مقال في مسألة تعدد الزوجات نشره بالإنكليزية في أوربة السيد أمير علي العلامة العصري الشهير بدفاعه عن الإسلام وترجمه بالعربية أحمد أفندي نجيب ونشره في المؤيد وهذه ترجمته: (١) في غضون التطورات الاجتماعية الأولى كان تعدد الزوجات أمرًا لا مناص للعالم منه ألبتة؛ ذلك لأن هروب القبائل التي ما كانت تهدأ ثائرتها قط، والنتائج الطبيعية اللازمة لذلك من نقص عدد الذكور وزيادة عدد النساء أوجدت بالضرورة تلك العادة التي تعتبر بحق في أيامنا هذه إحدى الآفات التي لا بد للعالم من التخلص منها. فإذا تصفحنا تاريخ الأمم الشرقية في تلك العصور الخوالي وجدنا تعدد الزوجات عادة مألوفة ومتبعة، ولقد زادها ثباتًا ورسوخًا بين الناس حينئذ ما كان من أمر ملوك ذلك الوقت الذين كانوا يزعمون أنهم يحكمون بوحي من عند الله فإنهم بما كان لهم من هذه السيطرة الكبرى قد صبغوا تلك العادة بصبغة رسمية وذلك بتزوجهم هم أنفسهم بأكثر من امرأة واحدة. فإذا تتبعنا تاريخ الهندوس مثلا وجدنا أن تعدد الزوجات عندهم عادة متبعة من قديم الزمان شأنهم في ذلك شأن البابليين والآشوريين والفرس فإنهم هم أيضًا لم يكن عندهم حد يقفون عنده في الزواج، وإذا تتبعنا تاريخ الأمم والشعوب الأخرى وجدنا أن الطبقة العليا من البراهمة حتى في هذه الأزمنة الحديثة تتزوج بما تشاء من النساء من غير حرج. وهكذا كان شأن الإسرائيليين قبل موسى وبعده فإن شريعة ذلك النبي لم تتصادم مع تلك العادة بل تمشت معها في طريقها القديم، نعم إن تلمود بيت المقدس كتاب تقاليد اليهود نص على أنه لا يحق لرجل أن يتزوج بأكثر من العدد الذي في استطاعته أن يعول أمره، وأن الربانيين قرروا فيما بينهم أن الرجل لا ينبغي أن يتزوج بأكثر من أربع نساء، ولكننا نرى القرايين منهم لا يذهبون مذهبهم ولا يسلمون بتحديد ما. أما الفرس فقد كان دينهم حينئذ يَعِدُ من يتزوج بأكثر من امرأة بحسن الجزاء. وأما الفينيقيون فقد انحط الزواج عندهم إلى درجة الفحش بمعنى أن الرجل أصبح يعقر ما شاء من النساء بغير حرج، وأما شعوب ثراسيا وليديا وبلاسجيا، تلك الشعوب التي قطنت في أماكن شتى من أوروبا وغرب آسيا، فقد بلغت عادة تعدد الزوجات عندهم حدًّا يقصر عنه الوصف. هذا ما كان من تعدد الزوجات في الشرق القديم، وأما الغرب فقد كانت المرأة في أثينا مهد المدنية والحضارة منه كمنزلة المتاع تعرض في الأسواق، وتنقل من يد إلى يد، وبالجملة يحق عليها كل ما كان يحق على أثاث البيت الصرف، كان الأثينيون فوق ذلك يعتبرون المرأة شيطانًا لا غنى عنه في ترتيب المنزل وتربية الأطفال، وكان يحق للرجل منهم أن يأخذ ما شاء من النساء بغير حساب، وأما الشارع في إسبارطة فإن كان لم يأذن للرجل باتخاذ أكثر من زوجة إلا في ظروف مخصوصة، فقد أجاز للمرأة أن تتخذ أكثر من بعل واحد. هذا، وأما الدولة الرومانية فإنه يحتمل أن الظروف المخصوصة التي تكونت فيها هذه الدولة أبت أن تجعل تعدد الزوجات مشروعًا في بدء حياتها، ومهما يكن من أمر حكاية اعتصاب نسوة الصابيين المشهورة وقيمتها التاريخية فلا ريب عندي أن وجود هذه الحكاية وتناقلها من السلف إلى الخلف من شأنه إرشادنا صراحة إلى الأسباب التي ساعدت على وضع تلك القوانين الأولية للزواج في الدولة الرومانية رغمًا من بقاء عادة تعدد الزوجات في البلاد المحيطة بها برومية من كل جانب، خصوصًا بين الإنزسكانيين، ولقد كانت نتيجة احتكاك الرومانيين عدة قرون مع بقية شعوب إيطاليا والحروب والفتوحات التي وقعت حينئذ كذلك، وكل ما كان من أمر الأبهة والفخفخة التي جاءتهم على أثر نجاحهم في الاستعمار، كان نتيجة ذلك كله أن سقطت منزلة العقود الزوجية المقدسة وأصبح الرجال يعيشون مع النساء بغير عقد أو كتاب، بمعنى أن النساء جميعا أصبحن في منزلة السراري والحظايا، ومما زاد هذه الحالة قوة وثباتا ما كان من أمر قوانين البلاد التي اضطرت إلى الاعتراف بهذه الحالة رسميًّا، فالحرية المطلقة التي أعطيت للمرأة حينئذ، وضياع ذلك الرباط الذي كان يربطها بالرجل، والحالة الناشئة عن ذلك من استبدال الرجل لنسائه أو نقلهن من يد إلى يد، كلها أمور تدل صراحة على وجود عادة تعدد الزوجات بالفعل، وإن وجدت تحت اسم مستعار. هذا وبينما هذه الأمور جارية على ما بينا في الغرب كانت المسيحية قد ظهرت في الشرق وبدأ نورها يتألق في أفق العالم الروماني بأسره، ولا ريب أن هناك أسبابا كثيرة منها الروح وتأثيرها على تعاليم المسيح، قد حدت بنبي الناصرة إلى أن يضع من قيمة الزواج مطلقًا وإن لم يحرمه أو يأمر بمنعه على أي شكل كان. على أن تعدد الزوجات بقي بالرغم من ذلك كله جاريًا مجراه الأصلي في البلاد الرومانية إلى أن جاء جوسنتيان فوضع القوانين لإبطال هذا التعدد، ولكن هذا الإبطال الذي جاءت به تلك القوانين لم يؤثر تأثيره المطلوب وبقي تعدد الزوجات معمولاً به ومتبعًا إلى أن استنكرته الهيئة الاجتماعية الحديثة فأبطلته. وإذا أردنا أن نتوسع في ذكر ما نصته تلك القوانين في معاملة النساء اللواتي سبق زواجهن برجل واحد نقول: إنها خصت المرأة الأولى بكل المميزات، وأبقت النساء الأخرى في أشد حالات التعاسة والشقاء، وزد على هذا أن أولادهن يحرمون من إرث أبيهم، ومن كل حق اجتماعي آخر. وإنه يجمل بنا في هذا المقام أن نلاحظ أن تعدد الزوجات بالصورة التي ذكرناها آنفًا ما كان خاصًّا بالطبقة العليا من الشعب في رومية بل تعداه إلى كل الطبقات، ولم يستثن من ذلك طبقة رجال الدين الذين نسوا أقسام العزوبة التي أقسموها، وأصبح الرجل منهم يجمع في بيته أكثر من امرأة شرعيات كن أو غير شرعيات. وإن التاريخ ليثبت أن تعدد الزوجات ما كان مستنكرًا إلى وقت قريب جدًّا ولقد ذكر (سنت أوغستين) نفسه أن ليس في تعدد الزوجات من إثم أو عيب مطلقًا وقال: إنه ما دامت شريعة البلاد تبيح تعدد الزوجات فلا شيء في ذلك بتاتًا، وقال (هلم) : إن المصلحين الألمانيين أقروا على صلاحية الجمع بين امرأتين أو ثلاث إذا كانت المرأة عاقرًا أو إذا كان فيها ما يماثل ذلك من النقص، وقال بعض أصحاب الرأي من الأوربيين أيضًا: إنه لا عيب مطلقا في تعدد الزوجات، وإن المسيح نفسه لم يصرح قط بإبطال هذه العادة، ولقد استطرد هؤلاء المفكرون إلى القول بأن وحدة الزوجية المنتشرة في أوربا الآن هي عادة من عوائد الألمانيين أو الرومانيين الإغريق، وهذا قول مخالف للواقع والتاريخ؛ ذلك لأن هؤلاء القوم استدلوا على صحة قولهم بشهادة اثنين من كتاب الرومان، ولكن هذه الشهادة على كونها لم تثبت، لم يعززها كتاب آخرون، فإن هذين الكاتبين مشهوران، بطمس معالم الحقائق اتباعًا لأهوائهما. والواقع أننا إذا تمشينا مع تاسيتش، وهو أحد هذين الكاتبين، فيما زعمه عن وحدة الزوجية بين الألمان، فإننا نرى أنفسنا أمام حقيقة تاريخية تفسد عليه زعمه، وهذه الحقيقة ذكرها أغلب المؤرخين وهي وجود أثر من آثار تعدد الزوجات القديمة في الطبقة العليا من الألمان في القرن التاسع عشر. الحقيقة أن تاسيتش أراد من ذكر هذه الأكذوبة في كتابه أخلاق الألمان استفزاز عواطف بني وطنه الرومانيين لمجاراة الأخلاق الموهومة لجيرانهم الألمانيين ليصلحوا من شئونهم ويقلعوا عن شهواتهم واتخاذ السراري والحظيات. هذا، وإذا استأنفنا البحث عن تاريخ تعدد الزوجات في الدولة الرومانية وجدنا أن هذه العادة كان معترفًا بها في أواخر الجمهورية في بداية الإمبراطورية، وإن الاعتراف بهذه العادة ظاهر من المنشور الذي أذاعه القائمون بأمر الحكومة حينئذ لإبطال هذه العادة، ولكن هذا المنشور لم ينجح نجاحه المطلوب فيكفينا لإثبات ذلك أن الإمبراطرة هناريس وأركاديوس اللذين حكما في نهاية القرن الرابع، وقسطنطين وولده فيما بعد، لازموا العادة القديمة، على أن ثلانتين الثاني أصدر منشورًا بعد ذلك أيضًا أذن فيها لمن يريد من الرعية أن يتزوج بعدة نساء، وليس في تاريخ الكنيسة ما يدلنا على أن رجال الدين عارضوا هذا القانون بل بقي معمولاً به لدى من خلفه من الإمبراطرة حتى جاء جوستنيان كما أسلفنا فأعاد منعها، ومن العبث أن يظن أن هذه القوانين الجديدة وضعت تطبيقًا لأحكام دينية مسيحية فإن أكبر مستشاري هذا الرجل جوستنيان ما كان يعترف بوجود الله ومع ذلك فإن هذه القوانين لم تُحَّوْل ذلك التيار الجارف قيد شبر، وكل ما يقال فيها: إنها كانت فاتحة حياة فكرية للعالم الجديد، وإذا كانت وحدة الزوجية قد انتشرت في أوروبا الآن فليس ذلك نتيجة من نتائج هذه القوانين وغيرها، وإنما هي نتيجة عمل تفكيري محض انتهى إليها المجتمع الجديد بعد تجارب عدة من القرون. (٢) بعد أن بينا في مقالنا السالف تاريخ تعدد الزوجات في العالم بإسهاب نعود اليوم فنذكر أن أكبر غلطة يرتكبها الكتاب المسيحيون في هذا العصر هي ما يزعمونه من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو أول من شرع تعدد الزوجات للخلق وأجازه لهم، نعم إنه بطل اليوم رأي القائلين بأن محمدًا هو أول من أوجد تعدد الزوجات في العالم وأول من قال به، لا لأن هذا الرأي قد ظهر أنه مخالف للحقيقة والتاريخ فقط، بل لأن من يقول به لنا يلصق بنفسه تهمة الجهل الفاضح بأساس هذه المسألة الاجتماعية القديمة، أقول: نعم إنه بطل اليوم هذا الرأي ولكن زعمهم أن النبي أجاز هذه العادة وصرح بها كما ذكرنا ما زال مذهب المسيحيين عمومًا والمتعلمين منهم خصوصا ولسنا في حاجة إلى القول بأن هذا زعم فاسد باطل كما سنبينه بعد. إن محمدًا صلى الله عليه وسلم وجد تعدد الزوجات عادة معمولاً بها بين قومه كما وجدها معمولاً بها في كافة الأصقاع المجاورة لبلاده. نعم إن الإمبراطورية المسيحية حاولت بما وضعته من القوانين أن تضع حدًّا لتلك الحالة المحزنة كما ذكرنا في الفصل السالف، ولكن نتيجة هذا العمل كانت على غير ما يراه أصحاب هذه القوانين، فإن تعدد الزوجات سار في تياره القديم بغير انقطاع، ونساء الرجل الواحد خلا الأولى منهن بقين على حالتهن الأولى من التعاسة والشقاء. أما في بلاد الفرس فقد كان سقوط الآداب وانحطاطها حوالي الوقت الذي ظهر فيه النبي أمرًا موجبًا للدهشة والحزن معا، فإنه لم يكن ثم قانون للزواج مطلقا، وإذا كان ثم قانون من هذا القبيل فقد كان مهملاً وغير معمول به أصلاً. ولما كانت قوانين البلاد لم تحدد على كل حال العدد الذي يقف الرجل عنده في الزواج كان من أمر الفارسيين أن استمرءوا هذا المرعى الخصيب وصار الرجل منهم يتخذ ما شاء من الزوجات، زائدًا على السراري والحظيات (رولنجر صحيفة ٤٠٦) . ولقد كان بين العرب الأقدمين واليهود عدا ما قلناه من عادة تعدد الزوجات عادة أخرى هي الزواج بشروط مخصوصة، وكذا الزواج لمدة معينة، ولا ريب أن وجود مثل هذه الحالة في شبه جزيرة العرب كان من شأنه تحطيم وجود الأمة الاجتماعي بأسره، إلا أن الله قيض لها من يرفع شأنها ويأخذ بيدها من هذه الوهدة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ورفع من شأن المرأة فارتفع البناء الاجتماعي بأكمله. لقد كان مركز المرأة بين اليهود والعرب في أقصى دركات الانحطاط، فقد كان شأن الموسوية في بيت أبيها شأن الخادمة، كان والدها يستطيع أن يبيعها بيع السلع، وكان إخوتها يستطيعون أن يتصرفوا فيها كما يشاءون بعد موته، وأنكى من ذلك أنه كان لا يحق لها إرث أبيها إذا لم يكن له خلف من الذكور، أما بين العرب الذين كانوا كثيري الاحتكاك بجيراهم المتحضرين فقد كانت قيمتها عندهم قيمة المتاع الصرف، أي كانت المرأة جزءًا من أملاك الوالد أو الزوج، ومن تترمل من نساء الآباء تصبح فيما بعد من نساء الأبناء بحق الإرث. ومن هنا نعلم معنى كلمة نكاح المقت التي ذكرتها الشريعة الإسلامية في شأن من يتزوج من الأبناء بنساء الآباء حينما حرمت على العرب تلك العادة، ولقد بلغ من كراهية هؤلاء القوم للإناث من أولادهم أنهم كانوا يحرقونهن [١] أحياء. وهذه العادة أبطلها النبي كما أبطل عادة ذبح الأطفال ضحية للآلهة. هذا، أما في إمبراطوريتي الفرس وبيزنطة فقد كان شأن المرأة من الانحطاط شأنها في كل ما جاورها من البلاد، وإنه في ذلك الوقت الذي كان فيه البناء الاجتماعي للعالم يتهدم من كل جانب، وفي ذلك الوقت الذي أخذت فيه الصيحات ترتفع من كل فج طالبة الإصلاح الحقيقي للمجتمع، في ذلك الوقت الذي اقتنع فيه العالم كافة بنقص القوانين والشرائع الموجودة حينئذ، أقول في ذلك الوقت العسير جاء النبي بإصلاحاته وأخذ يدعو الناس إلى العمل بها. وإن من يتأمل في تلك الإصلاحات يرى أن احترام المرأة ركن من أركانها الهامة، وعماد من عمدها القويمة، وإنه ليكفينا أن نبرهن هنا على تأثير هذه التعاليم الجديدة في أخلاق من تبع هذا النبي الكريم من العرب بما كان من احترام هؤلاء القوم لابنته وحبهم لها حبًّا جعلهم يلقبونها بسيدة الجنة وسيدة النور، وهذا تحول غريب بالنسبة لمعاملة المرأة وتغيير معتقدهم فيها ولا ينبغي أن ننسى مع ذلك أن تأثير هذه التعاليم في أخلاق النساء أنفسهن قد أكسبهن ذلك الاحترام، فمن ذا الذي لم يسمع عن ربيعة وآلاف غيرها من النساء الفضليات. هذا، وإن من الشرائع التي جاء بها النبي في شأن النساء ما كان من إبطاله عادة التزوج بشروط، وإنه إن يكن قد أباح الزواج المؤقت أولا فإنه حرمه في العام الثالث من الهجرة، ولقد أعطى النساء فوق ذك حقوقًا ما كانت لهن من قبل، وأهم تلك الحقوق ما كان من مساواته لهن بالرجال في تقلد وظائف القضاء بين الناس، زد على هذا أنه قيد عادة تعدد الزوجات بقيود هي عين النهي المطلق، فإنه، على كونه خفض عدد النساء اللاتي يصح للرجل التزوج بهن معًا إلى أربع فقط، قد اشترط لذلك المساواة التامة بينهن تطبيقًا للآية الشريفة {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: ٣) ولقد كانت هذه الآية التي تلت آية الإذن بالتزوج بذلك العدد [٢] موضوع بحث المفكرين من علماء الإسلام في العالم أجمع، فإن العدل والمساواة بين النساء ليس معناه المساواة بينهن في المأكل والملبس فقط، بل يقتضي المساواة في الحب [٣] والإخلاص لهن جميعًا، ولما كانت المساواة في مسائل الشعور والإحساس هي عين المستحيل يكون هذا الشرط في منزلة المنع التام للتزويج بأكثر من امرأة واحدة، ولقد أخذ بهذا الرأي فعلا طائفة المعتزلة في أيام حكم المأمون، وعلموا الناس أن الإسلام يقضي بالتزوج بامرأة واحدة، وإنه إن تكن المطاردات العنيفة التي طاردهم بها المتوكل قد وقفت انتشار هذه الآراء الصائبة في العالم الإسلامي، فلا ريب في أن الطبقات المستنيرة من المسلمين ظلت تعتقد أن تعدد الزوجات مخالف لتعاليم نبيهم الكريم كما هو مخالف المجتمع المدني الحديث. إن تعدد الزوجات تابع على كل حال لتطورات الزمان، ففي ظروف مخصوصة وفي أحوال اجتماعية مخصوصة يكون تعدد الزوجات كما ذكرنا في أول الفصل السالف لازمًا ومحتم الوجود لحماية النساء من الفقر الذي يجلب معه كل رذيلة، والواقع أننا إذا استقصينا أسباب انحطاط الآداب المخيف في عواصم أوربا المتمدنة فإننا لا نجد لذلك سببا أقوى من هذا الفقر المدقع الذي يدفع النساء إلى ركوب هذا المركب الخشن والالتجاء إلى بؤرات الفساد حيث يبعن أعراضهن ابتغاء القوت واللباس. ولقد قال الأباهوك والسيدة دوق غوردون: إن ثم أحوالا مخصوصة مجردة عن كل اعتبار ديني تدفع الناس في الشرق إلى التزوج بأكثر من امرأة واحدة، إن تقدم الحركة الفكرية في العالم وتغيير تلك الأحوال المخصوصة قد حديا بالناس إلى إبطال هذه العادة والتبرئ منها الآن، ولذلك نرى أن تلك البلاد الإسلامية التي زالت منها تلك الأحوال المخصوصة أصبح أهلها ينظرون إلى هذه العادة بعين السخط فعلا، ويعدونها مخالفة للشرع والدين تمامًا، وأما البلاد التي ما زالت فيها أحوال المجتمع على نقيض ذلك فإن تعدد الزوجات فيها باق ولازم البقاء حتمًا. ورب معترض يقول: إن عبارة الشرع في هذا الموضوع تحتمل تأويل الفقهاء واختلافهم، وإن تعدد الزوجات لا يبطل إذًا إلا بعد عناء طويل، وإن وراء العقبة الاجتماعية عقبة دينية أخرى، وإننا مع اعترافنا بوجاهة هذا الاعتراض وأنه يستحق في الواقع اعتبار المسلمين الذين يرغبون في تخليص دينهم من الشبهات نقول: إن موافقة القوانين أيًّا كان نوعها لأحوال كل زمان ومكان هو دليل نفعها وخيرها للناس، وإن قانون الزوجية الموجود في الآيات القرآنية الشريفة تنطبق عليه هذه الصفات تمام الانطباق، فإن ذلك القانون يوافق تمام الموافقة أحوال المجتمع المدني الحاضر كما يوافق أحوال المجتمع القديم، فلا هو إذا بمتغافل عن حاجات الإنسانية الراقية ولا هو بمتناس أن ثم شعوبا وقبائل في الأرض تجر عليها وحدة الزوجية أشد المصائب وآلمها، ففي الوقت الذي تفهم عبارة القرآن كما هو المقصود منها تمامًا، وفي الوقت الذي تطبق تطبيقًا، موافقًا لأحوال الزمان، تزول هذه العادة وتنمحي بلا صعوبة ألبتة، ولا ريب أن هذا الوقت الذي يفحص فيه المسلمون أقوال نبيهم فحصًا جديدًا ويضربون عرض الحائط بتفاسير بعض رجال الدين ليس ببعيد إن شاء الله. وإن أوربا التي يذكر تاريخها ما كان من تصرف رجال دينها في كثير من العصور بأقوال كتبها كتصرف رجالنا تنفيذًا لنفس هذه الأغراض الدينية أولى بها أن تنظر بصبر وتؤدة إلى مساعي رجال ديننا الحديثين لإطلاق الأفكار الحرة من أسرها القديم، وتطبيقها تطبيقًا يوافق الجيل الحاضر، بدل أن تعجل علينا وعلى ديننا بصب الشتائم كل يوم، وإن الوقت الذي تتحرر فيه الشريعة الغراء وتطلق من سجن وضعها فيه بعض رجالنا يصبح من السهل على الشارع في كل بلد إسلامي أن يضع قانونًا يطبق فيه الشريعة السمحة على منع تعدد الزوجات، ولا ريب أن هذه النتيجة التي تبعث على الغبطة والسرور، ستتحقق حتمًا بعد أن بدأ مسلمو العالم المستنيرون بفحص كلام القرآن والنبي الكريم غير متأثرين بالأفكار العتيقة التي ثبت فشلها الآن. وإنه يسرنا أن نتيجة هذا الفحص هي على ما كنا ننتظر، فإن القول بوحدة الزوجة يرتفع اليوم من كل جوانب العالم الإسلامي. والواقع أن كراهية تعدد الزوجات وشعور الناس بضرره من الوجهة الاجتماعية إن لم يكن من الوجهة الأدبية قد أخذًا بالمسلمين في الهند إلى نزع هذه العادة من بينهم، وأصبحت الشروط التي اتفق الناس هناك على وضعها في عقود الزواج أنه لا يصح الاقتران بأخرى مع وجود الزوجة الأولى، وعلى ذلك ترى أن ٩٥ في المائة من مسلمي الهند يقتصرون اليوم على التزوج بواحدة، وفي بلاد فارس لا يتعدى المتزوجون بأكثر من امرأة اثنين في المائة، وإن أملنا وطيد في أن علماء المسلمين يجتمعون في مؤتمر ديني ليقرروا فيما بينهم قاعدة منع تعدد الزوجات. اهـ. (المنار) بيَّنَّا - من قبل - أن تعدد الزوجات خلاف الأصل في نظام الفطرة والشرع ولكن قد يحتاج إليه فإذا قل الرجال في بلد أو بلاد بالحروب أو المهاجرة فقد يكون من مصلحة النساء أولا، والهيئة الاجتماعية ثانيا أن يتزوج الأغنياء الفضلاء القادرون على الاتفاق والعدل بين النساء أكثر من واحدة لتقليل شقائهن وصيانتهن من الفسق ولتكثير نسل الأمة، وقد يقع مثل هذه الضرورة لبعض الأفراد، فأكمل الشرائع في هذه المسألة هي الشريعة الإسلامية التي تتسع لإباحة هذا الأمر عند الحاجة إليه ومنعه عند توقع المفسدة منه. وقد ضيقت في شروطه بحيث تتعذر في حال الضرورة وإقامة المصلحة دون مجرد التمتع، وأمثل طرق المنع الاشتراط في العقد على الأولى أن لا يتزوج عليها، وهو شرط يبيحه بعض الفقهاء ويدل عليه الحديث الصحيح، وللحاكم المسلم أن يمنع المباح الذي تخشى مفسدته.