إذا رأى من لم يشتغل بعلوم الحديث ما ذكرناه في تخريج الأحاديث التي ذكرناها في هذا الجزء وما قبله ونحوها يظهر له فضل المحدثين بعض الظهور ويعلم منه غير المسلم أنه لم تعن أمة بضبط دينها كما عنيت الأمة الإسلامية. هذا وإن ما ذكرناه لم نقصد به الاستقصاء ولم نراجع فيه جميع الكتب التي هجرت هذه الأحاديث؛ إذ لا توجد كلها عندنا ولم نر حاجة إلى البحث عنها مع حصول المقصود فيما ذكرناه. هذا وإن كثيرًا من المحدثين قد تساهلوا في تخريج الأحاديث التي وردت في الفضائل والترغيب والترهيب لاعتقادهم جواز العمل بالضعيف منها ما لم يكن شديد الضعف، قال النووي: بل قال بعضهم: يستحب العمل به لأنه من الاحتياط وجعلوا المناقب من هذا القبيل. قال السخاوي: وقد سمعت شيخنا (يعني الحافظ ابن حجر) يقول وكتبه لي بخطه: إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة: (الأول) متفق عليه أن يكون الضعف غير شديد فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه. (الثاني) أن يكون مندرجًا تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً. (الثالث) أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله. (قال) والأخير عن ابن عبد السلام وعن صاحبه ابن دقيق العيد والأول نقل العلائي الاتفاق عليه. ونقل عن الإمام أحمد أنه يعمل بالضعيف إذا لم يوجد غيره ولم يكن ما يعارضه. ونقل ابن منده عن أبي داود أن الإمام أحمد يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وأنه عنده أقوى من رأي الرجال. فالمذاهب في الحديث الضعيف ثلاثة، ما نقل عن أحمد بشرطه المذكور آنفًا ومذهب الجمهور الذين يشترطون فيه الشروط الثلاثة المتقدمة. والثالث: أنه لا يجوز العمل به مطلقًا وهو ما صرح به أبو بكر ابن العربي المالكي. قالوا: وأما الموضوع فلا يجوز العمل به مطلقًا ولا روايته إلا مع بيان وضعه واستدلوا على ذلك بحديث سمرة رضي الله عنه عند مسلم في الصحيح (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) ويروى (يرى) بضم الياء أي يظن وفي (الكاذبين) روايتان: التثنية والجمع. وأنت ترى أن بعض الأحاديث التي لا تصل إلى درجة الوضع في اصطلاحهم قد يظن الظان أنها كذب بل قد يعتقد ذلك بقرائن قوية ككون أسلوب الحديث وعبارته كعبارات المولدين، وكون معناه مخالفًا لما هو ثابت في الكتاب أو السنة الصحيحة أو نظام الخليقة المعبر عنه بسنن الله تعالى أو لغير ذلك من الأسباب. ومن فهم القرآن المجيد وعرف السنة الصحيحة لا يطمئن قلبه لشيء من تلك الروايات الغريبة في المناقب وإن وجد لها متابعات من الضعاف. وهاهنا مزلة قدم زل فيها كثيرون فصححوا أو حسنوا أحاديث من المناكير والضعاف الشديدة الضعف بحجة أن لها شواهد من جنسها وما كل شاهد يصلح مقويًا وإن فاقد الشيء لا يعطيه. ثم إن باب المناقب الذي ألحقوه بفضائل الأعمال في جواز رواية الحديث الضعيف فيه قد يدخل فيه الإخبار عن عالم الغيب وهو من العقائد التي يطلب فيها اليقين فيروون فيه حديثًا منكرًا أو ضعيفًا واهيًا ويسكتون عليه لأنه من باب المناقب فيشيع ويشتهر فيتخذ عقيدة تحكم العامة بكفر منكره وهو أقرب من مثبته إلى حقيقة الإيمان، وقد يكون هذا النوع من الروايات شبهة على الدين وسببًا في الطعن فيه أو صادًّا لكثير من الناس عن قبوله. إنك إذا أردت أن تدعو أهل أوربا أو اليابان إلى الإسلام وتشترط عليهم التصديق بأن أجساد الأنبياء لا تبلى، وأنهم لم يولدوا كما يولد البشر ونحو ذلك فإن مثل هذا الشرط كاف لرفضهم الدعوة، وقد علمت أنه لم يرد في هذا حديث صحيح فضلاً عن متواتر فضلاً عن آية قرآنية، وهو مخالف لسنة الله في الخلق الثابتة بالمشاهدة وبقوله تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣) فإذا اطمأن قلبك لحديث ضعيف أو حسن في مثل ذلك وصدقت به أيها المسلم فلا ينبغي لك أن تجعله عقيدة دينية وتجعل عدم النص من الصحابة وأئمة السلف على نفيه إجماعًا؛ إذ يجوز أن يكون لم يخطر لهم على بال. واعلم أنه ليس من تعظيم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تنزيههم عن الصفات البشرية فإن هذه نزعة كفر سبق إليها المشركون الذين احتجوا عليهم بمثل ما أخبر الله عنهم بقوله: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} (المؤمنون: ٣٣) وقوله عنهم: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} (الفرقان: ٧) وقوله عن فرعون وقومه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ} (المؤمنون: ٤٧) وقد ثبت في العقائد أن الأنبياء تجوز عليهم جميع الأعراض البشرية التي لا تنافي تبليغ رسالة ربهم، والقرآن ناطق بذلك وهو الحق الذي {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤٢) .