في ليالي رمضان وأيام عيد الفطر، تيسر لي أن أعرف من آراء أهل العلم والرأي بمصر في المسألة العربية، واستقلال الشريف أمير مكة في الحجاز ما لم يكن يتيسر في وقت آخر من السنة، لكثرة التزاور في هذه الليالي والأيام، وتوسّع الناس فيها بالكلام كتوسعهم بالطعام، وقد جرت فيما بيننا وبين كثير من أساتذة الأزهر والمدارس العليا وكبار القضاة والمحامين والأطباء، وغيرهم من أهل الرأي مذاكرات، ومحاورات طويلة في هذه المسألة جديرة بأن تنشر وتدون؛ لأنها ربما كانت أهم مسائلنا الحاضرة، ووقائع تاريخنا التي نحفظها لأعقابنا الآتية، فرأينا أن ننشر في المنار أطول محاورة منها وأجمعها للمقاصد، ثم نلخص في الخاتمة صفوة الآراء كلها، وبذلك تتم الفائدة من تلك الأحاديث بغير تكرار ولا عبث، وهذه المحاورة كانت بيننا وبين أستاذ معروف باعتدال الفكر واستقلال الرأي؛ وقد وقعت في اليوم الثاني بعد عيد الفطر، وها هي ذي - ونعبر عن الأستاذ بحرف (ذ) وعن نفسنا بحرف (د) . ذ - ما رأي الأستاذ في استقلال الشريف أمير مكة بالحجاز، فإني رأيت كثيرًا من إخواننا، ومعارفنا لا يعد ذلك أمرًا ذا بال، ومنهم من لم يصدق أخبار الجرائد، حتى إن أخانا الشيخ (أ) قال لي في إحدى ليالي رمضان عقب نشر البلاغ الرسمي عن استقلال الشريف: إنه لا يعرف أحدًا صدق هذا الخبر من قبل، أو؛ لأنه هو لم يصدقه أيضًا إلا بعد نشر البلاغ الرسمي. وإن من الناس من لا يصدق البلاغ الرسمي نفسه! وما أظن أن الأستاذ على رأي هؤلاء، ولا أنك تقول: إن هذا الأمر ليس بذي بال. د- صدقت، إن هذا الأمر لذو بال، وإنه قد شغل مني البال، وهيج البلبال. وإنني مخالف لهؤلاء الناس الذين أصبحوا لا يهتمون بشيء من الأشياء، ولا يصدقون من الأنباء إلا ما يلذ لهم، ولا يقبلون من الآراء إلا ما يوافق أهواءهم؛ ولذلك راج بينهم رأي تلقوه بالقبول، وهو أن الشريف لم يعلن الاستقلال إلا لضرورة إنقاذ البلاد من المجاعة، التي أوقعها فيها الحصر البحري أو كاد؛ فقد امتنع بذلك وصول الأقوات إليها من مصر والسودان والهند، وجل قوتها من هذه البلاد، حتى قيل: إن إردب القمح صار في مكة ببضعة جنيهات، فعذر الشريف في إظهار دعوى الاستقلال جلي ظاهر؛ وهو لا يزال مخلصًا للحكومة التركية في الباطن، وليس له غرض في إيجاد حكومة عربية، ولا طمع في خلافة قرشية، ولولا ذلك لقاتلته الدولة، هذا هو الرأي الرائج في البلد. أما أنا فلا أجزم بقبول هذا الرأي ولا برده، وإن كان معقولاً في نفسه؛ لأني أعلم أنه قد وجد في عالم السياسة مسألة تسمى المسألة العربية، ولكن لم أقف على كنهها، ومبلغ قوتها، ولا على مكانها من الشريف، ومكان التشريع منها، وأعلم أيضًا أن الحجاز ليس فيه الاستعداد المطلوب لإنشاء دولة، ولا القوة التي يتوقف عليها استقلال الخلافة، وحياة أهله موقوفة على الدولة التي تملك التصرف في البحار، والدولة ذات السيادة على بلاد الشام، فإذا مُنع عنه القوت من هنا وهناك مات أهله جوعًا، ثم إن المشهور أن أمراء جزيرة العرب وزعماءها متحاسدون متباغضون {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} (الحشر: ١٤) ولولا سيطرة الدولة العثمانية عليهم لأفنى بعضهم بعضًا. والشريف - إذا كان يأمن بطش الدولة الآن، فهو لا يجهل أنها إذا بقي لها استقلالها بعد هذه الحرب أمكنها الانتقام منه، وإزالة إمارة الحجاز، وجعلها ولاية عثمانية محضة. وإذا زال استقلالها، وفرضنا أنه أمن على استقلاله من صاحب عسير وصاحب نجد فإنه ليس بالذي يكون الملك المستقل الذي يطلبه العرب، ولا بالذي يجدد الخلافة الإسلامية التي يحرص على استقلالها جميع مسلمي الأرض؛ لأن الاستقلال بأمر الملك والخلافة يتوقف على الثروة والقوة، وأين هما من الحجاز وأين الحجاز منها؟ فلهذه الأفكار تراني مضطربًا في هذه المسألة، وأنا أعلم أن عند (السيد) من أخبار هذه المسألة والاختبار فيها ما ليس عندي، ولا عند أحد من المصريين، فهو أعلم منا بشئون جزيرة العرب وشئون أمرائها، وأعلم منا بظاهر الحركة العربية، وباطنها وأحوال أحزابها وجمعياتها. كما أنه أوسع منا علمًا بأحوال الدولة العلية، وأوسع اختبارًا لها وأكثر تتبعًا لما يتجدد من أخبارها، يعترف له بهذا من يقرأ بروية وإمعان ما يكتبه في هذه المسائل في مجلته، وإنني أود أن أقف على ما عنده في مسألة الحجاز من رأي ورواية بالتفصيل، وقد تعرضت لهذا غير مرة فلم تكن حالة المجلس أو الوقت مما يسمح للسيد بالإفاضة في ذلك؛ فعسى أن نستفيد الآن ما فاتنا من قبل. د - لم أنس أن باب الحديث في هذه المسألة قد فتح بيننا مرتين قبل هذه المرة، فكان الكلام فيها وجيزًا لضيق وقته، على أن الحديث شجون، والإنسان يتذكر في وقت ما ينساه في آخر، فإذا ذكره محدثه تذكر، وإنني لا أبخل على الأستاذ بما عندي في هذه المسألة من رأي أو خير أرى فيهما فائدة له، فإذا حدثته بشيء لم يره كافيًا فله أن يستزيدني من الحديث بالسؤال عما يريد منه، ولا بأس بإعادة شيء مما كنا ألهمنا به من قبل؛ وأبدأ ببيان ما عندي في مسألة استقلال الشريف فأقول: إن الشريف لم يدَّع ملكًا ولا خلافة، فلا كلام لنا في ذلك، وما ذكرته لي من الرأي الذي دار بين كثير من المصريين في سبب استقلاله في الحجاز وتلقوه بالقبول، قد سمعته من غيرك أيضًا. وهو رأي - كما قلت - معقول، وعذر الشريف فيه مقبول، ولا سيما إن كان الاستقلال صوريًّا كما تظنون، فإنه مسئول عند الله، وعند الناس عن إنقاذ سكان حرم الله - تعالى - وحرم رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الهلاك، وإزالة الموانع التي منعت أكثر المسلمين من الحج إلى بيت الله الحرام، ولا سبيل إلى هذا وذاك إلا بإزالة الحصر البحري عن ثغور الحجاز، الذي كان سببه وجود الجنود التركية فيها، فإن دولة إنكلترا كانت صرحت باستثناء سواحل الحجاز من الحصر البحري الذي ضربته على جميع السواحل العثمانية؛ وسمحت بنقل الأقوات من الهند، وغيرها إلى تلك البلاد المقدسة , ثم إنها لما علمت بإرسال أنور باشا لكثير من الجنود التركية إلى الحجاز منعت إرسال الأقوات إليه؛ لأن الجنود يستفيدون منها، وقد كان من المستغرب تموينها لبعض بلاد أعدائها، ولكن تموينها لجيوشها غير معقول، وإنما المعقول ضده، ولولا احترامها للبلاد المقدسة لضربت سواحلها بمدافع أسطولها ولجعلتها من ميادين الحرب أيضًا، ولكن إزالة الشريف أمير مكة للسبب الذي أوجب الحصر، ومنع القوت والحج، مناوأة للدولة التركية أو الاتحادية؛ لأنه تصدٍ لقتال جنودها، ورفع سيادتها عن البلاد التي هو أميرها. فالشريف قد اضطر إلى الاستقلال بالأمر في الحجاز ونبذ سيادة هذه الحكومة الاتحادية ظهريًا، ونحن نخالف مَن يرى أن هذا الاستقلال صوري وأنه كان بالتواطؤ بينه وبين الدولة، ومن يرى أنه لا يزال مخلصًا لهذه الحكومة، وأنها هي راضية عن فعله وعاذرة له فيه؛ لأننا نعلم أن إزالة منع القوت ومنع الحج ليس هو الباعث على هذا الاستقلال، ولكنه من لوازمه، وهنالك بواعث وأسباب أخرى له سنلم بها في حديث. ذ - إذاً لماذا لم تجرد الدولة جيشًا لقتاله؟ ولماذا حاصر هو الجيش التركي حصارًا، ولم يناجزه القتال؟ د - أما الشريف فيمنعه دينه من الإقدام على سفك الدم في أرض الحرمين الشريفين من غير ضرورة ملجئة لا مندوحة عنها، وأما الدولة فالمانع لها من إرسال جيش جديد لقتاله، إما العجز وإما العقل. أما العجز فهو الآن غير بعيد؛ لأن جنود الدولة متفرقون في عدة ميادين من أوربة وعدة ميادين في الأناضول وإيران والعراق وسورية وسيناء فهي لا تستغني عن جيش كبير يصلح ما عطل من سكة حديد الحجاز، ويبقى قسم منه في مواضع متفرقة من الطريق لحمايتها، ويسير قسم منه لإنقاذ حامية المدينة، ثم الزحف منها إلى مكة مع حفظ طرق مواصلاته من مركز تموينه وإمداده في الشام إلى مكة. وأما العقل فيقتضي عدم التصدي لقتال الشريف الآن، حتى في حال القدرة وانتفاء العجز؛ لأن قتاله يُضعِف الدولة في الميادين الأخرى، وربما يستتبع خروج عرب الجزيرة كلهم أو جلهم عليها، فيتسع الخرق على الراقع والسكوت عنه لا يضر الدولة الآن، فإن انتهت الحرب بظَفَرها مع أحلافها، أمكنها أن تتصرف في الحجاز بما تشاء، وإن انكسرت مع أحلافها فلا معنى لاهتمامها بأمر استقلال الحجاز، يفرق المنتصرون حينئذ شمل وحدتها، ويخشى أن يزيلوا ما كان من استقلالها، بل المعقول أن يتمنى كل مسلم من تُرك الدولة كعربها أن تسلم بلاد الحجاز، وسائر بلاد العرب في أيدي الاتحاديين لرجحنا أن العقل يمنعها من قتال الشريف إن لم يمنعها العجز. وأما الاتحاديون فقد جعلوا من أصول سياستهم إضعاف العرب حتى لا يكون لهم حقوق مع الدولة إن بقيت، ولا استعداد للاستقلال بأنفسهم إن سقطت؛ ولسان حالهم مع العرب في هذه الحالة يقول: اقتلوني ومالكًا ... واقتلوا مالكًا معي وقد سمع من أفواههم كثير من طلاب الإصلاح من العرب ما يدل على مثل هذا من مقاصدهم عندما كانوا يتكلمون معهم في حقوق العرب في الدولة وفي أحوال أخرى، ألا ترى أنهم اتخذوا حالة الحرب ذريعة لتنفيذ مقاصدهم في العرب؟ فكان المعقول أن يثبتوا لعرب الولايات صدق وُعودهم بالإصلاح ويفوا لهم بعهودهم التي عقدوها مع السيد الزهراوي عقب عقد المؤتمر العربي، ويزيدوهم على ذلك من الإصلاحات الداخلية ما يملكون به قلوبهم كما ملكوا أبدانهم وأموالهم، فاستعملوها في هذه الحر ب كما شاءوا وفي أمثالنا العربية (عند الشدائد تذهب الأحقاد) ولكن أمثالها لا تصدق على طباعهم وأخلاقهم، بل تضادها وتناقضها، فالشدائد كانت عندهم مظهرة للأحقاد في أقبح مظاهرها وأشنع مناظرها، فبعد أن جنّدوا جميع شبان سورية والعراق وفرقوهم في الميادين البعيدة عن بلادهم كالدردنيل والبلقان والأناضول. وبعد أن صادروا الأموال والغلال في تلك البلاد، طفقوا يقتلون أولي العلم والعرفان وكبار الضباط، وسائر أرباب العقول والأفكار في كل من القطرين) السوري والعراقي (وينفون الكبراء والأغنياء، ويستولون على ديارهم وأموالهم. وبعد أن رأوا مأربهم هذا قد تحقق بغير معارضة ولا مقاومة ولَّوْا وجوههم شَطر الحجاز، لا لأجل الصلاة إلى المسجد الحرام، ولا لأجل الطواف بين الرُّكن والمقام، فإنهم لم يكونوا من الطائفين ولا المصلين، ولكن ليفعلوا في الحجاز ما فعلوا في العراق والشام، حتى إذا تم لهم هذا الأرب، أجهزوا على بقية جزيرة العرب. ذ - إني أعلم أن السيد سيئ الاعتقاد في دين هؤلاء الاتحاديين، وفي سياستهم، وقد قرأت كل ما كتبه في السنين الخالية عنهم، ولكنني رأيته قد سكت عن ذلك الطعن الشديد فيهم بعد حرب البلقان، ثم تنسمت عطفه عليهم من بعض ما كتبه قبيل دخولهم هذه الحرب وفي أثنائها، وكنت أظن أنه كجمهور المصريين لم يصدق أخبار المقطم والأهرام، عن فظائع جمال باشا في بلاد الشام، حتى قرأت المقالة التي نشرتموها في الشهر الماضي، فعلمت أنكم مصدقون لتلك الأخبار، وتتوقعون أن يكون لها تأثير سيئ في الحجاز، وسائر جزيرة العرب. د - نعم: إنني تركت تلك الحملات على الاتحاديين بعد حرب البلقان، وفي أثناء هذه الحرب؛ لأن الحملة عليهم تعد حملة على الدولة، ولا ينبغي ذلك في أثناء الحرب، وإن كان بِنية صالحة، وبقصد الإصلاح كما بينت ذلك في المقالة التي نصحت بها بمثل هذا لمسلمي سورية قبيل دخول الدولة في الحرب، ثم إنني صدقت ما أتوه من التنكيل بالعرب في الشام؛ لأنه ثبت عندي بالتواتر، فكتبت تلك المقالة، وأطلعت عليها بعض إخواننا قبل أن تجيئنا البرقيات بنبأ استقلال الشريف، وإن نشرت بعد ذلك، ثم علمت بعد نشرها أن أنور باشا ما زار سورية والحجاز في أوائل هذا العام إلا ليتولى بنفسه إرسال الجند والسلاح إلى الحجاز للقضاء على سلطة الشرفاء فيه. وإن قيل: إنه جاء بصنيعة جمعيته الشريف علي حيدر من الأستانة إلى الشام أو المدينة ليجعله خلفًا للشريف حسين أو أميرًا للحجاز في المدينة، فإذا هذا الخبر، فالغرض الصحيح منه أن يضربوا الحديد بالحديد لما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي يطلبونها، فإذا أمكن للشريف حيدر وأخيه الشريف جعفر أن يؤلبا بعض عرب الحجاز على الشريف حسين بمال الدولة الذي يؤيدان به نفوذهما، سهل على قائد الجنود التركية بعد إضعاف عرب الحجاز أن يستبد بالنفوذ في الحجاز من غير خسارة تذكر ولا صيت قبيح ينشر، ثم إنهم بعد الفتك بالشريف حسين، وأولاده يفتكون بالشريفين حيدر وجعفر، كما فتكوا بصديقي الشريف حيدر (عبد الكريم قاسم الخليل والسيد الزهراوي) بالمجيء من باريس إلى الأستانة بعد أن أنذر المرة بعد المرة، بأن في ذهابه إليها خطرًا على حياته، ولم يكن الشريف ضامنًا له الأمن على حياته فقط، بل كان ضامنًا له الإصلاح الذي وعد به الاتحاديون وأكثر مما وعدوا، وقد رغب إلي هو وعبد الكريم أن أكتب إلى الشريف حيدر كتاب شكر لحُسن سعيه في هذا السبيل. إنني على ما أعلم من سوء نية الاتحاديين، وخبث ما أضمروه للعرب قد كنت أحسنت الظن بأنور باشا عند ما جاءنا المقطم بخبر زيارته لسورية والمدينة المنورة، ولعل الأستاذ يتذكر أنني قلت له حينئذ: إن أنور باشا ما جاء سورية وفلسطين والمدينة إلا ليصلح ما أفسده جمال باشا حتى لا يصل سوء تأثيره إلى جزيرة العرب، وليستعين بعرب الحجاز وغيرهم على هذه الحرب، فإن أنور باشا هو الذي تولى في أول هذه الأزمة استمالة عرب الجزيرة بما كتبه إلى أمرائهم وزعمائهم من المكتوبات العربية المزينة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقد اطلعت على صور بعض هذه المكتوبات العامة والخاصة، ومنها الكتاب الذي حمله رسول خاص إلى عدوهم الذي لم يعترفوا له بصفة رسمية قط -أعني السيد الإدريسي - وهو يعظمه فيه ويبجله، ويظهر الثقة به. ثم علمت في هذه الأيام أنه كان طلب من الشريف أمير مكة المكرمة نجدة عربية لمساعدة حملة سيناء على مصر، وأن الشريف أرسل الحملة إلى المدينة المنورة، وهي التي تحاصرها الآن، فإن الشريف لما رأى الجنود التركية ترسل إلى الحجاز بعشرات الألوف، وتوزع في مدنها وثغورها، وهو يعلم كما نعلم وتعلم الدولة أن الحجاز ليس عليه أدنى خوف من الدول الأوروبية، فلم يبق لإرسال الجنود إليه سبب يُعقل -والدولة في أشد الحاجة إلى الجنود - إلا التنكيل بعربه والفتك بشرفائه إتمامًا لبرنامج جمعية الاتحاد والترقي الذي يعرفه الشريف كما نعرفه، وقد كانوا حاولوا البدء بالشريف قبل هذه الحرب؛ إذ أرسلوا الضابط وهيب بك أحد غلاتهم المتحمسين خفية إلى الحجاز، وبعد وصوله إلى مكة أظهر التقليد الرسمي الذي معه بولاية الحجاز، وقيادة حاميتها، وكان من أمر خذلان عسكره في التحرش بقتال العرب ومحاولة الفتك بالشريف ما هو مشهور؛ فلهذا تحولت الحملة الحجازية التي ألفت إجابة لطلب أنور باشا للقتال مع جنوده في سيناء إلى حملة تحاصر جنوده في المدينة المنورة، وتقاتلهم إذا قاتلوها. ذ - إذا كان الشريف عالمًا من قبل بما تضمره جمعية الاتحاد والترقي للعرب عامة، وله ولأهل بيته خاصة، فلماذا كان ينصر الاتحاديين حتى إنه حارب السيد الإدريسي لأجلهم، وكاد يحارب أمير نجد ابن السعود كذلك. د - لا أدري متى عرف ذلك معرفة لا تحتمل التأويل، وقد كان أولاً يتأول للاتحاديين، ويرجو صلاحهم حتى كان بعض رجال النهضة العربي يتهمونه بمشايعتهم وبكراهة السيد الإدريسي أن يكون ذا سلطة في عسير، وينقل عنه، وعن أهل بيته أنهم يقولون: إنهم لا يؤيدون الاتحاديين فيما تقوم به جمعيتهم من الأعمال، وإنما يؤيدون الدولة نفسها فيما تقرره ويرون أن الاعتصام بها، وإن جارت على العرب، وغيرهم أرجح من مقاومتها، ولو سرًّا لئلا تفضي المقاومة إلى التفرق الذي يضيع به العرب مع الترك، وإن الطريقة المثلى لتلافي ما يرى ضارًا من أعمالها، إنما هي طريقة السعي لديها والاجتهاد في إقناعها بضرر الضار ونفع النافع، وهذا الرأي والمسلك لم يكن مرضيًا عند الأحزاب السياسية العربية من كل وجه، بل كانوا يرون أنه كان يجب أن يكون الشريف أمير مكة مخلصًا للدولة ومؤيدًا لها فيما صار في حيز الأمور التنفيذية فقط إلا قتال العرب. وأما ما لم يصل إلى حيز التنفيذ فينبغي أن يكون حزبه فيه معارضًا لحزب الاتحاديين بعد ظهور عصبيتهم الجنسية وظلمهم للعرب، ولكن نجله مبعوث مكة المكرمة كان مع سائر مبعوثي الحجاز من الاتحاديين، وكذلك أخوه الشريف ناصر العضو في مجلس الأعيان من حزبهم ولم يغن كل هذا شيئًا، ولا صد الاتحاديين عن محاولة تنفيذ ما كانوا يضمرون للشريف الأكبر وأهل بيته، وإنما يكرهون هذا الشريف وأولاده؛ لأن لهم من النفوذ في عرب الحجاز ما ليس لغيرهم من الشرفاء. قلت آنفًا: إننا لا ندري متى عرف الشريف الأكبر حقيقة حالهم، ويئس من صلاحهم؟ وقد ظهر لنا أنه يئس من بقاء الدولة العثمانية أيضًا، ولعله لولا هذا اليأس ما نهض بهذا الأمر. ذ - إن من الناس من يرى أن الدولة ما سلمت من خطر اليأس، وعظم الرجاء فيها إلا بدخولها في هذه الحرب؛ إذ صارت به ركنًا من أركان أحد الحِلفين العظيمين الذيْن تتألف منهما الدول الأوروبية الكبرى، ومشايعاتها من الدول الصغرى، وقد نقل إلينا (المقطم) أن من شروط محالفتها لألمانية أن لا تقبل هذه صلحًا إلا بشرط حفظ استقلالها، والصلح لا بد فيه من رضاء الفريقين، وإن كان أحدهما مغلوبًا، فاستقلال الدولة العلية مضمون على كل حال؛ فكيف يعقل أن ييأس منه الشريف، وهو من أركان الدولة الذين هم أعلم منا بحالها وبشروط محالفتها التي منها ما ذكر. د - إذا كان في الناس من يرى أن استقلال الدولة مضمون، وإن غلبت مع أحلافها في هذه الحرب، وكان أعداؤها هم المقررين لشرط الصلح، فإن في الناس من يرى أن هذا الاستقلال قد زال بالفعل، وإن انتصر الألمان مع أحلافهم، وتحكموا في شروط الصلح، أما بقاء استقلال الدولة بعد انكسارها وانكسار أحلافها فغير معقول، وأما الرأي الذي يقابله في الغرابة، وهو زوال استقلالها في حال انتصارها وانتصارهم، فلأصحابه وجه جدير بالتأمل، وهو أن الدولة قد غرقت في بحر لجِّيّ من الديون، وخسرت أكثر الشبان العاملين في المملكة، وأفقرت الأمة كلها بمصادرة أموالها واستنزافها بأسماء متعددة، وكان عجز ميزانيتها قبل حرب البلقان، وهذه الحرب اللتين أفقرتاها وأفقرتا أمتها يسد باقتراض الملايين في كل عام؛ وقد زادت ديونها الآن زيادة كبيرة حتى صار ربا الديون يستغرق معظم الميزانية، التي لا بد أن تنقص عما كانت نقصًا فاحشًا. ومن البديهي أنها لا تجد بعد الحرب من يُقرضها كما كانت تجد قبلها؛ وليس أمامها من الأمم الغنية إلا الأمة الألمانية، وقد ذهبت قروض الحرب لدولتها ودول أحلافها بمعظم ثروتها، فلن تُقرَض دولة وصلت ماليتها إلى حد الإفلاس ما تلم به شعثها إلا إذا جعلت مالية الدولة، وجميع موارد الثروة في المملكة تحت تصرف دولتها، يديرها الألمان الماليون والفنيون. فإذا تدبرنا هذا وعلمنا أيضًا أن الدولة قد جعلت حربيتها وبحريتها في أيدي الألمان، وجعلت تعلم لغتهم إجباريًّا في جميع مدارس المملكة الأميرية وغيرها، وتذكرنا أن الألمان يملكون عشرين كيلو مترًا على جانبي سكة حديد بغداد في خط يمتد من ضفاف البوسفور إلى بغداد، فأي استقلال يكون للدولة بعد قبض الألمان على إدارة المالية والحربية، والمعادن والمناجم مع امتلاك هذه الأراضي الواسعة التي تضاهي مساحة مملكتهم؟ كان لبعض الألمان المقيمين في بلجيكا قبل الحرب ملعب أو ملاعب للكرة يلعب فيها أهل البيت والعيال، فلما اقتحم الجند الألماني بلاد البلجيك المضمون استقلالها منهم، ومن سائر الدول الكبرى ظهر أن ملعب الكرة إنما بُني بطريقة فنية هندسية، ليكون مركزًا للمدافع الضخمة المكتوم خبرها عن غير أركان الحرب من الألمانيين، وأن المسافة بين الملعب، وبين الحصون البلجيكية هي مسافة مرمى تلك المدافع التي دَمرت تلك الحصون. فإذا كنا قد استفدنا من عبر هذه الحرب أن ملعب الكرة لعيال ألماني في زمن السلم كان خطرًا على الدولة التي ملك الألماني في بلادها ذلك الملعب مع أن دولته ضامنة لاستقلالها، فهل نتصور أن تسلم من الخطر دولة يملك الألمان التصرف في جميع قواها المالية والحربية والعلمية والفنية، ويملكون في قلب مملكتها تلك الألوف من الأميال، التي هي محل العمران المنتظر فيها؟ ولدينا عبرة أكبر من هذه العبرة، وهي ما نقله إلينا (المقتطف) في جزء مارس من هذه السنة من مقالة للكونتس ورك (الأميرة الإنكليزية) عنوانها (ملك الإنكليز وإمبراطور الألمان) قالت فيها عن الملك إدوارد ما نصه: (وزارني مرة قبل وفاته بثلاثة أشهر لتناول الشاي عندي؛ وتكلم عن الإدارة الألمانية، فقال: (لو كانت بلادنا تدار كما تدار ألمانية لاستفدنا فائدة كبيرة، ويا حبذا لو حَكَمَنَا الألمان المدة الكافية لإصلاح إدارتنا) ، قال ذلك وصمت قليلاً، ثم قال وهو يضحك: (ولكن المصيبة أنهم إذا أتوا ليحكمونا تعذر علينا الخلاص منهم) وهذا آخر حديث جرى لي معه؛ لأني لم أره بعد ذلك) اهـ واستدلت الأميرة بهذا الحديث على أن الملك لم يكن يضمر العداء لألمانية. وإثبات هذه القضية هو الذي كتبت لأجله المقالة. فإذا كان هذا الملك السياسي العظيم، يقول: إن دولته التي هي أعز الدول وأعظمها دعاءً وتدبيرًا، يتعذر عليها الخلاص من الألمان إذا دخلوا عاصمتها لتنظيم الإدارة، وهي في جزيرة يحميها أقوى أسطول عرفته البحار منذ خلقها الله - تعالى -، فهل يتيسر للدولة العثمانية الضعيفة الخلاص منهم بعدما ذكرنا من تصرفهم المنتظر بعد الحرب إن كان لهم الظفر، وما تصرفهم فيها الآن بقليل؟ هذا وإن علة الحرب الحقيقية هي التنازع الاستعماري، ولم يبق للبلاد القابلة للاستعمار ما يُشبع مطامع ألمانيا، ويتسع مجاله لشعبها الكثير، وفنونها وصناعاتها إلا البلاد العثمانية، وقد كانت دول الأحلاف تعارضها في استعمارها الاقتصادي مع إبقاء الدولة العثمانية على استقلالها السياسي الصوري، فإذا انتصرت في هذه الحرب لم يبق لها معارض من الترك ولا من الأوربيين. ذ- والله إن هذا الكلام معقول في نفسه، ولكن لا يعقل أن يجهله الاتحاديون، فكيف رضوا إذًا بموالاة الألمان؟ أيعقل أن يكون في يد أناس ملك عظيم فيبذلوا دماءهم وأموالهم لأجل إضاعته؟ د- لو كان رجال البيت السلطاني، وكبراء علماء الدولة وسرواتها من قدماء الوزراء والأعيان، هم الذين قرروا بالتشاور بينهم القتال مع ألمانية وتحكيمها في الدولة لكان هذا السؤال أكثر اتجاهًا، والجواب عنه متعسرًا ولا أقول متعذرًا. أما وزعماء الاتحاديين هم القائمون بذلك، وهم أوثاب لا تُعرف لغير الإسرائيلي الأصل منهم أنساب، وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الاستبداد بهذا الملك بمساعدة اليهود الجرمانيين - فالجواب سهل، وللناس فيهم رأيان يؤخذ من كل منهما جواب. *** سبب تسليم الاتحاديين الدولة للألمان (الرأي الأول) : رأي سمع كثيرًا من خصومهم، وهو أنهم جماعة من طلاب المال والثروة، علَّمهم أعلم البشر بطرق تحصيلها -وهم اليهود- كيف يكونون من أغنى أهل العصر بسلب ثروة هذه الدولة، ثم ببيعها لدولة الألمان الغنية؟ ويستشهد أصحاب هذا الرأي على صحته بأنهم لو كانوا يريدون بقاء الدولة وتعزيزها، لبدءوا علمهم فيها بوضع ماليتها على أساس ثابت، يكثر به الدخل، ويقل الخرج، ولو أرادوا ذلك لكانوا أقدر الناس عليه بمساعدة أساتذتهم وإخوانهم من اليهود الأصليين والدونمة (الذين منهم جاويد بك الذي جعلوه ناظر المالية، وفوضوا إليه عقد القروض) ولكنهم اغتنموا فرصة ما سموه (حركة الارتجاع) فعزلوا السلطان عبد الحميد ونهبوا من أمواله وجواهره وتحفه ما تقدر قيمته بالملايين الكثيرة، وقد حدثني الثقات من أهل الأستانة، أنهم كانوا يدخلون قصر (يلدز) فيملئون جيوبهم من تحفه المرصعة بالجواهر، حتى إن بعض ضباطهم رئي بعد امتلاء جيوبه يضع العلب والمسدسات المرصعة، وأمثالها في حذائه الطويل (جزمة السواري) ثم اغتنموا فرصة وصول جيش البلغار إلى شطاجة فسلبوا ما هو أعظم من ذلك من جواهر ملوك آل عثمان وتحفهم المحفوظة في قصر قسطنطين إذ زعموا أنهم إنما يريدون إخراجها من مأمنها، وإرسالها إلى الأناضول لئلا يدخل البلغار الأستانة فيغتنموها، وقد عقدوا القروض بعشرات الملايين، ولهم من كل قرض سمسرة مشهور أمرها، وكثر الكلام في الأستانة فيها، ثم إن ما يصل إلى الخزينة منها يتصرفون فيه بضروب من التصرف منها النفقات السريعة التي لا تذكر في الميزانية، وأعظمها ما يخصص للحربية والداخلية، وهم يشترون السلاح والذخائر والثياب والأحذية للعسكر بثمن، ويقيدونه في دفاتر الحربية بثمن آخر فيربحون من ذلك مبالغ كبيرة. والدليل على هذا أنهم أنفقوا في نِظارة الحربية خمسين مليونًا من الجنيهات قبل حرب البلقان، ثم كان أهم أسباب انكسار جيش الدولة في البلقان قلة الذخائر، وقلة الطعام وسائر ما يتوقف عليه القتال. وقد أذكرتنا مصادرتهم للأمة في هذه الأيام بما كانوا يصادرون به الأغنياء منذ صار أمر الدولة في أيديهم - إذ كانوا يهددون كل غني بالانتقام منه؛ لأنه من الحزب الحميدي الارتجاعي - إلا أن يفتدي نفسه بما يناسب مقدار ثروته (فأخذوا من علي رضا باشا الذي كان ناظر الحربية في العهد الحميدي مئتي ألف ليرة، ومن زهدي باشا ٣٠ أو ٤٠ ألف ليرة وعلى ذلك فَقِسْ) ثم إنهم فوضوا على كل من دخل جمعيتهم دفع اثنين في المئة من جميع دخله، وذلك فوق ما فرضه الله من الزكاة على الأغنياء فيما فضل عن نفقاتهم، وبلغ النصاب وحال عليه الحول. نعم: إن الألوف من الذين انتسبوا إلى الجمعية، كانوا يكتمون عنهم ما يمكن كتمانه من دخلهم، ومما لا يمكن كتمان شيء منه، رواتب موظفي الحكومة، وقد دخل كلهم أو جلهم في الجمعية، وقد باعوا البوسنة والهرسك وطرابلس الغرب بعدة ملايين. فالذين يعرفون سيرتهم هذه بالتفصيل يعتقدون أن زعماء الجمعية، لا هَمَّ لهم من حياتهم إلا جمع الثروة، وهم لا يضمنون بقاء الدولة لهم ولذريتهم من بعدهم؛ فلذلك باعوها للألمان بهذه الصفة التي استعملوا فيها جميع قوى الدولة في قتال أعدائهم، وستكون كذلك في أيدي الألمان إن انتصروا يستعملون نفوذ الاتحاديين، وقوتهم على السلطان ودولته في استعمار المملكة العثمانية، ويؤيدون الاتحاديين على خصومهم السياسيين من الترك والعرب إلى أن تنشب براثنهم في كل شيء، ويستغنون عن الاستفادة من اسم الدولة ونفوذها الديني، ويأمنون معارضة الدولة فيصرحون بإزالة هذا الاستقلال الصوري الخادع. (الرأي الثاني) : رأي أصدقاء الاتحاديين - وهو مبني على رواية لا يكاد يعرفها إلا قليل منهم، سيذكرها في بيان هذا الرأي - وهو أنهم لم يبيعوا المملكة بيعًا، ولم يفرطوا بشيء من حقوقها، وكل ما أخذوه من الأموال للجمعية، قصدوا به أن تكون الجمعية غنية؛ لتتمكن بقوة الثروة من الفوز على خصومها من رجال العهد القديم المحافظين على التقاليد العتيقة المنافية لما يريدون من التجديد المدني للدولة والأمة، وخصومها من الأحزاب السياسية المخالفة لها في مذهبها السياسي والاجتماعي، كتتريك العناصر وغير ذلك، وأما ما أعطي لبعض زعماء الجمعية كالدكتور ناظم وأحمد رضا فهو تعويض عما خسروا في سبيل الجمعية، وما عدا ذلك، كسمسرة القروض والامتيازات فهو قانوني. ولما رأوا أن الدولة ضعيفة فقيرة لا يُرجى أن تنهض بنفسها، والأمة التركية جاهلة متعصبة للقديم، ولا سيما إذا كان من أمر الدين فلا يُرجى أن يكون نهوض الدولة من قبلها، ولا يمكن ترقيتها هي أيضًا من قِبل الدولة، والدولة كلها على هذه الحالة - لما رأوا أن الدولة والأمة - كما ذكر - جزموا بأن العلاج الوحيد للدولة التركية، والأمة التركية هو أن تتولى دولة أوروبية قوية تنظيم الدولة وترقية الأمة وجعلها كالدول الأوروبية والأمم الأوروبية من كل وجه، ولم يجدوا دولة من الدول العظمى، ترضى بأن تقوم بهذه الخدمة للترك إلا ألمانية - وهي أرقاهن علمًا وقوة عسكرية - فمازالوا يخطبون ودها حتى عقدوا معها اتفاقًا سريعًا قبل هذه الحرب بسنين على تكوين دولة تركية جديدة على طراز الحكومات، وغيرها مما لم نعلم تفصيله، وإنما نعلم منه بالإجمال أن الترك يكونون من الألمان بمنزله أبناء عمهم المجر من النمسا ولذلك تُكثر جرائدهم من المقابلة بين الترك والمجر، وتتساءل عما قدم أولئك وأخّرهم، وهم من أصل واحد! ومن المعلوم بالبداهة أن مثل هذا الإنفاق لا يمكن تنفيذه بصفة رسمية إلا إذا صدق عليه مجلس الأمة من المبعوثين والأعيان، وأن الاتحاديين ما كانوا يتجرءون على عرضه على المجلس، خوفًا من انتقاض أكثر أفراد حزبهم عليهم، وانضمامهم إلى الأحزاب المعارضة، وبذلك يقضى عليهم قضاء لا مرد له، فكانوا يمهدون السبيل إلى جعل مثل هذا رسميًّا بأعمال كثيرة لا تتم عادة إلا في سنين كثيرة؛ لأن السواد الأعظم من الأمة يراه خطرًا بل قضاءً على استقلال الدولة، وعلى دين الأمة، وقد كان المعارضون في المجلس أقوياء، ومعظم الأمة على مذهبهم؛ ولذلك أسقطوا الاتحاديين وانتزعوا منهم السلطة، ولكن حزب الحرية والائتلاف الذي انتزعها لم يتول أمرها، ولا تيسر له أن يكفل وزارتي الشيخين مختار باشا وكامل باشا، فلذلك تيسر للاتحاديين بقوة ثروتهم وتكافلهم، ومساعدة اليهود وألمانيا لهم أن يعودوا إلى انتزاع السلطة من وزارة كامل؛ ومن الغريب أن إنكلترا وروسيا وفرنسا المعارضات لسياسة ألمانية في الدولة لم ينصرن الأحزاب المعارضة للاتحاديين، ولا وزارتي مختار باشا، وكامل باشا، فكان هذا ضعفًا منهن من حيث هو رجحان للسياسة الألمانية في الدولة، وقد كان الميالون إلى تفضيل مودة إنكلترا، ومن عساه يكون معها من الدول على مودة ألمانيا وأحلافها أكثر عددًا وأرسخ في الدولة قدمًا، ولكنهم خذلوا بخذل الدول التي يميلون إليها للدولة في حرب البلقان. والكلام في إيضاح هذا الرأي وتفصيل المسائل التي تتعلق به يطول فنكتفي منه بما لا نخرج به من موضوعنا، وملخصه أن الاتحاديين متفقون مع الألمان من قبل هذه الحرب بسنين على وضع زمام الدولة بأيديهم ليرقوها بعلومهم وفنونهم العسكرية وغيرها، فكانت هذه الحرب وسيلة لتنفيذ ذلك الاتفاق السري الذي كان يُظن أنه لا يمكن تنفيذه إلا بعد تمهيد السنين الطوال كما قلنا آنفًا. وإنني قد سمعت خبر هذا الاتفاق السري في الأستانة؛ إذ كنت فيها سنة ١٣٢٨ ممن يظن اطلاعهم على مثل ذلك وهم قليل، والمخالفون منهم للاتحاديين كانوا يظنون أن تنفيذه مستحيل؛ ولهذا كنت جازمًا عند وقوع الحرب بأن الدولة ستدخل فيها قطعًا؛ إذ كان سفير الإنكليز في الأستانة ورجال حكومتهم في لندن يظنون أن بين زعماء الاتحاديين خلافًا في ذلك، وأن بعضهم يميل إليهم وإلى أحلافهم، كما علمنا ذلك من الكتاب الأبيض بعد فكان خداعهم للأحلاف في هذه الحال وخداعهم لفرنسا قبله؛ إذ أقرضتهم عشرات الملايين مما يفخرون به، وما هم في هذا الفخر بملومين. *** مكان زعماء الاتحاديين من الدين ذ- يظهر أن زعماء الاتحاديين قد أوتوا حظًّا عظيمًا من الذكاء فكيف خفي عنهم ما قررت من الخطر على الدولة في تسليم أزمَّة أمورها للألمان؟ وكيف خفي عنهم الفرق بين الترك والمجر، حتى ظنوا أنهم يمكن أن يكونوا من الألمان بمنزلة المَجريِّين من النمسا؟ ألم يعلموا أن المجر يشاركون النمساويين بأعظم المقومات الاجتماعية، وهو الدين؟ فلا يمكن أن يكون الترك المتعصبون في الإسلام الذين تمثل دولتهم الخلافة الإسلامية متحدين بالألمان المتعصبين في دينهم المجدين في تنصير المسلمين في مستعمراتهم الإفريقية، ومنع انتشار الإسلام فيها كما علم ذلك من الأوراق التي اكتشفها الإنكليز هذا العام في تواصي الحكام الألمان بذلك؛ وقد تذكرت بها كلامًا لقيصر الألمان في هذا المعنى، نشرته الجرائد منذ سنين أظن أنه في الحث على اتفاق مبشري الألمان البروتستنت مع الكاثوليك على تنصير المسلمين [١] . د- اعلم أيها الأستاذ أن زعماء الاتحاديين الذين كلامنا فيهم ملاحدة لا يدينون دين الإسلام ولا غيره، وهذا ثابت من أقوالهم وأفعالهم يعرفه جماهير العلماء والكبراء في الأستانة وغيرها، وجميع السياسيين في أوروبا، وهم يتمنون خروج الشعب التركي من الإسلام، ولو بالتدريج الممكن إلى الوثنية بشرط أن يبقى تركيًّا؛ لأنهم يظنون أن الإسلام هو العلة المانعة من مساواته للشعب المجري وغيره من الشعوب الأوروبية. ويشاركهم في هذا الرأي غيرهم من ملاحدة الترك. ولما كنت في الأستانة نشرت جريدة (إقدام) الشهيرة -وكانت معارضة للاتحاديين- مقالة في المقابلة بين الترك والمجر، وتساءلت عن سبب ما بينهما من الفرق في العلم والمدنية مع الاتفاق في النسب، ورغَّبت الترك في التشبه بالمجر، وسلوك طريقتهم والاتحاد بهم.. وقد رغبت يومئذ إلى السيد الزهراوي - رحمه الله تعالى - في كتابة ردّ عليها يقال فيه: إن أعظم الفروق بينهما الدين واللغة، فهل تنصح الترك بأن يتركوهما معًا ليكونوا كالمجر في كل شيء أو يتركوا الدين الإسلامي أو اللغة التركية لأجل ذلك؟ فقال: إن الحكومة لا ترضى بنشر مثل هذا. وكان الاتحاديون يتقربون إلى الأوربيين بالإلحاد وبمكاشفتهم باعتقادهم، أن البقاء على الإسلام مانع من ترقي الترك. واجتهدوا في استمالة نصارى السوريين إليهم بهذا وبإيهامهم أن العرب المسلمين لن يتفقوا معهم لتعصبهم الديني. أما مذهب الاتحاديين السياسي فهو إنشاء دولة تركية محضة متحدة بالتحالف الجرماني، وأن الترك لا يمكن أن يندغموا في الجرمان بسبب هذا الاتحاد بحيث يفنون فيهم، لأن المحافظة على اللغة التركية تمنع من فناء الشعب التركي المؤلَّف من عشرات الملايين في الشعب الألماني أو غيره. ذ- أين عشرات الملايين من الترك والمشهور أنهم لا يكادون يبلغون في الدولة ستة ملايين؟ د- إنهم يعدون مسلمي القوقاز وتركستان منهم، ويظنون أنهم سيأخذون هذه البلاد بقوة ألمانية، وأنهم لا بد أن يكرهوا جميع الشعوب العثمانية على ترك لغاتهم إلى اللغة التركية حتى العرب، وبذلك يكون لهم إمبراطورية كبيرة منظمة على النمط الألماني، ومن أمانيهم في هذا الخيال أن يملكوا مع الألمان الشرق كله أو العالم كله. وأما الخلافة الإسلامية فيستخدمون نفوذها الديني في سياستهم وحروبهم إلى أن يتم لهم إفناء الأمة العربية وتكثير النابتة التركية التي يربونها على الإلحاد وتحريف الإسلام عن أصله بجعل القرآن تركيًّا وتفسيره بمثل ما رأيناه في كتاب (قوم جديد) وغيره من كتبهم، ويستغنوا عن مخادعة المسلمين والاستفادة منهم باسم الخلافة والإسلام، فعند ذلك ينبذونها نبذ النواة، ويجعلون يوم إلغائها عيدًا من الأعياد، فحاجتهم إليها مؤقتة كحاجة أحد ظرفاء السوريين إلى البرنيطة. ذ- بعيشك فَكِّهْنَا بخبر برنيطة هذا السوري الظريف، لعله يدفع عني الرعب الذي كاد يساورني من تصور هذا الخيال التركي الاتحادي الغريب. د- هو الدكتور.. قال: إنه يلبس البرنيطة، لأنها تزيد في ربحه، وفي احترامه، كما ثبت له ذلك بالتجربة، وإنه يتمنى أن يستغني عنها، وقد وعد أصدقاءه بأن يدعوهم عندما يثبت عنده ذلك الاستغناء إلى احتفال عظيم حتى إذا ما انتظم عقد اجتماعهم يوقد نارًا يحرق بها البرنيطة أمامهم ويرثيها بأحسن مما رثى به الفارياق حماره، ويسمى ذلك الاحتفال احتفال إحراق البرنيطة. ذ- أود أن تخبرني ببعض ما لديك من الدلائل التي لا تحتمل التأويل على كفر زعماء الاتحاد، فإن بعض ما يدل على ذلك قد يحتمل التأويل، وهذه مسألة لا يجوز الأخذ فيها إلا باليقين. د- إن ما عندي في ذلك كثير جدًّا، إذا أردت بسطه ودفع ما يمكن أن يورد عليه من الشبهات فلا يتم لي ذلك إلا بتأليف سِفْر كبير. وإذا أردت أن أحصي في هذا الباب جميع ما أعلم من أقوالهم وأفعالهم للدين، وما نشروه في كتبهم الجديدة وصحفهم من العبارات المنفِّرة عن الإسلام أو الدالة على مذهبهم السياسي الذي ذكرته آنفًا - فلا بد لي من تأليف عدة أسفار، ولا بد أن تكون قد قرأت ما ترجمناه من كتاب (قوم جديد) في - ص٥٣٩-٥٤٤ م١٧ - سنة ١٣٢٢ من المنار [٢] ورأيت كيف حرَّف فيه القرآن، وجعل القيام والصلاة والحج والزكاة، والعمل بكتب فقه الأئمة الأربعة، هو دين قدماء المسلمين الذين يعبر عنهم بكلمة (قوم عتيق) ، وصرح بعدم جواز العمل بتلك الكتب، وعلل ذلك بأنها مملوءة بالنفاق والشقاق، وبين في مقابل ذلك أركان دين (قوم جديد) وهي العقل وكلمة الشهادة والأخلاق الحسنة والجهاد مالاً وبدنًا والسعي لإعداد لوازم الحرب بالاتحاد تحت راية الخلافة الإسلامية العثمانية. وصرح بكفر جميع المسلمين من رعايا دول النصارى، والذين تحت حمايتهم، وبأن المسلمين الحقيقيين هم الذين حاربوا في البلقان (تحت إمرة أنور ورضا وأسعد وجاويد ورءوف - صلى الله تعالى عليهم - وبقية رجال جمعية الاتحاد والترقي المقدسة) ثم صرح بأن عدد الذين ينتمون إلى الجمعية في حرب البلقان لا يتجاوز مئة ألف، وهم المسلمون الحقيقيون. قال (أما الباقون فكانوا من المرتدين المنتمين إلى الائتلاف) أي: حزب الحرية والائتلاف (والبطر كخانات، وهو بفضل أنور وطلعت وجمال وغيرهم من زعماء الجمعية على الخلفاء الراشدين، وجميع الأئمة والأولياء الصالحين، بل هو يقدس جميع الترك التابعين لهؤلاء الزعماء بمثل ما تراه في تلك النبذة المترجمة منه (ص ٥٤ م١٧) فإنه بعد مخاطبته للترك بأن الله قدمهم، وبأن تعظيمهم لخلفاء العرب، ووضع أسمائهم في المساجد يعد إذلالاً لخلفاء الترك) الذين قدستهم الأحاديث النبوية - بزعمه -، وبعد إنكاره عليهم تعظيم الأولياء من العرب كالجيلاني، والبدوي وغشهم للترك بأنه سيخرج من العرب مهدي. بعد تفصيل هذا، وزعمه أنه تحقير للترك قال (أما سمعتم الآية {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} (العاديات: ١) فإن الله قدس بهذه الآية الجيوش التركية، فخيل هذه الجيوش هي أشرف وأقدس أضعافًا مضاعفة من شرافة وقداسة رؤساء وأشراف الشعوب الأخرى الذين تقدسونهم وتحترمونهم) اهـ وليس هنالك الذين ذكر أنهم يعلقون أسماءهم في المساجد وهم: النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون. الأربعة والحسن - رضوان الله عليهم-. وقد جعل الاتحاديون عبيد الله أفندي مؤلف هذا الكتاب مدرسًا في جامع آيا صوفية لينشر هذه الأفكار في شهر رمضان، وجعلوا حوله الجلاوزة والشُّرَطَة (البوليس والضابطة) يحمونه من اعتداء المسلمين عليه، ولكن من يطعن في جمعيتهم أو بعض زعمائهم فلا جزاء لهم إلا القتل اغتيالاً، أو صبرًا أو بمحاكمة قضائية أو عُرفية. ذ- إن مؤلف هذا الكتاب مجنون أو معتوه، وتحريفه للقرآن أشد تشويهًا وأظهر بطلانًا من تحريف الباطنية، فكيف يظن هو وزعماء الاتحاديين أن مسلمي الأتراك يتلقونه بالقبول فيؤثر في نفوسهم؟ د- حقًّا إن هذا الرجل يكاد يكون مجنونًا، ويحتمل أن يكون سبب غلوه هذا عن خبث ودهاء، والذي يظهر لي أن لهم في مثله غرضين (أحدهما) فتح باب الجرأة للملاحدة الترك على التصريح بالكفر قولاً وكتابة، ليكون مجال القول عندهم واسعًا في الطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الخلفاء الراشدين، وأئمة آل البيت النبوي، وأئمة الفقه والصوفية، ولهم كُتّاب آخرون سلكوا غير هذه الطريقة في هذا الباب، كالدكتور عبد الله بك جودت صاحب مجلة (اجتهاد) التركية، وأحد مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي الأولى، فإنه يترجم بالتركية مطاعن (كايتاني) المؤرخ الإيطالي في النبي - صلى الله عليه وسلم - ونشر كتابه في هذه السيرة التي شوه جمالها، وانتقص كمالها ببهتانه وسوء تأويله، فكان له رواج وتأثير قبيح عند طلبة مدرسة الطب وغيرهم في الأستانة. (والغرض الثاني) نشر ذلك بين عوام الترك الذين لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه؛ لعلمهم بأنهم يقبلون كل كلام يقرأ عليهم في كتاب، وتؤيد فيه المسائل بما يسند إلى الله ورسوله من الآيات والأحاديث مهما تكن محرمة والكلام في هذه المسألة يطول، فأكتفي منه في هذا المجلس الذي طال عليك بروايتين من علماء الأستانة، وبعض القضاة الاتحاديين. (الرواية الأولى) كان إسماعيل حقي المناسترلي - رحمه الله تعالى - من أشهر علماء الترك في الأستانة في دار الفنون (المدرسة الجامعة التركية) وهو الذي صلى بالسلطان محمد رشاد إمامًا للجمعية في (قصره) عند زيارته لها، وكان استماله الاتحاديون بعد الدستور بجعله عضوًا في مجلس الأعيان، وجعل ولده كاتب السر لطلعت بك، فكان جمهور علماء الأستانة يصفونه بالنفاق بدعوى أنه مال إلى الاتحاديين، وأنه لا ينكر عليهم، فيظن العوام أنه راضٍ عنهم، ولكن هذا الشيخ الكبير لما عرفني حق المعرفة، ووثق بي كان لا يعبر عن الاتحاديين في الحديث معي بداره إلا بلقب (الملاحدة) . وقد سألني عن رأيي في فطين أفندي: أمسلم هو أم زنديق ملحد؟ فقلت: ما الذي أثار هذه الشُّبهة في نفسك حتى شككت في إيمان رجل من أهل العلم؟ قال: يا سيدي يظهر لنا أن الجمعية تثق به ثقة تامة. فهذا العالم الجليل المختبر لهم حق الاختبار كان يعتقد أنهم لا يثقون ثقة تامة بمؤمن مسلم، فصار مديرًا للمرصد الفلكي الذي أنشئ في ضواحي الأستانة وهو ذو همة ونشاط. وظني فيه أنه كان يريد استخدام نفوذ الجمعية لبعض المقاصد التي يراها نافعة فيخدمها لهذا خدمًا نافعة، ويتوهم أنه قد يقوّم بعض اعوجاجها كما يعلم من الواقعة التي أقصها عليك: لقيت فطين أفندي مرة يتكلم مع (الدكتور ناظم) المرخص المسئول للجمعية، وأعظم رجالها نفوذًا فيها، فلما أقبلت عليهما. قال الدكتور: هذا فلان يحكم بيننا، ثم قص علي أنه اختلف مع الدكتور في مسألة مهمة قال: الدكتور يقول: إنه يستحيل علينا الترقي المطلوب إلا إذا نبذنا كل قديم، واتبعنا خطوات فرنسة (؟) في تجديد شباب الدولة والملة ٠ أي: الأمة) وأنا أقول: إننا محتاجون إلى اقتباس الفنون عن الأوروبيين عامة، لا من فرنسا خاصة؛ لأجل ترقية صناعتنا وحربيتنا وماليتنا، وأما الأمور المعنوية كالآداب والفضائل والشرائع، فإننا نقتبسها من ديننا وما عندنا فيه أكمل مما عند غيرنا، وهو خير لنا. ولكن الدكتور قال: إن هذا كله قد صار رثًّا باليًا لا ينفع فلا بد من التجديد في كل شيء، هذا ملخص حديثهما، ولا حاجة إلى بيان ما أيدت به رأي فطين أفندي، بل أقول لك: إنني أكبرته من ذلك اليوم، ولكن العبرة في شك الشيخ إسماعيل حتى في عقيدته؛ لأنه رأى أن زعماء الجمعية يثقون به وإن لم يعرف درجة هذه الثقة، وقد عرفت رأي جمهور علماء الأستانة في إسماعيل حقي هذا، وكذلك رأيت كثيرًا من المتدينين يعتقدون أن زعماء الجمعية كلهم ملاحدة، لا دين لهم، ومن هؤلاء كثيرون كانوا محافظين على الانتساب إلى الجمعية، يرون أن في هذا خيرًا لهم أو مصلحة للدولة والأمة، ومنهم ألوف تركوها إلى حزب الحرية والائتلاف. (الرواية الثانية) لما جئت بيروت عائدًا من الهند إلى مصر من طريق العراق، وسوريا زارني قاض من قضاة الترك الأهليين ببيروت اسمه (شوكت بك) كان كثير اللهج بالجامعة الإسلامية، وإيهام مسلمي بيروت وغيرهم أن الاتحاديين يرمون بسياستهم إلى هذه الجامعة، وكان ذلك في عهد وزارة مختار باشا، والناس يجاهرون بلعن الاتحاديين، ولا سبيل إلى استمالتهم إليهم إلا بإيهامهم أنهم يخدعون الإسلام ويجتهدون في جمع كلمة أهله، فكان أول حديث شوكت بك معي - بعد مجاملة السلام - السؤال عن مسلمي الهند، وإظهار الاهتمام بشأنهم. وانتقل من ذلك إلى مسألة الجامعة الإسلامية، وما يزعمه من ميل الاتحاديين إليها، فقلت له: إن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان الاتحاديون أنفسهم ملاحدة غير مسلمين إلا في الاسم فقط، فكيف يقومون بهذه الخدمة في الإسلام؟ قال: إن الحكم عليهم جميعهم بالإلحاد فيه مبالغة، ولعل الملحدين منهم لا يزيدون على ثلاثين في المائة. قلت: الظاهر أنك أسوأ ظنًا مني فيهم، فأنا أعني بمن حكمت عليهم بالإلحاد زعماءهم لا جميع من انتمى إلى الجمعية، فإن لي أصدقاء كثيرين ممن دخلوا في هذه الجمعية لا ريب عندي في إسلامهم ولا في صلاحهم، منهم من تركها بعد العلم بحقيقة حالها ومنهم من يرى من المصلحة العامة أو الخاصة بقاءه فيها. وقد صرح لي بذلك كثير منهم. وذكرت له أنني اختبرت أكبر أولئك الزعماء بنفسي في الأستانة، ووقفت على ما كان من اختبار أصدقائهم وغير أصدقائهم لهم، وذكرت له رأي الزعيم الأكبر الدكتور ناظم الذي ذكرته في الرواية الأولى، قال: نعم؛ إن الزعماء لا دين لهم (دين سر) ولكن مسألة الجامعة الإسلامية تفيد الدولة فائدة سياسية عظيمة، فهم لذلك يهتمون بأمرها قلت: إنني أعلم أنهم يشتغلون بتأسيس جامعة تركية لا إسلامية عامة، وقد بثوا دعاتهم لهذه الجامعة في القوقاز وتركستان. ولو كانوا يريدون الجامعة الإسلامية لاهتموا بتعليم اللغة العربية ونشرها، ولكنهم يجتهدون على إماتتها، وكيف يتعارف المسلمون بغير لغة يتفاهمون بها. إنني طفت كثيرًا من ممالك الهند فلم أدخل بلدًا منها إلا ووجدت فيه كثيرين يتكلمون معي بالعربية، ولا يكاد يوجد فيها أحد يعرف التركية، ولا توجد داعية تحفِّزهم لتعلمها، وأما اللغة العربية فداعية تعلُّمها الدين، وهي تزداد في هذه الأيام انتشارًا في الهند وجاوه ... إلخ. *** خلاصة المحاورة، وفصل الخطاب فيها ذ- لقد أطلت عليك، وأخذت حظًّا عظيمًا من وقتك، وقد اقتنعت مما سمعت منك بأن هؤلاء الاتحاديين ملاحدة لا يدينون بدين، وأنهم مقهورون يسول لهم الغرور أنهم يستطيعون أن يهدموا بناء هذه الدولة وهذه الأمة، ثم يبنونهما بناء آخر زينه لهم اليهود، ووضع رسمه لهم الألمان، وأن ذلك يتم لهم في سنين معدودة، ولذلك لم يسلكوا طريقة التدريج التي مضت بها سنة الله في خلق الأرض والسماوات؛ وأحب أن تلخص لي كلامك بجمل مختصرة. د - (١) إن الشريف أمير مكة المكرمة يعتقد أن الاتحاديين ملاحدة يكيدون للدين الإسلامي على ما لهم فيه من المنافع السياسية والمالية، فمثلهم كمثل المعتصم في حصن لعدو له، وهو يرى أنه لا بد له من تركه ويخشى أن يصير إلى عدوه، فهو على انتفاعه ببنائه وبما فيها من الخبرات يضع الألغام تحته لينسفه عند إرادة تركه. (٢) إنه يعلم أيضًا أنهم أشد الناس عداوة للعرب، وأن بغضهم لهم أشد من بغضهم للروم والأرمن لسببين، أحدهما: أنهم أعظم أركان الإسلام وأنصاره، وثانيهما: أنهم أكبر الشعوب العثمانية وأكثر عددًا، وأنه قد وجد في بلادهم الحضرية كثير من أصحاب المعارف العصرية والأفكار النيرة، وما زالت بواديهم والبلاد التي هي أقرب إلى البداوة ذات بأس شديد وقوة حربية لا يستهان بها. فلا يتم لهم ما يتخيلونه من تأسيس دولة تركية لا دين لها لأمة تركية محضة إلا إذا أبادوا هذا الشعب العربي الكبير الناصر للإسلام ولذلك عقدوا النية على ترك بلاده الخصبة المتعلمة بالقوة القاهرة، وعلى إذلال أهل الجزيرة العربية الأشداء بإضعافهم، ونزع السلاح منهم وإلقاء العداوة بينهم، وجعل بلادهم المقدسة تحت سلطة عسكرية اتحادية لا دين لها حتى لا يستطيعوا أن يقوموا بعمل ديني ولا دنيوي. (٣) إن الشعب التركي غيور على الإسلام، وشديد التعصب له، وقد عرف عنه المبالغة في التعصب ما لم يُعرف مثله عن العرب، ولكن خضوعه للقوة التي تسود عاصمة بلاده أتم من خضوع سائر الشعوب العثمانية؛ بل هو شعب لا يعمل إلا بالقوة العسكرية، ولا تعمل به إلا القوة العسكرية، وقد غلب حزب ملاحدة الاتحاديين حزب العلماء، وجميع الأحزاب السياسية العثمانية بقوة الجند والمال، كما علم من كلامنا السابق، فلم يعد الشريف يرجو من إسقاط قوة الاتحاديين أعداء الإسلام والعرب بقوة الأحزاب التركية ما كان يرجوه من قبل، فانحصر وجوب مقاومتهم في العرب وحدهم. (٤) إن الشريف يعلم، كما يعلم العارفون وكل من له إلمام بأموال الدولة أن ملاحدة الاتحاديين قد سلبوا سلطان الدولة وخليفتها نفوذه وجميع حقوقه، حتى ما هو مدوّن في قانونهم الأساسي، فأصبح المسلمون بغير إمام شرعي لا حقيقي مستوفٍ للشروط الشرعية، ولا متغلب يطاع لضرورة جمع الكلمة، وإنما المتصرف في الدولة جمعية الاتحاد والترقي الملحدة، فالسلطان محمد رشاد لا نفوذ له الآن في المملكة ولا في قصره، ويسميه أهل الأستانة (المهردار) للجمعية؛ أي: صاحب الختم الذي وظيفته أن يختم لها كل ما تأمر بختمه من الأوراق، وهم لا يسمحون له بأن يختار رئيس الكتاب وأمين السر له. حدثني سعدي بك أحد سَراة الأستانة الكبار عن رجل من أصحاء البيت السلطاني أنه كان يقرب السلطان في حفلة قراءة المولد النبوي الشريف في قصر (ضولمه بغجه) فرأى (الباشكاتب) قد جلس متكئًا، والسلطان منتصب بغاية الأدب على سمته وكِبر سنه، فلما رآه السلطان قد اتكأ قال متبرمًا: إذا كان هذا ... (نسيت اللقب القبيح الذي ذكره به) لا يحترمني، أفلا يحترم حضرة فخر الكائنات- صلى الله عليه وسلم -؟ (٥) إن الشريف يعلم أن هؤلاء المتهورين، قد عرَّضوا استقلال الدولة للزوال، وأن الخطر عليها في انتصار الألمان أشد من الخطر عليها في انتصار الحُلفاء، فإن الظواهر أن الحلفاء يرضون باستقلال بلاد العرب، ويظن أيضًا أنهم يرضون بجعل الولايات التركية إمارة، أو سلطنة تركية مستقلة، فغاية انتقامهم من هذه الدولة أن يجعلوها أجزاء بعضها مستقل بنفسه تمام الاستقلال، وبعضها مستقل تحت حماية بعض الدول، كالولايات الأرمنية، الظاهر أنها تكون تحت حماية روسية، ويقال: إنهم لا بد من أخذ شيء منها لأنفسهم، وتختلف الآراء في مصير الأستانة، وليس هذا موضوع حوارنا. (٦) إن ملاحدة الاتحاديين شرعوا في تنفيذ خطتهم بإذلال العرب التي هي مقدمة، أو علة لإذلال الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عند أبي يعلى (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) فبدءوا بالعراق والشام، ثم مدوا براثنهم إلى الحجاز، فاضطر الشريف إلى دفع شرهم عن العرب بمقاومتهم في الحجاز، واستقلاله بالسلطة فيه من دونهم لمجموع ما تقدم من الأسباب. ذ - يظهر مما قررته أنه لا يعد مقاومته للاتحاديين خروجًا على السلطان ولا عداء للدولة نفسها؛ لأنه يرى أنهم جانون على الدولة والسلطان قبل جنايتهم على العرب في الحجاز وغيره. د - نعم: هذا هو الظاهر بل المتيقن، ومن وقف على الحقائق يرى أن الشريف قام بأعظم خدمه للإسلام والمسلمين، وذلك أنه لما رأى الخطر قد أحاط بالدولة، كما هو واضح مما شرحناه كان من الضروري أن يخاف وقوع القضاء بها فجأة، فيكون حرم الله وحرم رسوله، وسياجهما من جزيرة العرب مما يسقط بسقوطهما، وتزول السلطة الإسلامية عنهما وعن غيرهما مدة أطول منها يكون الحَرَمان وغيرهما فيها من قبيل التراث الذي يحكم فيه الفاتحون بما يشاءون. فهو باستقلاله هذا قد جعل الحجاز تحت سلطة إسلامية خالصه، ويوشك أن يكون هذا مقدمة لدولة عربية إسلامية كبيرة، وما ذكره الأستاذ في أوائل حديثه من تعادي أمراء جزيرة العرب، وكونه يحول دون تأسيس دولة عربية عزيزة غير مسلَّم، فالموادة بين أمراء الجزيرة، وزعمائها لم تكن منذ قرون كثيرة منها الآن، فلم يبق بين أحد منهم شيء من ذل العداء إلا ما بين إمام اليمن والسيد الإدريسي، ويُرجى أن يقدر الشريف على تلافي ذلك، وعقد اتفاق بين الجميع على قاعدة (اللامركزية) . وصفوة القول أن استقلاله هذا لا ضرر فيه على الدولة العثمانية، ولا على الأمة التركية، وإنما هو كبح لجِماح هذه الجمعية الباغية على الإسلام والدولة والعرب، فإن سقطت الدولة في هذه الحرب لم يكن استقلال أمير الحجاز أحد أسباب سقوطها، وإن سلمت من الحرب ومن هؤلاء الملاحدة وعادت دولة إسلامية قوية لم يكن ما تقدم من استقلال الشريف مانعًا من العودة إلى الوفاق والاعتصام، وهذا ملخص ما عندي في هذه المسالة، فإذا كان لديك أسئلة أخرى فلتكن في زيارة أخرى,. انتهت المحاورة مع الأستاذ بما ذكرنا من الإقناع، وكذلك المحاورات الأخرى في الجملة. فخلاصة ما وقفنا عليه من الآراء في المسألة العربية واستقلال الشريف الأكبر أن المسلمين هنا لا يرتاحون إلى هذا الاستقلال إلا إذا أمكن أن يستتبع تأسيس دولة عربية قوية مستقلة تمام الاستقلال لا نفوذ فيها لدولة أجنبية يضعف استقلالها، ولكن منهم من يشك في إمكان ذلك، ومنهم من يشك في سهولة حصوله دون إمكانه، ولكل منهم دلائل نظرية لا يتسع هذا الجزء لبسطها، إن كان من الممكن نشرها. ثم إن كل فرد ممن تكلمنا معهم أنصف الشريف في استحسان وقوفه بهذا الاستقلال عند حد منع الضرر عن أهل الحرمين وغيرهم من العرب عملاً بما ثبت عنده من سوء نية الاتحاديين بحيث كان استقلاله غير مضعف للدولة إلا بقدر ما يجني عليها الاتحاديون، إذا أرادوا الاستمرار على قتاله بجيوشها المنظمة وتيسر لهم ذلك، فعمل الشريف يصدق عليه أنه إما أن ينفع نفعًا عامًّا أو خاصًّا بالحجاز، وإما أن لا يضر؛ ولا يوجد عاقل ينكر مثل هذا أو يذمه، وكل مسلم عرف كنه سياسة الاتحاديين في الإسلام صار عدوًّا لهم، وأقدم أعدائهم في هذا، علماء الأستانة والمتدينون فيها، وفي سائر بلاد الترك، وما كان صلحوا العرب إلا متأخرين عنهم في ذلك. وكل عربي مصري أو غير مصري عرف كُنْه سياستهم في العرب صار عدوًا لهم، وأقدم من عرف ذلك السوريون المسلمون، ثم غيرهم عنهم ومن العرب، ولو كان المصريون يصدقون أخبار (المقطم والأهرام) عن فظائعهم في سورية لأجمعوا على ذلك وقد انفتحت لهم أبواب أخرى للاقتناع. وما قلت لأحد منهم إن ما أتاه جمال باشا من التقتيل والتصليب والترغيب عن الوطن ثبت عندي من طريق الأسرى العثمانيين، ومن طريق أمريكه وأوربه، ثم من طريق الحجاز إلا قبلوه مذعنين، ولعنوا جميع الاتحاديين، وسيأتي يوم يصدق فيه الجميع هذه الأخبار، ولعله ليس ببعيد.