وكون أولي الأمر ورجال الشورى فيها
يجب أن يكونوا من أهل الاجتهاد القادرين على استنباط الأحكام التي تمس إليها
حاجة الناس في سياستهم وأقضيتهم. ولم يقل أحد من أئمة هذه الشريعة ما يدّعيه
هذا الكاتب وأمثاله من أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع أحكامًا تفصيلية لجميع
ما تحتاج إليه أمته في زمنه - دع سائر الأزمنة - وأنه يحرم على سائر المسلمين
أن يزيدوا فيها شيئًا تقتضيه المصلحة؛ بل صرح بعض الأئمة بأن مراعاة المصالح
في كل زمان ومكان أصل من أصول هذه الشريعة يتفرع عنه ما لا يحصى من
الأحكام. وقد شرحنا هذه المسألة وفصلناها غير مرة في تفسير القرآن الحكيم وفي
غيره من مباحث المنار.
نعم إن حكام المسلمين والمشتغلين بالعلم منهم قصروا منذ قرون فيما يجب
عليهم من الاجتهاد في الشريعة، وجمدوا على بعض الكتب التي ألفها مَن قبلهم،
فجنوا بذلك على أنفسهم وعلى ملتهم، وكان من آثار هذا الجمود والجهل أن لجأت
بعض حكوماتهم إلى الاستمداد من القوانين الأوربية كما نقل الكاتب عن السفير
العثماني في بلاده بعد أن كان الأوربيون يستمدون من كتب شريعتنا كما فعل نابليون
الأول. ولكن نابليون اقتبس من شريعتنا في قانونه ما رآه موافقًا لمصلحة أمته،
وأمّا حكامنا فإنهم صاروا يأخذون من قانونه ومن سائر القوانين الأوربية ما يوافق
مصالح أمتهم وما يخالفها، ذلك بأن نابليون اقتبس بعقلٍ واجتهاد، وحكامنا يقلّدون
الإفرنج تقليدًا، ومن هذا الجمود توقف بعض المتفقهة عن جعل القتل بالرصاص
كالقتل بالسيف أو السكين، ولولا هذا الجمود لما اضطروا الحكام الجاهلين بالشريعة
إلى الالتجاء إلى قوانين الأمم الأخرى، فهذا شر عواقب جهل رؤسائنا بأصول
شريعتنا وتركهم الاجتهاد الواجب فيها، والأئمة متفقون على اشتراط الاجتهاد في
الحكام والمفتين، ولكن مَن ينفذ هذا الشرط.
ومن التناقض في كلام الكاتب أنه جعل العلة لنفور الأجانب من الخضوع
للمحاكم العثمانية هي كونها تستند في أحكامها إلى أحكام القرآن المنافية للعدل
والمساواة، ثم اعترف بأن العثمانيين أخذوا معظم قوانينهم عن الأوربيين. وليته
يعلم أنهم لو حكموا بين الأجانب بما يأمر به القرآن لكان خيرًا لهم؛ لأنهم حينئذٍ
يحكمون بعدل كامل يقيمونه بالإخلاص سرًّا وجهرًا، وليست حالهم في القوانين
كذلك. وهذا وإن الحقائق التي أشرنا إليها يعرفها كثير من الأوربيين، ويصرّح بها
بعض المستقلين. وقد نقلنا من عهد غير بعيد قول لورد كتشنر لعضوٍ من أعضاء
مجلس الأمة العثماني أن هذه القوانين لا توافق حال العثمانيين كما توافق حال مَن
أخذوها عنهم، وقوله: إن عندكم شريعة عادلة تنطبق على مصالحكم، فخير لكم
أن تعملوا بها.
وقد كان لورد كرومر كتب في آخر تقرير له عن مصر كلمة في الشريعة
الإسلامية في معنى كلمة الكاتب الأمريكي من حيث موافقتها هذا الزمان وعدمها،
فكتبت إليه كتابًا قلت له فيه: إذا كان يعني بما كتبه الدين الإسلامي الذي هو القرآن
والسنة فأنا مستعد لأن أبيِّن له أن معظم ما جاء فيهما من الأحكام القضائية
والسياسية قواعد عامة توافق مصلحة البشر في كل زمان ومكان؛ لأن أساسها درأ
المفاسد وجلب المصالح بحكم الشورى. وإن كان يعني كتب الفقه الإسلامي فتلك
من وضع الناس، فيها كثير من آرائهم التي ينتقدها عليهم غيرهم.
فأجابني عن ذلك بأنه يعني بما كتبه مجموعة القوانين الإسلامية التي تسمى
الفقه، قال: (ولم أعنِ الدين الإسلامي نفسه، ولذلك قلت في هذا التقرير وفي غيره
بوجوب مساعدة الحزب الإسلامي الذي يطلب الإصلاح ويسير مع المدنية من غير
أن يمس أصول الدين) .
ونص كتابي وكتابه في ذلك مطبوعان في ص ٢٣١، ٢٣٢ من مجلد المنار
العاشر.
أكتفي بهذه العجالة في الرد على الكاتب الأمريكي، وكان لي أن أوجه
كلمة عتاب إلى رصيفنا صاحب جريدة الهدى الذي ترجم هذه المقالة وصدرها
بمقدمة تدل على إقرار كاتبها على ما كتبه، ولم يعقب عليه بكلمة إنكار. ولكنني
أستبدل بالعتاب الرغبة إلى إنصافه بأن ينشر هذا الرد في جريدته وينبّه (جريدة
الصن) إلى ما يجب عليها من ترجمته ونشره لتنسخ ذلك الباطل بالحق اليقين،
وحيَّا الله الإنصاف والمنصفين.