للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
التربية بالمعاينة
يوم ١٢ يونية سنة - ١٨٦
مدينة ليما في نظري كثيرة الشبه جدًّا بإحدى مدن أوربا. وإن الأوربي الذي
يسافر من بلده إلى الجانب الآخر من الدنيا فيقطع في ذلك خمسة آلاف وخمسمائة
وتسعة وثمانين ميلاً إنكليزيًّا ليستحق أن يلاقي بعد هذا السفر مَن تركهم هناك
من اليسوعيين والمحتالين والبغايا والراهبات ومعاهد الفجور.
في تلك المدينة شوارع لها من الرونق ما يناسبها، وفيها ميدان أنيق يدعى
(بالبلازاماير) في وسطه بركة فخيمة من البرنز ينبثق منها الماء في ثلاثة أحواض
على أن هناك جدولاً يخترق المدينة أُفضله كثيرًا على ذلك العمل الفني , وهذا
الجدول المسمى (بالريماق) يأخذ مياهه من مثالج جبال القورديير وبعد أن يجري
ثلاثين فرسخًا يصل إلى ليما فيقسهما إلى قسمين متساويين تقريبًا , ولست أدري
أضلال أم حق أن أحس ببرودة مياهه إذا غمست إصبعي فيها كأن ماء الثلوج لم
يمهله اندفاعه أن يسخن بحرارة الشمس.
ليست الحرارة في تلك الجهة من الشدة بالمقدار الذي قد يتوهم مع كونها لا
تبعد عن خط الاستواء إلا عشر درجات، وتعلل هذه الحالة بعلل مختلفة غير أن
أخصها وضع المدينة؛ فإن المحيط الهادي يكنفها من أحد جانبيها ويكنفها من الجانب
الآخر جبال القورديير القائمة شرقيها مكللة بالثلوج الدائمة وفي ذلك ما يساعد بلا
ريب على ترطيب الجو، وبينها وبين البحر والجبال منطقة مزدوجة تمنطق بها
الساحل لتقيه شدة الحرارة.
الذي يدهش (أميل) و (لولا) كثيرًا هو أننا بحسب منزلة الشمس الآن في
فصل الشتاء مع أننا في شهر يونية على أن الحق أن لا شتاء في بلاد البيرو، فإن
السنة فيها تنقسم إلى فصلين: فصل الرطوبة وفصل الجفاف، ففصل الرطوبة يبتدئ
من شهر أبريل ويستمر إلى أكتوبر، وفيه يغشى المدينة ضباب ثقيل فاتر يسميه أهل
البلاد بالغروي وقد يبلغ أحيانًا من الكثافة والإسفاف (الدنو من الأرض) خصوصًا
في الغداة حدًّا لا نكاد نرى فيه ما هو شديد القرب منا من الأشياء , ويقال: إن هذا
الحجاب يتمزق في شهر أكتوبر أو نوفمبر فترتفع فيه السماء سنجابية اللون ولا
يلبث الطل أن يتلاشى بحرارة أشعة الشمس النفاذة وحينئذ يبتدئ فصل الجفاف أي
الصيف.
لا ينبغي أن يفهم من قولنا فصل الرطوبة، الفصل الممطر , فإنه قد يمضي
قرن ولا تسقط على طول هذا الساحل كله قطرة من مطر. عرفت ذلك لأني منذ
بضعة أيام كنت أسأل شيخًا من هذه البلاد هل تذكر أنك شهدت مطرًا في حياتك؟
فكان جوابه لي (قط) . فسألته عن عمره , فقال: إنه ثمانون سنة.
الضباب ندى يحيل التراب إلى وحل ويكفي لإخصاب الأرض هنا إخصابًا
متوسطًا على أنه يوجد في أماكن أخرى من بلاد البيرو وديان ورُبى قريبة من
الجبال ينزل فيها من السماء سيول حقيقية؛ إذا أصابت الرمال القحلة أصبحت عما
قليل حافلة بالنبات , فالأرض لا تسأل السماء إلا أن تتصدق عليها بالماء.
فصل الجفاف بالضرورة أشد الفصلين حرارة على أن الناس هنا يؤكدون لي
أنهم يجدون مبردًا بما يهب من نسيمي البر والبحر , فكأن هذين النسيمين يقتسمان
اليوم بينهما فيهب نسيم البحر في الجملة حوالي الساعة العاشرة من الغداة , ويستمر
على هبوبه متراوحًا بين الشدة واللين إلى غروب الشمس , ثم يركد ويستتب الكون
فإذا كانت الساعة الثامنة أو التاسعة من العشي جاء دور نسيم البر الذي يهب من
الجبال فيبقى على هبوبه إلى الغداة.
سكان ليما في رأيي أشد ما فيها غرابة وأدعاه إلى المراقبة، فلا أظن أنه يوجد
في سكان بقعة أخرى من بقاع الأرض ما يوجد في ملامح وجوههم من الاختلاف
العظيم وفي ألوان جلودهم من الفروق الدقيقة الواضحة؛ ذلك بأنهم أخلاط من سلالة
المستعمرين (وأعني بهم الأشخاص المولودين في أمريكا ممن هاجروا إليها من
الدنيا القديمة خصوصًا أعقاب البيوت الأسبانيولية العتيقة) ومن الهنود والزنوج
والخلاسيين [١] وغيرهم من الأصناف فترى من ألوان وجوههم كلما ثقفتهم الأبيض
الشاحب والأصفر النحاسي والأسود الكهوفي وما يتخللهما من ضروب الاختلاف
الصغيرة المتولدة من اشتباك الأرحام واختلاط الأنساب , وإني إذا اعتبرت في
الحكم عليهم ما قام بنفسي من آثار الانفعال برؤيتهم لأول مرة؛ حكمت بأنهم
متشابكون بالأرواح كما تشابكوا بالأشباح.
تمتاز النساء البيض والخلاسيات عن غيرهن بعينين نجلاوين سوداوين
تتوقدان ذكاءً، وشعور طويلة غدائرها الثقيلة مرسلة , ولون تقاوم وضاحته الفطرية
حدة الشمس , وأنف مع خلوه من شبه الأنوف اليونانية لا يعوزه شيء من القنا [٢] ,
وفم مزدان بالثنايا الجميلة على ما قد يكون فيه من السعة أحيانًا , وقامة وسيطة
معتدلة , وقدمان بلغا من الصغر حدًّا يدعو إلى العجب , ويدين صيغتا صياغة دقيقة ,
وجملة القول في وصفهن أن صورتهن هي صورة (لولا) إذا كبرت.
أنا لا أعلم إلى الآن شيئًا من أخلاقهن اللهم إلا ما ظهر لي من أنهن (أعني
الغنيات منهن) يقضين أوقاتهن بين الزهور والعطور والأقراص العطرية
والمربيات والحلاوى , ولئن اعتمدت في الحكم عليهن على ما أسمعه عنهن ممن
يحتفُّون بي لقلت: إنهن يقسمن وقتهن بين دسائس العشق وشعائر العبادة , ولا
إخال أحدًا لا يدهش إذا علم أن الأديار والكنائس تشغل من المدينة ربعها. مما أكده
لي أهل ليما أن الرجال منهم شديدو الغيرة على نسائهم , ولكني لا أعتقد في شيء
مما يقولون فإنهم لو كانوا كذلك حقيقة لما أباحوا لهن الذهاب للاعتراف في أغلب
الأوقات. اهـ
يوم ٣٠ يونيه سنة - ١٨٦
ما لبثت مذ وصلنا الي ليما أن التزمت الاشتغال بمصالح (دولوريس) وأول
شيء رأيت من الواجب البداءة به في السبيل أن أجمع تفاصيل ما يعلمه الناس من
الأخبار الموثوق بها في شأن مولدها ووالديها ودونك بالإيجاز نتيجة ما هدتني إليه
أبحاثي:
أما والدها فهو من بيت أسبانيولي , كان رحل إلى بلاد البيرو واستوطنها بعد
الفتح بزمن يسير , وأما والدتها فكانت من النساء ذوات اللون ويعني بهن
الخلاسيات بحسب اصطلاح الناس هنا , وكانت مع احتواء عروقها علي شيء من
الدم الهندي لا يتأتى لعين غير عين المستعمر الخالص الغيور أن تكتشف فيها بقايا
سمات صنفها التي انمحى أكثر من ثلاثة أرباعها , فإنه لا قدرة لغير المستعمرين
علي أن يميزوا في الذات الجميلة لأول نظرة إليها ما يسميه الإنكليز بأثر ظلف
الشيطان المشقوق فهم يلتمسون هذا الأثر حتى في شكل الأظافر.
ويحق أن تعلم أنه مع خضوع هذه البلاد للحكومة الجمهورية , ومع تشابك
الأجيال فيها لا يزال بعض البيوتات الأسبانيولية يرون من الامتياز أن يثبتوا
صراحة أنسابهم ونقاوتها من الاختلاط , وأن يحرصوا علي بقائها كذلك فإن هذا في
رأيهم شارة من شارات الشرف وفي رأى غيرهم والحق يقال نعمة يحسدونهم عليها
يدلك عليه أن الخلاسيين في الطبقة الخامسة بل وفي الطبقة السادسة يدعوهم عجبهم
إلى التألم من أن يعرفهم الناس بهذه الصفة حتى إنهم ليبذلون كل ما يملكون لو
ضمن لهم الانفكاك من أماراتها التي مع نهايتها في الخفاء وقرب تلاشيها تنم على
خسة أصلهم كما تقرر في الآراء والأفكار.
ذلك ما حدا بي إلى أن أحدث نفسي غالبًا بأن معيشة الناس مجتمعين ربما
كانت في بدايتها مؤسسة علي حاجتهم إلى احتقار بعضهم بعضًا.
ومهما يكن من الأمر فقد كان زواج ذلك الأسبانيولي الحر بتلك الخلاسية
معتبرًا عند كل أهل بيته من سوء الحظ لأنهم كان قد علق بأذهانهم خزعبلات
متعلقة بالجيل الأحمر , ورسخت فيها شديد الرسوخ , وكانوا يرفعون عقيرتهم
افتخارًا بأنهم لا ينفكون عن تخير الأمهات. ولا أدري إن كان هذا من أسباب
الفرقة التي حصلت بين الزوجين فيما بعد. غير أنه قد عرف أن اقترانهما لم يقرن
بالهناء والغبطة فقد ماتت الفتاة الخلاسية في السابعة عشرة من عمرها بعد أن
وضعت بنتًا.
لم يطوح والد (لولا) بنفسه في الأعمال البحرية تطويحًا كليًّا إلا من بعد
تأيمه , وكانت السفينة التي غرقت به حيال سواحل ينزانس ملكًا له , وقد أجمع
الناس على أنه كان كثير الفخر ببنته , وأنه لعزمه على تربيتها تربية أعلى من
التربية التي ينشأ عليها أغلب النساء في ليما حملها معه ليضعها في إحدى مدارس
لوندره الداخلية.
كان يحب هذه الطفلة , وفي هذا أقوى موجب للظن بأنه هو الذي علقها بمزيد
الاحتراس والعناية في أدوات السفينة قبل أن تغتاله الأمواج.
بلغ خبر الغرق ما وراء البحار , غير أنه شاع أيضًا في ليما أن هذه المصيبة
شملت الرجل وبنته , فلا شك أن ما أرسلته أنا وهيلانة من الرسائل إعلامًا بنجدة
(لولا) ومطالبة بحقوقها قد حجزها مَن لهم مصلحة في إعدامها.
ما نجا من الغرق إلا ملاح واحد لم يرجع بعده إلى ليما قط لسبب لا أعلمه ,
فلم يتيسر له أن يكذِّب ما أذيع هناك عمدًا من الروايات الموضوعة.
لما وصلنا إلى ليما عرفت (لولا) بلادها إن لم أكن واهمًا من خلال ما
حفظته ذا كرتها من آثارها في الصغر , غير أن هذه البلاد لم تعرفها قط فقد كان
من عرفتهم بها من آل بيتها يتظاهرون بالريبة فيها , فيقولون: نعم إنهم كانوا
سمعوا بسفان غرق في البحر وبأنه عمهم أو ابن عمهم , ولكن ما الدليل علي أن
تلك الفتاة التي عرفتهم بها بنته فإنهم كانوا محقين كل الحق أن يعتقدوا موتها ,
وأما ما قدمته لهم من الأوراق الدالة علي ثبوت نسبها له فكانوا يتعللون عليها بأنها
مكتوبة بالإنكليزية وهم لا يفهمونها , بل إنهم ما كانوا يريدون أن يتكلفوا قراءتها.
ذلك ما اضطرني إلى أن أقصد العارفين بالقانون فكان رأيهم في القضية أنها
من القضايا المعضلة المرتبكة وأنها تقتضي فراغًا وإتلاف تقود وعبثًا كثيرًا من
عبث المحاماة , وأنت تعلم حالة القضاء في بلادنا , وهو في بلاد البيرو أدنى منه
إلى الطفولية.
عمال الحكومة الذين سألتهم في هذا الموضوع - وإن كان أغلبهم ينتمي إلى
بيت والد الفتاة - متفقون على أنه ترك بعض المال غير أنهم يقولون - وفي قولهم
أمارات الريبة -: إن جل هذا المال ضاع في سداد ديون المتوفى.
والذي ظهر لي أشد الظهور أن المضي في هذه القضية يجر إلي تشويش كثير
من المصالح الخاصة التي لا شك في أنها اتسعت بمصيبة السفان.
تلك هي حالة الأمور. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))