للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

(٧) من هيلانة إلى أراسم في ٣ أبريل - سنة - ١٨٥
قد أتاني السيد... بشيء من أخبارك بعد طول تطلعي إليها فاطمأن قلبي قليلاً
بما قاله لي عنك , وزال بعض ما كنت أجده من الجزع عليك.
لا يخطرن ببالك أني نسيت ما تلقيته من نصائحك وتعاليمك في تربية (أميل)
فإني باذلة قصارى جهدي في تعريفه بما حوله من الأشياء , وفي هذا المقام أقول:
إني أحسبني قد تبينت أن فتور مشاعر الطفل ينشأ من عدم التفاته إلى
المحسوسات أكثر من حدوثه من ضعف تلك المشاعر فإن في قدرته أنه يدرك
أصوات كثير من الأشياء الخارجة وألوانها تمام الإدراك لو أراد أن يكلف نفسه
الإصغاء والنظر إليها , ولكن لما كانت هذه الأشياء لا تستميله كان يغفلها إغفالاً كليًّا.
وجملة القول في ذلك: إنه لا بصر له ولا سمع إلا فيما يحب إبصاره
وسماعه، وإذا كان هذا شأنه فكيف السبيل إلى معرفة ما يروقه من الأشياء وما لا
يروقه؟ إني أعترف وأنا صاغرة بأني كثيرًا ما أخطأت في استعراف تلك الأشياء ,
فليس كل ما أتخيره منها لتنشيط حاسة اللمس في (أميل) يحب أن يجيل فيه يديه
الصغيرتين , ثم إن أبهى الألوان وأجملها في نظري تمر أمام عينيه مرور الظلال
فلا تستلفته أقل استلفات , وأنا أظن أننا معشر الأمهات مدفوعات في هذا الأمر وفي
غيره إلى إحلال أذواقنا محل أذواق الأطفال.
إن جورجيا وهي أقل مني ارتياضًا بالعلم لأنجح منى أغلب الأحيان في
سياسة (أميل) فإنها تجد بغريزتها ما يعجبه ويسليه وينبه قوة الاستطلاع فيه، وربما
كانت تستعرف رغائبه فتسعى في تحصيلها له , وسبب ذلك أنها كما تعلم قد
كانت والدة لثلاثة أولاد حرمها منهم الرق على التعاقب ولا تدري أين هم الآن، فلا
بدع إذن في شدة تعلقها بأميل ومحبتها له، وإني لفي وجد عليها من حبها إياه أكثر
مني، وحاشا أن يكون ذلك حسدًا فإنه مستحيل , وإنما الذي أحسدها عليه هو
قدرتها على أن تكون طفلة مع الطفل، فهل هذا هو الذي تعنيه بكلامك في استعداد
المرأة الزنجية للأمومة؟ ليت شعري هل تصدق أن أميل قد صار من أصدق
التابعين لزور واستر [١] أعني أنه يعبد الشمس؟ من أجل أن تعتقد ذلك ينبغي أن
تراه لتنظر كيف يبسط ذراعيه إلى ضيائها فرحًا برؤيته.
كان الشتاء عندنا في غاية السهولة فلم ينزل فيه الثلج إلا مرتين على أنه كان
فيهما يذوب بمجرد ملامسته الأرض , ولا تزال الأشجار مجردة من أوراقها ,
فالريف العاري من الخضرة كالبيت الخالي من الفراش والأثاث , ولكن نفحة من
الحياة أنشأت تدب وتسري في مادة الكون جميعه , ولن تلبث أن تملأ ما خلفه
الفصل المنقضي من الفراغ , وقد أمست الآصال عندنا في غاية الصفاء واللطف
ولذلك ترى أميل إذا رأى الجو صحوًا أبدى من القلق ما يدل على رغبته في أن
يُحمل إلى الحديقة.
ولما كانت الشمس في (كورنواي) خصوصًا زمن الربيع لا ضرر فيها على
أحد , بل إنها تلائم الأطفال والشيوخَ اعتادت جورجيا أن تفرش سجادة على
الحشيش الجاف وتُجلس عليها (أميل) ليلعب ويمرح كما يشاء , ولما رأيته يعتمد
علينا في حراسته مدة وجودنا معه قصدت أن أعلمه شيئًا من الثقة بنفسه والارتكان
عليها , فأوعزت إلى جورجيا بالتنحي عنه , واختفيت عن بصره أنا أيضًا من غير
أن يغيب عن عيني فلاحظت أنه في مبدأ الأمر خاف عندما فكر في وجوده وحيدًا
وأبدى بعض القلق لكنه ما لبث أن تشجع وقوي قلبه , فكنت حينئذ أراه يفتح عينيه
ويلتفت إلى كل ما يجول حوله , ويحرك يديه الصغيرتين كأنه يذود ذبابة تطن فوق
رأسه فأخذت على نفسي من هذا الوقت أن أكف عنه مراقبتي حينًا بعد حين حتى
إذا أحس بقلة حمايتي له؛ تعلم كيف يستغني عن مساعدة غيره.
إني كلما فكرت في فروض الأمومة بدا لي منها معنى قلما يشابه ما يفهمه
غيري من النساء , فإني أرى أنه من الواجب علي بمجرد أن يكبر (أميل) أن
أحرم نفسي من لذة مكاشفته في كل وقت بأني مهتمة به؛ لأن أكبر شيء يعيق نمو
المشاعر في بعض الأطفال , ويعطل استقرار طباعهم إنما هو فيما أرى طريقة
القائمين عليهم في تربيتهم , فإنهم بكثرة حياطتهم إياهم بضروب من العناية البالغة
غايتها من الظهور والناشئة عن فرط الاهتمام بهم - يعودونهم على أن يعيشوا غير
مهتمين بأنفسهم , فإن الطفل إذا كان غنيًّا متعجرفًا كيف يتكلف إعمال ملكة الاحتفاظ
بنفسه , كلا بل يكون شأنه مع نفسه كملوك الشرق الحمقى الذين يهون عليهم أن
يسموا مشيري دولهم أبصارهم وأسماعهم طيبة بذلك نفوسهم، لأنه يعتاد على أن
يستعين في إبصاره وسماعه بالمربيات القائمات عليه المكلفات بخدمته , وتَعرُّف
حاجاته لقضائها، فماذا يكون حال هذا الطفل المبالَغ في حفظه إذا رأى نفسه يومًا
ما بعد أن كان محوطًا بأمتن أسباب الوقاية قد خلي بينه وبين أقل خطر يلم به؟ لا
شك أنه يكون أسوأ الناس حالاً، وأكسفهم بالاً، بل يكون هو الشخص الذي يحكى
عنه أنه كان يخاف من خياله.
إن (أميل) يدعوني بأفعاله وأحواله إلى التفكر في كل شيء , فقد ذكرني
بالأمس شخصًا من المذكورين في أساطير الأقدمين، ذلك أن الأطفال لا حساب
للمسافات عندهم , وهذا الأمر فيهم منشأ لكثير من الأغاليط البصرية الكثيرة، فقد
كنت في الحديقة وكانت جورجيا واقفة في أحد شباببك المنزل المشرفة على مكاني ,
وهو على يديها فلم يكن إلا أن رآنى حتى بدت عليه علائم الابتهاج , ومد إليَّ
يديه كالجناحين على أن الشباك الذي كان فيه هو في الطبقة الأولى من البيت فلما لم
تصل إلي يداه ظهر عليه الاندهاش , ثم أفضى به الأمر إلى أن غضب واحمر
وجهه، والذي كان يبتغيه منى بحسب ما يحلو لي اعتقاده هو ما أبديه له من
صنوف الملاطفة والمداعبة، بل كان يريد أيضًا التقام ثديه؛ لأنه لم يكن رضع من
بضع ساعات فلم يكن لهذا المحبوب المسكين مثيل في عذابه هذه إلا طانتال [٢] .
أأكون واهمةً إن قلت: إن أميل قد عرفك , بل إنه قد عرف صورتك التي
أريه إياها ذاكرة له اسمك.
أنا لا أعتقد أن هذا وهم فإني بحملقته في مثالك وابتسامه له ومده يديه
نحوها إخاله قد عرف والده تخمينًا.
((يتبع بمقال تالٍ))