للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


البيت الحرام وسدنته
بنو شيبة وحقوقهم , والهدايا له ولهم

(س٧ ١٠) جاءتنا الأسئلة الآتية من صاحب الفضيلة الشيخ عبد القادر
الشيبي رئيس سدنة البيت الحرام بمكة المكرمة، فرأينا وقد تم باب الفتوى من هذا
الجزء أن ننشرها هنا مع الأجوبة عنها هنا؛ ليطلع عليها حجاج هذا العام.
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب السماحة مولانا العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا دام فضله آمين
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
(١) إن ما نتناوله من الصلة والإكرام من زوار بيت الله الحرام بطلب ,
وبغير طلب بدون جبر , هل يجوز لنا نحن سدنة بيت الله أخذه أم لا؟ أفتونا
مأجورين ولكم الثواب من رب العباد.
(ج) يحل ما يعطى عن طيب نفس بغير طلب إجماعًا، وأما الطلب
وسؤال ما ليس بحق للسائل , فهو مذموم لغير المضطر، وسنفصل القول في ذلك
فيما نجيب به عن السؤال الرابع , وهو فتاوى بعض مفتي مكة المكرمة في المسألة.
(٢) هل من يتناولنا بالتشنيع والتنقيد في وظيفتنا؛ لتقديم ناس وتأخير ناس
آخرين في دخول البيت المشرف كما تقتضيه الحالة، وفيما يصلنا من الزوار، هل
على ولاة الأمر منع المتعرضين والمنتقدين؛ لما رواه يونس عن الزهري، عن
بلال، وعثمان بن طلحة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله بيتًا؛
فاحترموه، واحترموا سدنته) ؟ ، أفتونا مأجورين ولكم الثواب.
(ج) التشنيع والانتقاد على سبيل الإهانة من الغيبة المحرمة بالإجماع، فلا
حاجة إلى الاستدلال عليها بمثل هذا الحديث الذي ليس من الأحاديث التي تقوم بها
الحجة في الرواية، وإن كان معناه صحيحًا، بل لم أره في شيء من كتب السنة،
وصيغة الاحترام لم ترد فيها، ولا في القرآن، وقد استعملها الفقهاء، وأراها مولدة،
ويجب على ولاة الأمور منع من يعتدي عليهم، ويؤذيهم عند الإمكان.
(٣) ما قولكم دام فضلكم فيمن يصل إلى بيوت السدنة لبيت الله الحرام،
ويطلب منهم ورقة تتضمن الفسح (الإذن) لدخول البيت المعظم، وتبين الوقت
الذي يفتح فيه، وعند دخوله تؤخذ منه الورقة التي أعطيت له، هل يجوز ذلك أم
لا؟ أفتونا لا زلتم مأجورين.
(ج) إن هذا العمل يقصد به النظام، وعدم الازدحام المخل به فيما يظهر،
فهو بهذا القصد حسن لا بأس به في كل حال، وقد يكون ضروريًّا في حال
الازدحام.
(٤) مولانا، أقدم إلى مقامكم طي هذه صورة فتاوى من أسلافكم مفاتي مكة
المكرمة وعلمائها الأعلام، وهي من قديم الأعوام، ونحن متمسكون بما احتوت
عليه من الأحكام , والنصوص الشرعية في سدانتنا , وفي أعمالنا , وإجراء وظيفتنا ,
نسترحم اطلاعكم عليها , والتصديق على ما احتوت عليه من الحق والصواب
الذي نرجوكم أن ترشدونا إليه ليكون عملنا عليه. ولكم الثواب.
وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
صورة سؤال قدم لمفاتي مكة المكرمة
ما قول العلماء الأعلام في ولاية الكعبة المعظمة , وخدمتها , وما يوجد فيها،
وما يهدى لها , وما تكسى به خارجها وداخلها، وفتحها وإغلاقها، وما يأخذونه من
النذور , وزوارها , والهدايا , ونحو ذلك؟ , هل يجوز لبني شيبة أخذه، ولا
يشاركهم أحد في خدمتها أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب حضرة العلامة السيد عبد الله المرغني مفتي مكة المكرمة بقوله:
الحمد لله رب العالمين، رب زدني علمًا، اللهم يا من لا هادي لنا سواك،
أنطقنا بما فيه رضاك، فليعلم السائل أرشدنا الله وإياه للصواب، ووفقنا لما جاءت
به السنة ونطق به الكتاب، أنه يختص بما ذكر بنو شيبة الموجودون الآن وإلى يوم
القيامة؛ لما أرشد إليه الكتاب من الخطاب , وأورده من السنة أجلاء الأصحاب ,
والفقهاء الأعلام، ومفاتي بلد الله الحرام، فلا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر
المنازعة فيه، ولا معارضة من قام منهم بما عليه بما يؤذيه، فمن فعل شيئًا من
ذلك؛ استحق الطرد والإبعاد، والخزي والنكال من رب العباد؛ لدخوله في سلك
من ظلم، بصريح قول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويجب على ولاة الأمر
تأييدهم وردع من يتصدى لذلك؛ اقتداءً به صلى الله عليه وسلم؛ لينالوا بركة
اتباعه , ويكونوا ممن أحبهم الله لقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: ٣١) , وقد ذكر العلامة أبو السعود في تفسيره كغيره
من المفسرين عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: ٥٨) بعد أن ذكر أنه خطاب يعم المكلفين قاطبة ما نصه: ورد في شأن
عثمان بن أبي طلحة بن عبد الدار سادن الكعبة المعظمة , وذكر القصة إلى آخرها ,
والله سبحانه وتعالى أعلم.
... ... ... ... ... كتبه المفتقر عبد الله بن محمد المرغني
... ... مفتي مكة المكرمة كان الله لهما حامدًا مستغفرًا مصليًا مسلمًا
وأفتى في عين هذا السؤال حضرة العلامة الشيخ جمال الحنفي مفتي مكة
المكرمة بقوله: سدانة البيت الشريف خدمته , وتولي أمره , وفتح بابه وغلقه،
فسدنتها هم خدمتها، ومن يتولى أمرها الشيبيون العبدريون الثابت نسبهم ما بقي
الزمان، وتوالى الملوان، المتصل نسبهم إلى ابن أبي طلحة , وأبو طلحة اسمه
عبد الله بن عبد العزيز بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري الثابتة
لهم هذه المباشرة الشريفة جاهلية وإسلامًا كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وقد
صح أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ المفتاح من عثمان يوم فتح مكة حتى
ظن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدفعه إليه , وقال العباس بن عبد
المطلب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أعطنا المفتاح مع السقاية فأنزل الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: ٥٨) , قال عمر رضي
الله عنه: فما سمعتها من رسول الله قبل تلك الساعة. فتلاها , ثم دعا عثمان بن
أبي طلحة ودفع إليه المفتاح , وقال: (غيبوه) , ثم قال: (خذوها خالدة تالدة يا
بني أبي طلحة بأمانة الله , واعملوا فيها بالمعروف، فلا ينزعها منكم إلا ظالم)
وروى الفاكهي عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناول
المفتاح إلى عثمان قال: (غيبوه) قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح. وإنما
استوردت هذه الأحاديث؛ ليستنبط منها أحكام الشيبيين، وما به جرت عادتهم القديمة
منها هذه الولاية لهم من الله ورسوله جاهلية وإسلامًا فيا لها من مزية، لا تضاهيها
قضية.
ومنها أن لهم تغييب المفتاح , وعلى ولاة الأمر الحلم عليهم , والصفح عن
زلاتهم اقتداءً به عليه الصلاة والسلام، وأخذًا من قوله صلى الله عليه وسلم:
(كلوا بالمعروف) .
إن ما يهدى إليهم من الصلات والإحسان على وجه التبرع يحل لهم أخذه ,
وهو من الأكل بالمعروف كما وضحه في البحر العميق [١] ، وكذا ما رث من كل ما
أبدل، وعمر فيها كما جرت به العادة القديمة لهم بالأخذ.
ومما يؤيد ذلك، ويدل عليه ما ذكره الفاكهي أنه لما حج الناصر محمد بن
قلاون في سنة سبعمائة وثلاث وثلاثين أمر بقلع باب البيت المعظم، فأخذه الحجبة.
ثم قال الفاكهي: (يؤخذ من هذا أن ما أزيل من البيت الشريف من المؤمن
وعمل بدله يكون لبني شيبة لا يشاركهم فيه غيرهم قد شاهدناهم على مثل هذا،
وإنهم يصرحون بأن هذا حقنا بالقواعد القديمة.
وقد أجاب خاتمة المفتين ببلد الله الأمين حضرة السيد عبد الله المرغني في
عين هذا السؤال، وقد رفع إليه في ضمن كلام طويل بما لفظه: فلا يحل لمن
يؤمن بالله واليوم الآخر المنازعة فيه، ولا معارضة من قام منهم بما عليه بما يؤذيه،
فمن فعل شيئًا من ذلك استحق الطرد والإبعاد، والخزي، والنكال من رب العباد؛
لدخوله في سلك من ظلم، والله أعلم.
أمر برقمه راجي لطف ربه الخفي جمال بن عبد الله شيخ عمر الحنفي.
مفتي مكة المكرمة كان الله لهما حامدًا مصليًا مسلمًا.
وأفتى في عين هذه المسألة حضرة الشيخ عبد الله سراج الحنفي مفتي مكة
المكرمة بقوله: الحمد لله على نعمة الإيجاد والإمداد , والصلاة والسلام على من
حث على حفظ أمانة العباد.
بنو شيبة الصحابي هم سدنة الكعبة المعظمة إلى يومنا، وإلى يوم القيامة
لما صرَّحت به السنة , وليس لأحد مشاركتهم في فتحها , وإغلاقها وخدمتها؛
لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: ٥٨) ,
وذكر أكثر المفسرين , والإمام أحمد في تفسيره الكبير عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: ٥٨) أنها نزلت في عثمان بن أبي
طلحة الحجبي سادن الكعبة المعظمة , وروى جبير بن مطعم: قال جبريل عليه
السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما دام هذا البيت , أو لبنة من لبناته قائمة؛
فإن المفتاح , والسدانة في أولاد عثمان بن أبي طلحة إلى يوم القيامة) , وروى بشر
بن السري في المناسك عن نافع الحجبي , وعن أبيه عبد الرحمن أن أباه حدثه
أن الإمام أبا حنيفة لما حج , ودخل البيت الشريف , وصلى فيه , وأعطا له [٢]
ألف دينار , وقال: (بنو شيبة هم سدنة البيت إلى يوم القيامة لا يشاركهم أحد
في خدمتها) .
وأعظم الإمام مالك أن لا يشرك [٣] مع الحجبة أحد في الخزانة لأنها ولاية من
النبي صلى الله عليه وسلم إذ دفع المفتاح لعثمان.
قال القاضي عياض: (الخزانة أمانة البيت , وما ينذر , وما يأخذونه من
الزوار , فلهم أخذه؛ لأنه من الأكل بالمعروف) , كما أوضحه في البحر العميق ,
وأما ما رث من كسوتها , وجدد فيها , فهو لهم , وقول عائشة رضي الله عنها للنبي
صلى الله عليه وسلم: ما بال بابه مرتفعًا؟ قال: (فعل ذلك قومك؛ ليمنعوا من
شاءوا) وقولها: يا رسول الله كل زوجاتك دخل الكعبة غيري. فقال: (اذهبي
لقرابتك شيبة؛ يدخلك) , فذهبت له فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا
رسول الله، إنها لم تفتح ليلاً في جاهلية , ولا في إسلام , فإن أمرتني؛ فتحتها ,
فأخذها , وأمرها أن تصلي في الحجر , رواه البخاري في صحيحه , وأما تغييب
مفتاح الكعبة , فلهم تغييبه كما رواه الفاكهي , عن جبير بن مطعم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما ناول المفتاح إلى عثمان قال: (غيبوه) .
قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح , ولا يجوز عزل صاحب المفتاح , ولو
كان غير مرضي الحال كما صرح به مفاتي مكة المشرفة؛ لأنها وظيفة من الله ,
ورسوله , فيا لها من مزية لا تقاس بوظيفة , أو قضية! والله أعلم.
قال بفمه , وأمر برقمه خادم الشريعة , والمناهج عبد الله سراج الحنفي.
وأفتى بما يؤيد ذلك ابنه العلامة الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة المكرمة
بقوله: قد اطعلت على ما أجاب به والدي عبد الله سراج الحنفي , وما أجاب به
شيخي الشيخ جمال بن عبد الله مفتي الأحناف بمكة , والعلامة السيد عبد الله
المرغني؛ فوجدته هو الحق والصواب , ولا يعول على سواه , وجوابي كما أجابوا
والله سبحانه وتعالى أعلم.
كتبه خادم الشرعية والمنهاج عبد الرحمن بن عبد الله سراج الحنفي مفتي مكة
المكرمة كان الله لهما حامدًا مصليًا مسلمًا.
***
علاوة لهذه الفتوى من مرسلها فيما يظهر
أخرج الترمذي عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (الأنصار، ومزينة، وجهينة، وغفار وأشجع، ومن كان من بني عبد
الدار موالي ليس لهم مولى دون الله، والله ورسوله مولاهم) ، قال أبو عيسى: هذا
حديث حسن صحيح.
وما أشار إليه العلامة الشيخ عبد الله سراج في فتواه السابقة إلى قول المحقق
مفتي مكة المكرمة في القرن العاشر العلامة ابن ظهيرة في فتواه ما نصه بلفظه: إذا
اختلف حجبة البيت بما جرت به العادة، هل يقضى لهم بتقديم أكبرهم، وربما كان
غير مرضي الحال؟ يقضي للأكبر , وإن كان غير مرضي الحال، وإنما يجعل
معهم مشرفًا منهم، والقضاء بما جرت به العادة تشهد له بمسائل كثيرة لا تقاس
بوظيفة ما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أدفعها لكم، ولكن الله دفعها لكم) ،
صح، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مأثرة تحت قدمي هاتين إلا سدانة
البيت) , ولما رواه يونس , عن الزهري , عن سالم , عن أبيه قال: أخبرني بلال
وعثمان بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله بيتًا فاحترموه
واحترموا السدنة) ، وأيضًا أخرج الحافظ ابن حجر في شرح البخاري عند دخول
النبي صلى الله عليه وسلم من أعلا مكة: روى ابن عابد من طريق ابن جريح أن
عليًّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية؛ فنزلت: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: ٥٨) , فدعا عثمان , فقال:
(خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم) ، وفي طريق علي بن أبي
طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني شيبة كلوا مما يصل إليكم من
هذا البيت بالمعروف. قال الإمام فخر الرازي في تفسيره (ج٣ ص٢٣٨) قوله:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: ٥٨) إلى أن قال الإمام
- بعد أن ذكر القصة يوم الفتح -: وطلب صلى الله عليه وسلم المفتاح، وأخذه من
عثمان، وقال: (يا عثمان، خذ المفتاح على أن للعباس نصيبًا معك) ؛ فأنزل الله
هذه الآية , فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: (خذوها خالدة تالدة لا ينزعها
منكم إلا ظالم) . اهـ.
***
تعليق المنار على ما تقدم
إن في بعض عبارات هذه الفتاوى ما يؤخذ على أصحابه كإطلاق بعضهم
فيمن ينازع بني شيبة، أو يعارضهم بما يؤذيهم في عملهم قوله: (فمن فعل شيئًا
من ذلك استحق الطرد , والإبعاد، والخزي , والنكال من رب العباد؛ لدخوله في
سلك من ظلم) , فهذا غلو , وجرأة في أمر لا يمكن أن يعلم إلا بنص عن الله
ورسوله، وما كل من ظلم أحدًا بقول أو فعل يطرده الله من رحمته , ويبعده كما
طرد إبليس , وأبعده، أو يخزيه , وينكل به، كما يفعل بالمشركين به، فإن من
الظلم ما هو من الصغائر , ومنها ما هو من الكبائر كما هو معلوم , وقد شرح في
المنار من قبل. (وفيها) تساهل في إيراد بعض الروايات بعدم بيان مخرجيها من
أهلها، وعدم بيان المسند المرفوع من غيره، والصحيح من غيره، كما هي عادة
المفتين منذ القرون الوسطى ينقلون من كل كتاب يقع في أيديهم من غير تمحيص ,
(وفيها) إبهام لبعض المسائل كتغييب مفتاح البيت , ومسألة تعليل رفع بابه من
عهد الجاهلية، هذه المسائل باختصار , فنقول:
(أما السدانة) فهي حق بني شيبة بلا نزاع , وقد ثبت ذلك بالعمل المتواتر،
وقد شذ في بعض القرون بعض أمراء مكة بأخذ مفتاح البيت الحرام من الشيخ
الشيبي , فكان ذلك في نظر الناس أمرًا إمرًا، وشيئا نُكرًا، ولم يطل الأمد على
ذلك حتى ردت الأمانة إلى أهلها وقد فصلت هذه المسألة في الرحلة الحجازية
الأولى , وذكرت بعض الأحاديث الواردة فيها معزوة إلى مخرجيها , وهي في
(ص ١٥٢ و١٥٣ و١٥٤ من المجلد العشرين من المنار) , وفيها أن لأهل هذا
البيت أن يفخروا على جميع الناس بهذه الوظيفة القديمة الثابتة من قبل الإسلام،
التي أقرها لهم الله ورسوله ... إلخ، أي: ليس في الناس أهل بيت لهم مثل المزية ,
ومثل هذه الوظيفة الثابتة حكمًا وفعلاً , وقد حفظ بها نسبهم مع كرامة حسبهم، وقد
فاتني أن أسأل كبيرهم الشيخ محمد صالح رحمه الله في أيام رحلتي الأولى ,
والشيخ عبد القادر صاحب الاستفتاء في الرحلة الثانية عن نسبهم وعددهم، فإنا لا
نعلم شيئًا عن حفظ نسبهم الذي تضطرهم إليه هذه الوظيفة، فإن كانوا قد كثروا كما
كثر العلويون على ممر القرون، فيكف ضبطوا أنسابهم؛ ليعلم أكبرهم سنًّا، فيكون
صاحب المفتاح , ورئيس الحجاب لبيت الله تعالى , وأين يقيمون؟ وإن كانوا
قليلين , فما سبب ذلك؟ إننا نرجع إلى كبيرهم في طلب البيان , ولعله يجيبنا على
ذلك كتابة بالاختصار.
(وأما هدايا الكعبة والنذور لها) , فهي تختلف باختلاف ما تهدى , وتنذر له ,
وبالعرف , وأطلق بعضهم القول بأنها خاصة بها تحفظ؛ لينفق منها على عمارتها
عند الحاجة , وصرحوا بأنه لا يجوز إنفاق شيء منها على الفقراء , ولا في
المصالح.
وروى البخاري - واللفظ له - وأبو داود وابن ماجه عن أبي وائل قال:
جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر رضي
الله عنه , فقال: (لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء , ولا بيضاء إلا قسمته) ,
قلت: إن صاحبيك لم يفعلا. قال: (هما المرآن أقتدى بهما) . وفي بعض
الروايات عن شيبه أنه قال لعمر: ما أنت بفاعل. قال: (ولم ذاك؟) قلت:
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه , وأبو بكر , وهما أحوج إلى
المال , فلم يحركاه.
والمراد بهذا الكنز الذي كان فيها مما يهدى إليها , وكان في صندوق في البيت.
وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها في بناء الكعبة: (لولا أن
قومك حديثو عهد بكفر؛ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله) , فظاهر هذا التعليل أن
الامتناع من إنفاق الكنز كالامتناع من نقض بناء الكعبة , وإقامتها على أساس
إبراهيم صلى الله عليه وسلم , وإلصاق بابها بالأرض , وفتح باب آخر في مقابله ,
فقد علل ذلك صلى الله عليه وسلم في كلامه مع عائشة بحداثة عهد قومها بالكفر ,
وبالجاهلية , وخوف إنكار قلوبهم ذلك، وفي رواية: (خشية انكسار قلوبهم) ,
والروايات عنها في هذا ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهذا التعليل قد زال بتمكن
الإسلام , وهو يدل على عدم امتناع إنفاق كنزها في سبيل الله لذاته , فما بال الفقهاء
حرموا ذلك؟ وقد يقال: إن ذلك الكنز كان من أموال المشركين في الجاهلية ,
وما ذكروه من الهدايا والنذور في عهد الإسلام يخالفه في حكمه , فيجب صرفه فيما
وقف , أو نذر له , وهو مصالح البيت وحدها.
وقد روى الأزرقي في تاريخ مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في
الجب الذي كان في الكعبة سبعين ألف أوقية من ذهب مما كان يهدى للبيت، فقال
له علي رضي الله عنه: (يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك! فلم
يحركه) .
وفي هذه المسألة فروع ذكروا فيها أن لحجبة البيت (وهم آل شيبة) أن
يتصرفوا ببعض النذور التي جرى بها العرف.
ننقل الفروع الثلاثة الآتية منها عن كتاب (الجامع اللطيف، في فضل مكة
وأهلها وبناء البيت الشريف) للشيخ جمال الدين محمد جاد الله القريشي المخزومي
الحنفي من علماء مكة في القرن العاشر قال: فروع:
(الأول) تختص الكعبة الشريفة بما يهدى إليها , وما ينذر لها من الأموال ,
وامتناع صرف شيء منها إلى الفقراء , والمصالح إلا أن يعرض لها نفسها عمارة ,
فيصرف فيه , وإلا فلا يغير شيء عن وجهه.
نبه عليه الزركشي من الشافعية.
(الثاني) إذا نذر شمعًا يشعله فيها , أو زيتًا , ونحوه؛ وضعه في مصابيحها.
وإن كان لا يستعمل فيها؛ بيع وصرف الثمن في مصالحها , صرَّح به
الماوردي.
(الثالث) نقل الجد في منسكه مسألة تعم بها البلوى , فقال: شخص نذر أن
يوقد شمعًا على باب الكعبة , فأرسل به مع غيره؛ ليوقده , فجاء المرسل به ,
وأوقده على الباب قليلاً , فجاء الحجبة , فأخذوه , ومنعوا استمرار وقوده , وقالوا:
هذه عادتنا مع كل أحد. وربما سرقه نوابهم على غفلة بعد إيقاده قليلاً , فهل تبرأ
ذمة الناذر والمرسل معه , أو ذمة الناذر دون المرسل معه , أم كيف الحال؟
(الجواب) : الناذر خلص عن عهدة المنذور؛ لبلوغه محله , وكون الحجبة
يأخذونه أمر آخر لا يتعلق ببقاء النذر في ذمة الناذر , ولا المرسل معه، وإن كان
على الحجبة إبقاؤه موقودًا إلى نفاده , ولا خفاء أن الناذر نفسه لو حضر بالشمع ,
فكان ما تقدم؛ كان الحكم كذلك، ومحل صحة هذا النذر من أصله أن ينتفع بهذا
الموقود , ولو على ندور مصل هناك , أو غيره , وإلا فإن كان المقصد بالنذر ,
وهو الغالب تعظيم البقعة , ففيه وقفة.
ومقتضى كلام النووي عدم الصحة , وصرَّح به الأذرعي وتبعه الزركشي.
انتهى.
(أقول) : مقتضى مذهبنا أن المرسل بالشمع لا يخلص عن العهدة بمجرد
إيصال الشمع إلى المحل، بل ولا بوقوده قليلاً ما لم يوقد ثلثاه , فأكثر، وأما
الحجبة , فلهم أخذه بغير إذن المرسل إذا جرى العرف بذلك بعد أن وقد معظمه.
نصَّ عليه في القنية من كتب المذهب , انتهى بحروفه.
(تنبيه) إن الشمع الذي يوقد الآن على باب الكعبة لا ينتفع به أحد؛ لأن
الحرم كله يضاء بقناديل الكهرباء , وقناديل أخرى غازية، وبوضعه على عتبة
الباب يستقبله المصلون , واستقبال النار في الصلاة محظور؛ لما فيه من شبه
المجوس كما صرحوا به، ولعلهم تساهلوا فيه؛ لأن المراد به تعظيم الكعبة مع كون
شبه المجوس نسي , فلا يخطر بالبال.
(وأما كسوة الكعبة المعظمة) , فالأصل فيها أن أمرها إلى الإمام الأعظم ,
ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقسمها على الحجاج كما يأتي، ثم ترك الأئمة
والأمراء أمرها إلى بني شيبة حجبة الكعبة.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح - في شرح حديث عمر في كنز الكعبة الذي
تقدم آنفًا نقلاً عن ابن المنير -: (والذي يظهر جواز قسمة الكسوة العتيقة؛ إذ في
بقائها تعريض لإتلافها , ولا جمال في كسوة عتيقة مطوية) , (قال) : (ويؤخذ
من رأي عمر أن صرف المال في المصالح آكد من صرفه في كسوة الكعبة , لكن
الكسوة في هذه الأزمنة أهم) (قال) : واستدلال ابن بطال بالترك (أي: ترك
عمر لكنز الكعبة اتباعًا) على إيجاب بقاء الأحباس (أي: الأوقاف) لا يتم إلا إن
كان القصد بمال الكعبة إقامتها , وحفظ أصولها إذا احتيج إلى ذلك , ويحتمل أن
يكون القصد منه منفعة أهل الكعبة , وسدنتها، أو إرصاده لمصالح الحرم , أو لأعم
من ذلك، وعلى كل تقدير؛ فهو تحبيس (أي: وقف) لا نظير له , فلا يقاس عليه
انتهى.
(ثم قال الحافظ) عقب نقل هذا: (ولم أر في شيء من طريق حديث شيبة
(أي: مع عمر) هذا ما يتعلق بالكسوة , إلا أن الفاكهي روى في كتاب مكة من
طريق علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل
علي شيبة الحجبي , فقال: يا أم المؤمنين , إن ثياب الكعبة تجتمع عندنا؛ فننزعها ,
ونحفر بئرًا , فنعمقها , وندفنها؛ لكي لا تلبسها الحائض والجنب. قالت:
(بئسما صنعت، ولكن بعها , فاجعل ثمنها في سبيل الله , وفي المساكين , فإنها إذا
نزعت عنها؛ لم يضر من لبسها من حائض , أو جنب) , فكان شيبة يبعث بها إلى
اليمن؛ فتباع، فيضعها حيث أمرته.
وأخرجه البيهقي من هذا الوجه , لكن في إسناده راو ضعيف , وإسناد الفاكهي
سالم منه.
وأخرج الفاكهي أيضًا من طريق ابن خثيم: حدثني رجل من بني شيبة قال:
رأيت شيبة بن عثمان يقسم ما سقط من كسوة الكعبة على المساكين.
وأخرج من طريق ابن نجيح , عن أبيه أن عمر كان ينزع كسوة الكعبة كل
سنة؛ فيقسمها على الحاج اهـ.
وقد نقل القسطلاني في شرحه لهذا الحديث أقوالاً للشافعية في الكسوة ختمها
بنقله عن (المهمات) للإسنوي التفصيل الآتي:
واعلم أن للمسألة أحوالاً (أحدها) : أن توقف على الكعبة , وحكمها ما مر،
وخطأه غيره بأن الذي مر محله إذا كساها الإمام من بيت المال، أما إذا وقفت ,
فلا يتعقل عالم جواز صرفها في مصالح غير الكعبة.
(ثانيها) أن يملكها مالكها للكعبة , فلقيمها أن يفعل فيها ما يراه من تعليقها
عليها , أو بيعها , وصرف ثمنها إلى مصالحها.
(ثالثها) أن يوقف شيء على أن يؤخذ ريعه , وتكسى به الكعبة في عصرنا ,
فإن الإمام قد وقف على ذلك بلادًا.
(قال) : وقد تلخص لي في هذه المسألة أنه إن شرط الواقف شيئًا من بيع ,
وإعطاء لأحد أو غير ذلك؛ فلا كلام، وإن لم يشترط شيئًا إن لم يقف الناظر تلك ,
فله بيعها , وصرف ثمنها في كسوة أخرى , وإن وقفها فيأتي فيه ما مر من الخلاف
في البيع. نعم بقي قسم آخر , وهو الواقع اليوم في هذا الوقف , وهو أن الواقف لم
يشرط شيئًا من ذلك، وشرط تجديدها كل سنة مع علمه بأن بني شيبة كانوا يأخذونها
كل سنة لما كانت تستكسى من بيت المال , فهل يجوز لهم أخذها الآن , أو تباع
ويصرف ثمنها إلى كسوة أخرى؟ فيه نظر , والمتجه الأول. اهـ.
أقول: ذكرت هذا التفصيل؛ لأن المطلعين على كتب الفقه يرون فيها أقوالاً
مختلفة في المسألة سببها اختلاف التاريخ , والأحوال , والحالة الأخيرة التي ذكرها
القسطلاني هنا هي الثابتة إلى الآن، وهي أن الملك الصالح إسماعيل بن الناصر
ابن قلاوون صاحب مصر وقف قرية بيسوس (ويقال الآن: بسوس) من نواحي
القاهرة على كسوة الكعبة سنة ٢٤٣ , ومن ذلك العهد تصنع الكسوة في مصر في
كل عام، وهل العبارة في القسطلاني له وهو قد توفي في سنة ٩٢٣ , أم للأسنوي ,
وهو قد توفي سنة ٧٧٢؟ , الأظهر الأول، والحالة واحدة.
وفي الجامع اللطيف: نقل الفاسي رحمه الله أن أمراء مكة كانوا يأخذون من
السدنة ستارة باب الكعبة في كل سنة مع جانب كبير من كسوتها , أو ستة آلاف
درهم كاملة عوضًا عن ذلك إلى أن رفع ذلك عنهم السيد عنان بن مقاس لما ولي
أمر مكة سنة ٧٨٨ , وتبعه أمراء مكة في الغالب، ثم إن السيد حسن بن عجلان
بعد سنين من ولايته صار يأخذ منهم الستارة , وكسوة المقام , ويهديها لمن يريد من
الملوك , وغيرهم. انتهى (أي: كلام الفاسي) , وقد استمر الأمر كذلك من أمراء
مكة إلى يومنا هذا (أي: سنة ٩٥٠) اهـ.
وأقول: إن أمراء مكة صاروا يأخذون الكسوة العتيقة كل سنة , ويتصرفون
فيها إلى عهد الملك حسين بن علي , ثم ردها الملك عبد العزيز بن السعود إلى
الشيبي.
ثم أورد صاحب الجامع اللطيف فروعًا في المسألة، أولها في مسألتنا وهو:
(يجوز بيع ثياب الكعبة عندنا إذا استغنت عنه) ، وقال به جماعة من فقهاء
الشافعية , وغيرهم , ويجوز الشراء من بني شيبة؛ لأن الأمر مفوض إليهم من قبل
الإمام. نص عليه الطرسوسي من أصحابنا في شرح منظومته، ووافقه السبكي من
الشافعية , ثم قال: وعليه عمل الناس، والمنقول عن ابن الصلاح أن الأمر فيها
إلى الإمام يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعًا، وإعطاءً، واستدل بما تقدم
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي قواعد صلاح الدين خليل بن الكندي أنه
لا يتردد في جواز ذلك الآن لأجل وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها
في كسوة الكعبة , والوقف بعد استقرار هذه العادة , والعلم بها , فينزل لفظ
(الواقف) عليها، واستحسن النووي الجواز أيضًا , قال الجد رحمه الله: هذا في
الستور الظاهرة، وأما الستور الداخلة فلا تزال، بل تبقى على ما هي عليه؛ لأن
الكلام إنما هو في الستور التي جرت العادة أن تغير في كل عام، فلو قُدِّرَ جريان
العادة بمثل ذلك في الستور الباطنة؛ سلك بها مسلك الظاهرة؛ انتهى.
(وأما مسالة ارتفاع باب الكعبة) : فقد كان من استبداد قريش , وترفعهم ,
وأثرتهم على الناس، وإنما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة منكرًا له , لا
مجيزًا , ولم يذكر في السؤال , ولا في الفتاوى المسئول عنها نص الحديث كله في
ذلك , وهو في الصحيحين , ولفظه في البخاري عنها سألت النبي صلى الله عليه
وسلم عن الجَدَر (هو بالفتح الجِدار بالكسر والمراد به: الحجر، وقد ورد الحديث
في غيرهما بهذين اللفظين) أمن البيت هو؟ قال: (نعم) ، قلت: فما لهم لم
يدخلوه في البيت؟ قال: (إن قومك قصرت بهم النفقة [٤] ) , قلت: فما شأن بابه
مرتفعًا؟ قال: (فعل ذلك قومك؛ ليدخلوا من شاءوا , ويمنعوا من شاءوا، ولولا
أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية؛ فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر؛ أفعل
ذلك) ، كما زاد قوله: (ويمنعوا من شاءوا) , فكان الرجل إذا أراد أن يدخلها
يدعونه يرتقي حتى إذا كاد يدخل دفعوه؛ فسقط.
وفي حديث آخر للبخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة لولا
أن قومك حديث عهد بجاهلية؛ لأمرت بالبيت , فهدم , فأدخلت فيه ما أخرج منه ,
وألزقته بالأرض , وجعلت له بابين بابًا شرقيًّا , وبابًا غربيًّا , فبلغت به أساس
إبراهيم صلى الله عليه وسلم) ، قال: فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه إلخ.
وأقول: إن عبد الله بن الزبير فعل كل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم
يحب أن يفعله , فأعاده إلى أساس إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ورأى ذلك الأساس
المتين , ورآه الناس , وجعل له بابين، ولكن الحجاج هدم ما بناه، وأعاده كما كان،
ونقلوا أن عبد الملك بن مروان ندم على إذنه للحجاج في هدمها، ولعنه، وكان
اتهم ابن الزبير بالكذب على عائشة، فأخبره الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة أنه
سمع ذلك منها؛ فندم، وأراد بعض خلفاء بني عباس أن يعيدها إلى بناء ابن الزبير،
فناشده الإمام مالك أن لا يفعل؛ لئلا تصير ملعبة للملوك، فلهذا بقيت على وضعها إلى
الآن.
(وأما تغييب المفتاح) فلا أذكر أن أحدًا بحث في سببه، أو حكمته ,
فأراجع قوله، وكان الذي يسبق إلى فهمي كلما قرأت ذلك أن سببه مطالبة كل من
العباس وعلي رضي الله عنهما له بجعله لبني هاشم، فحسب صلى الله عليه وسلم
أنه ربما يراه أحد من بني هاشم مع طلحة , فينتزعه منه لعدم علمه بتخصيصه به
هو وآله من بعده , فتكون فتنة , وقد زال هذا السبب منذ العصر الأول , ولم يبق
لتغييب المفتاح معنى إلا إبقاء الباب مقفلاً في معظم الأوقات , وفتحه في أقلها ,
وهو خلاف ما كان يريده صلى الله عليه وسلم من فتح بابين لها مساويين للأرض؛
ليدخل الناس من أحدهما , ويخرجون من الآخر، والظاهر أن أئمة الحكم , وأئمة
العلم رأوا أن المصلحة العامة التي منعت النبي صلى الله عليه وسلم , ثم الخلفاء
الراشدين من تنفيذ ذلك , وبقاء الحال على ما كانت عليه من علو الباب , ووحدته
لا تزال تقتضي ذلك في كل زمان , وإن اختلفت العلة، فلو جعل الباب الآن مفتوحًا
في كل وقت لامتهن البيت , وقل احترامه , وحدثت فيه بدع ومنازعات عند
الازدحام , ففتحه في بعض الأوقات , وتخصيص بعض الناس بدخوله دون بعض
يقي من ذلك كله مع مراعاة الشيبيين للحكمة , ومداراة الناس في ذلك.
وجملة القول أن السدانة ثابتة لبني شيبة بالتواتر , والله أعلم.