للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


الزي الإسلامي والشعائر الإسلامية والألقاب العربية
عند خواص أمريكا

ذكر مستر تشارلس كراين الأميريكاني الشهير في محاضرته التي ألقاها في
جمعية الرابطة الشرقية (أنه يوجد بين المسيحيين طائفة صغيرة تقول بالتوحيد ,
وتشابه عقائد هذه الطائفة من وجوه عديدة العقائد الإسلامية القديمة) , وذكر أنه
ظهر فيها رجال عظماء في أوربة وأمريكا أفادوا العالم فائدة تذكر فتشكر، وذكر
أنه كان في مقدمتهم في الولايات المتحدة صديقه الرئيس (إيليوت) الذي بقي مدة
أربعين سنة رئيسًا لأعظم مدرسة جامعة أمريكية وهي جامعة هارفرد , وقد توفي
في العام الماضي , وذكر أنه لقنه قبل وفاته سورة الفاتحة قائلاً له: اسمع هذه
الصلاة الإسلامية الجميلة - وذكرها قال: (فأعجب بهذه الصلاة الوجيزة كثيرًا ,
وكانت هي آخر العهد بيننا) .
وقد زار صديقنا الأمير شكيب أرسلان الشهير الولايات المتحدة في الشتاء
الماضي , فكان مما اطلع عليه من نفائس مخبآتها جمعية سرية مؤلفة من خواص
العلماء والكبراء تعقد اجتماعات خاصة في محافل لها يلبس فيها أعضاؤها
الطربوش والعمامة، وألقابهم فيها عربية إسلامية، وتحيتهم فيها (السلام عليكم) ,
واسم الجمعية مرادف لاسم الكعبة , واسم المحفل من محافلهم الجامع إلخ ما ستراه.
فظهر لنا من هذا أن مستر تشارلس كراين منهم , وأن صديقه العلامة
(إيليوت) كان منهم , ذلك بأن مستر كراين كان إذا دخل علينا يحيينا بالسلام , فنظن
أن ذلك مجاملة منه , وتمرين للسانه على النطق بالتحية العربية التي يحب أهلها.
كتب الأمير شكيب مقالته في المقارنة بين هؤلاء الأمريكيين وبين حكام الترك
الكماليين ومقلدتهم من المصريين الدعاة إلى هدم مقومات الإسلام والعرب تقليدًا
للإفرنج فيما يسهل التقليد فيه من زي ولغة وعادات مهما تكن قبيحة، ونشرت هذه
المقالة في جريدة الشورى , ونقلتها عنها جريدة كوكب الشرق بعد مقدمة، ثم نقلتها
مجلة العرفان , وأضافت إليها بعض الصور والرسوم لأعضائها جاءتها من مراسل
لها في الولايات المتحدة , ونحن ننشرها مع مقدمة الكوكب وهي:
***
مهين عند قومه مكرم عند الناس
سفير مصر يلبس القبعة في تركيا مراعاة لشعور حكومتها
وسفير تركيا في مصر لا يحفل بشعور حكومة مصر
مقال بديع من قلم الأمير شكيب أرسلان
قرأنا في الصحف أن سعادة عبد العظيم راشد باشا وزير مصر المفوض في
تركيا بدأ عمله الرسمي في الآستانة بحديث امتدح فيه البرنيطة , وحقر الطربوش
ناسيًا أنه شعار بلاده الرسمي من مليكها إلى نوابها وشيوخها وأعضاء حكومتها ,
وأنها في وقت ما نهضت لتستبدله بالبرنيطة عارضت كل هيئاتها الرسمية في ذلك ,
وفي المقدمة حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس النواب سعد باشا زعيم الأمة.
لا بد أن سفيرنا العظيم أراد أن يستميل إليه الأتراك وأن يكون قريبًا من قلوبهم ,
ولكن ألا يتم ذلك إلا بتحقير شعارنا الرسمي , وإلا بأن يكون التقرب على حساب
قومه وبلاده؟ ؟ وهل هو عين في وظيفته ليرفع رأس مصر وليعلي من شأن زيها؟
أو ليكون في المجلس الذي هو فيه لا يهمه إلا أن يرضي جلساءه , ولو بالنيل منه
فيكون ذلك شأن (الستري) لا عمل السفير؟ ؟
لقد أدى عبد العظيم باشا راشد في مثل هذه الأيام فريضة الجمعة في جامع
عمرو بالجزمة , وها هو مع أنه يلبس الطربوش , ومع أنه يمثل لابسيه يراه دون
البرنيطة ورمز التأخر، فهل تقره وزارة الخارجية على ذلك؟ وهل يبقى مع هذا
أهلاً لأن يمثل البلاد؟
وهل غاب عن سعادة عبد العظيم راشد باشا سفير مصر في تركيا أن محيي
الدين باشا سفير تركيا في مصر يلبس القبعة التي اختارتها حكومة بلاده لشعارها في
جميع الحفلات الرسمية وغير الرسمية في هذه الديار؟
ولقد كان من الواجب عليه ألا يلبس غير الطربوش الذي لا يزال شعار
الحكومة التي يمثلها.
بهذه المناسبة ننشر المقال الآتي الذي أرسله إلى (الشورى) الأمير شكيب
أرسلان من الديار الأمريكية تحت العنوان الذي صدرنا به هذا المقال.
خلع بعض الشرقيين الطربوش , وعدوا لبسه دنيئة من الدنايا , وحاكموا
عليها الناس ودقوا أعناقهم.
وأوشك آخرون أن يقتدوا بهم لو لم يمسك رجال الحل والعقد برمق الكرامة
الشرقية ويقفوا في وجه أولئك الحمقى الذين ألقوا على دعايتهم الأجنبية اسم (تجدد) ,
وأنكرت فئات لبس العمائم , وزعمت أنها رمز الهمجية , وضربت الرقاب من
أجل لبسها , وودت زعانف آخرون أن تضرب الرقاب على لوث العمائم , كما
تضرب على لوثها في تركيا , ولو قام أحد منذ سنوات قلائل وحدثنا بأنه سيكون من
الشرقيين أناس يبلغ بهم التقليد الأعمى أن يجازوا بالقتل من لبس الطربوش , أو
العمامة؛ لظننا أنه ممسوس يخلط أو محموم يهذي , ولكننا رأينا ذلك بأعيننا
وسمعناه بآذاننا.
وحاول أناس أن يحملوا الشرقيين والعرب خاصة على التفصي من كل شيء
شرقي أو عربي , وزعموا أن لا حياة للأمم الشرقية بدون ذلك.
ولسنا نعجب من أن يصاب الشرق بمثل هذه الأمراض الاجتماعية على أثر
الحرب الكبرى , وأن ينكر الشرق بعض بنيه , وأن يحتقروا كل ما هو منسوب
إليه؛ فما زالت الأمم قديمًا وحديثًا تبتلى بمثل هذه الأمراض , إذ مجموع الأمة
عبارة عن جسم معنوي لا يخلو من أن تطرأ [١] على الجسم الحيواني عوارض
الأمراض البدنية.
ولكن الطربوش والعمامة والزي الشرقي واللغة العربية كل ذلك كان مكرمًا
معززًا مقدسًا في بلاد غربية تعرف الفضل وذويه , ولا يمنعها كونها أعرق البلاد
في التغرب أن ترفع للشرق منارًا، وتحيي له آثارًا.
يوجد في أمريكا جمعية شريفة نابهة عالية القدر اسمها (شراين) , ومعنَى
هذه الكلمة (الكعبة) , أو المكان المقدس الذي يحج إليه.
وليست هذه الجمعية من الجمعيات الماسونية ولكن مبادئها أشبه بمبادئ
الماسونية , وبعبارة أخرى: لا يوجد في مبادئ الجمعية ما يناقض المبادئ
الماسونية , ثم إن بين جمعية (شراين) والماسونية رحمًا ماسة؛ إذ لا يدخل هذه
الجمعية إلا من كان منسوبًا إلى الماسونية , ولا يكفي أن يكون منسوبًا إلى الماسونية ,
بل شرط الدخول في جمعية (شراين) أن يكون المريد مترقيًا في الماسونية إلى
درجة ٣٢ , ومن علم مبلغ أهمية الماسونية في أميركا , وأنها هي مصاص هذه
الأمة الأميركية العظيمة , وتأمل في شرط الدخول إلى جمعية الكعبة المشار إليه؛
أمكنه أن يفهم في أي ذروة هي هذه الجمعية من ذرى الاجتماع الأميركي.
ويقدر عدد المنسوبين إلى جمعية الكعبة هذه بمائتي ألف وخمسين ألف
شخص.
من الفضول أن نقول بعد الذي تقدم من الكلام: إنهم جميعًا من الطبقة الراقية ,
ولهم محافل عديدة , ومنهم عدد كبير من رجال الحكومة من أمير وأعضاء مجلس
الشيوخ , بل ممن تولوا رياسة جمهورية الولايات المتحدة , والمحفل يسمَّى عندهم
(Mosque) أي (الجامع) , والمريد يسمَّى (شريفًا) , فكل المنتظمين في سلك
هذه الجمعية يطلق عليهم لقب شريف.
ويوجد عدا لقب شريف لقب (حاج) , وهذا يطلق على من يكون قد جاء من
محفل زائرًا محفل مكة وأثبت لدى هذا المحفل أنه ترك عند عائلته مالاً يكفيهم
لمعيشتهم إلى أن يكون رجع إليهم، فإنه يوجد عندهم محافل بأسماء عربية , ولكن
أسماها محفل نيويورك , وهو الذي يسمَّى بمحفل مكة
وقد علمت من أسماء محافلهم محفل سلام في نيويورك من ولاية نيوجرسي،
ومحفل الملائكة في لوس أنجليوس من ولاية كاليفورنيا، ومحفل عنزه بالمكسيك
وبلغني أن عندهم: محفل دمشق، ومحفل بغداد، ومحفل مصر، ومحفل عمر،
ومحفل علي، ومحفل رمضان، ومحفل زمزم، ومحفل المدينة، ومحفل فلسطين،
ومحفل الناصرة، ومحافل أخرى تحمل كلها أسماء عربية. وهذه الأسماء يلفظونها
بالعربي لا بترجمتها في اللغة الإنجليزية.
ولهم في ولاية بنسلفانيا محفل كبير فخم البناء مكتوب عليه بأحرف كبيرة
(أشهد أن لا إله إلا الله) وإذا دخل الواحد منهم إلى المحفل فلا بد أن يقول: (السلام
عليكم) يلفظها بالعربية، وعلى جدران أبهاء المحافل توجد آيات قرآنية كما هي
على جدران المساجد عندنا، ولا يجوز للداخل أن يدخل المحفل إلا بالطربوش ,
فالطربوش هو اللباس الرسمي للمنسوبين إلى جمعية (شراين) , أما أصحاب
الرتب الذين ترقوا في الجمعية؛ فيلبسون العمائم والطيالس.
وكثيرًا ما يجتمعون في الاحتفالات , ويخرجون في الشوراع مئات وألوفًا
وهم بالطرابيش والعمائم , وليس التعارف فيما بينهم على الطريقة الأوربية أي أن
الإنسان لا يكلم الآخر إلا بواسطة رجل يعرفه , بل طريقة التعارف عندهم أشبه
بطريقة الشرقيين , فإذا شاهد الواحد الآخر لابسًا طربوشًا؛ تقدم إليه وصافحه بدون
واسطة قائلاً له: السلام عليكم.
ثم إن المنسوب إلى هذه الجمعية يحمل على صدره زرًا عليه صورة سيف
وهلال ونجمة , فالهلال راكب عليه السيف والنجمة من فوقه , وهذا هو شعار
الجمعية.
قصدت بهذه المقالة أن يعلم من في الشرق أن الطربوش والعمامة والجبة
واللغة العربية والآية القرآنية والأزياء الشرقية يتنافس بها المتنافسون في أكمل
وأغنى مراكز المدنية الغربية , بينما كثيرون من الشرقيين يحقرونها , وينفضون
أيديهم منها {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: ٣٣) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
(المنار)
إن للجمعية الماسونية أسرارًا ورموزًا لا يفقهها إلا بعض أولي النهاية من
زعمائها كما كان شأن جمعية الباطنية من الشيعة. ومنها أن هيكل سليمان رمز
عند اليهود من أولئك الزعماء المؤسسين لاستعادة الهيكل من المسلمين؛ بل لتجديدهم
ملك سليمان؛ ولذلك نجد للصهيونيين أعوانًا كثيرين من النصارى كلهم من الماسون
فيما أظن.
وقد كان المعروف من رموز الماسونية بعضه يهودي , وبعضه نصراني
كالتثليث مثلاً.
ولم يبلغنا أن فيها شيئًا إسلاميًّا قبل جمعية الكعبة التي علمنا خبرها في هذه
الأيام، وهو في رأينا الاجتماعي ارتقاء في الماسونية إلى أفق أعلى، جزم الأمير
شكيب بأنه خروج منها. فمن لنا بمن يكشف لنا سر ذلك ويعرف الواضع له؟