للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أثارة من تاريخ العرب في الأندلس
تنبئ عن هدي الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله،وجمعه بين الدين
والدنيا، ومكانة علماء الدين في عهده، وقبوله منهم الإغلاظ في وعظه، وعن
سيرة قضاة العدل وعلماء الآخرة الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يخافون
في الحق صولة حاكم، على ورع يزينه ظرف ولطف ودعابة لا مهانة فيها ولا
سخف، يتمثل ذلك كله في ترجمة الوزير الفتح بن خاقان للقاضي البلوطي في كتابه مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس. قال عفا الله عما
تكلف من إبداع، وما صنعه من أسجاع:

الفقيه القاضي أبو الحسن منذر بن سعيد البلوطي
رحمه الله تعالى
أية حركة في سكون، وبركة لم تكن معدة ولا تكون! ، وأية سفاهة في تحلم،
وجهامة ورع في طي تبسم، إذا جد تجرد، وإذا هزل نزل، وفي كلتا الحالتين
لم ينزل للورع عن مرقب، ولا اكتسب إثمًا، ولا احتقب، ولي قضاء الجماعة
بقرطبة أيام عبد الرحمن، وناهيك من عدل أظهر، ومن فضل اشتهر، ومن جور
قبض، ومن حق رفع، ومن باطل خفض، وكان مهيبًا طيبًا صارمًا غير جبان،
ولا عاجز، ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم، واستمر
في القضاء إلى أن مات الناصر لدين الله، ثم ولي ابنه الحكم فأقره، وفي خلافته
توفي، بعد أن استعفى مرارًا فما أُعفي، فلم يُحفظ عليه مدة ولايته قضية جور،
ولا عدت عليه في حكومته زلة، وكان غزير العلم كثير الأدب، متكلمًا بالحق،
متبينًا بالصدق، له كتب مؤلفة في السنة والقرآن والورع، والرد على أهل الأهواء
والبدع، وكان خطيبًا بليغًا، وشاعرًا محسنًا، وُلِد سنة ثلاث وعشرين (ومائتين)
عند ولاية المنذر بن محمد، وتوفي يوم الخميس لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة
خمس وثلاثين وثلاثمائة.
(ومن شعره في الزهد)
كم تَصابى وقد علاك المشيب ... وتعامى عمدًا وأنت اللبيب
كيف تلهو وقد أتاك نذير ... أن يوم الحمام منك قريب
يا سفيهًا قد حان منه رحيل ... بعد ذاك الرحيل يوم عصيب
إن للموت سكرة فارتقبها ... لا يداويك إن أتتك طبيب
كم تراني [١] حتى تصير رهينًا ... ثم تأتيك دعوة فتجيب
بأمور المعاد أنت عليم ... فاعملن جاهدًا لها يا رتيب
وتذكر يومًا تحاسب فيه ... إن من يذَّكر فسوف ينيب
ليس من ساعة من الدهر إلا ... للمنايا عليك فيها رقيب
الخطابة في الاحتفالات الرسمية:
وذكر أن أول سببه في التعلق في الناصر لدين الله، ومعرفته به وزلفاه، أن
الناصر لما احتفل لدخول رسول ملك الروم، وصاحب القسطنطينية بقصر قرطبة
الاحتفال الذي اشتهر ذكره، وانبهر أمره، أحب أن تقوم الخطباء والشعراء بين
يديه تذكر جلالة مقعده، ووصف ما تهيأ له من توطد الخلافة، ورمي الملوك
بآمالها، وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه بإعداد من يقوم لذلك من الخطباء، ويقدمه أمام
نشيد الشعراء [٢] ، فتقدم الحكم إلى أبي علي البغدادي [٣] ضيف الخلافة، وأمير
الكلام، وبحر اللغة أن يقام، فقام رحمه الله، وأثنى على الله، وصلى على النبي
- صلى الله عليه وسلم - ثم انقطع، وبهت فما وصل إلا قطع، ووقف ساكتًا
متفكرًا، وتشوف لا ناسيًا ولا متذكرًا.
ارتجال العلماء الخطابة حتى في السياسة:
فلما رأى ذلك منذر بن سعيد قام بذاته، بدرجة من مرقاته، فوصل افتتاح
أبي علي البغدادي بكلام عجيب، ونادى من الإحسان في ذلك المقام كل مجيب،
وقال: أما بعد فإن لكل حادثة مقامًا، ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال،
وإني قد قمت في مقام كريم، بين يدي ملك عظيم، فأصغوا لي بأسماعكم،
وأمنوا علي بأفئدتكم، معاشر الملأ! إن من الحق أن يقال للمحق صدقت، وللمبطل
كذبت، وإن الجليل تعالى في أسمائه، وتصدق بصفاته [٤] أمر كليمه موسى صلى
الله على نبينا، وعليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أن يذكر بنعم الله - عز
وجل - عندهم، وأنا أذكركم نعم الله تعالى عليكم، وتلافيه لكم، بخلافة أمير
المؤمنين التي آمنت سربكم، ورفعت خوفكم، وكنتم قليلاً فكثركم، ومستضعفين
فقواكم، ومستذلين فنصركم، ولاه الله رعايتكم، وأسند إليه إمامتكم، أيام ضربت
الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم تشعل النفاق، حتى صرتم في مثل حدقة
البعير، مع ضيق الحال ونكد العيش والتغيير، فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء
، وانتقلتم بيمن سياسته إلى كنف العافية بعد استيطان البلاء، ناشدتكم يا معشر الملأ
ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها، والسبل مخوفة فأمَّنها، والأموال منتهبة فأحرزها
وحصنها؟ ألم تكن البلاد خرابًا فعمرها، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها
ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته، وتلافيه جمع كلمتكم بعد افتراقها
بإمامته، حتى أذهب عنكم غيظكم، وشفى صدوركم، وصرتم يدًا على عدوكم،
بطوية خالصة، وبصيرة ثابتة وافرة، فقد فتح الله عليكم أبواب البركات،
وتواترت عليكم أسباب الفتوحات، وصارت وفود الروم وافدة عليكم، وآمال
الأقصين والأدنين إليكم، يأتون من كل فج عميق، وبلد سحيق، ولا أحد يحيل
بينه وبينكم ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، ولن يخلف الله وعده، ولهذا الأمر ما بعده
، وتلك أسباب ظاهرة تدل على أمور باطنة، دليلها قائم، وغيبها عالم {وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (النور:
٥٥) وليس في تصديق ما وعد الله - عز وجل - ارتياب، ولكل نبأ مستقر،
ولكل أجل كتاب، فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه، وسلوه المزيد من نعمائه،
فقد أصبحتم بين خلافة أمير المؤمنين أيده الله تعالى بالعصمة والسداد، وألهمه
بخالص التوفيق سبيل الرشاد، فاستعينوا على صلاح أحوالكم، بالمناصحة لإمامكم،
والتزام الطاعة لخليفتكم، وابن عم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فإن من نزع
يده من طاعة، وسعى في فرقة الجماعة، وفر من الديانة، فقد خسر الدنيا والآخرة،
ألا ذلك هو الخسران المبين. وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من
ضروب المشركين، وصنوف الملحدين، الساعين في شق عصاكم، وتفريق ملتكم،
وهتك حرمتكم، وتوهين دعوة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وعلى جميع
النبيين والمرسلين، أقول قولي هذا والحمد لله رب العالمين وأنشد يقول:
مقال كحد السيف وسط المحافل ... فرقت به ما بين حق وباطل
بقلب ذكي ترتمي جنباته ... كبارق رعد عند نقش الأناصل
فما دحضت رجلي ولا زل مقولي ... ولا طار عقلي يوم تلك البلابل
بخير إمام كان أو هو كائن ... لمقتبل أو في العصور الأوائل
وقد حدَّقت نحوي عيونٌ أخالها ... كمثل سهام أثبتت في المقاتل
ترى الناس أفواجًا يؤمون داره ... وكلهم ما بين راضٍ وآمل
وفود مليك الروم وسط فنائه ... مخافة بأس أو رجاء لسائل
فعش سالمًا أقصى حياة معمر ... فأنت غياث كل حافٍ وناعل
فقال العلج: هذا والله كبش الدولة، وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه،
وثبات جنانه، وبلاغة لسانه.
خطبة ارتجالية قربت عالمًا من الخليفة:
وكان الخليفة الناصر لدين الله أشد تعجبًا منه، وأقبل على ابنه الحكم، ولم
يكن يثبت معرفة عينه، وقد سمع باسمه، فقال الحكم: هذا منذر بن سعيد البلوطي،
فقال والله لقد أحسن ما أنشأ [٥] ، ولئن أبقاني الله تعالى لأرفعن من ذكره، فضع
يدك يا حاكم واستخلصه وذكرني بشأنه، فما للصنيعة مذهب عنه، فلما انتهى
الناصر إلى الجامع بالزهراء ولاه الصلاة فيها والخطبة، ثم توفي محمد بن عيسى
القاضي فولاه قضاء الجماعة بقرطبة وأقره على الصلاة بالزهراء.
جهر القاضي بإنكار إسراف الخليفة:
وكان الخليفة الناصر كَلِفًا بعمارة الأرض، وإقامة معاملها، وتكثير مياهها،
واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوة ملكه، وعزة سلطانه
وعلو همته، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى ابتناء مدينة الزهراء الشائع ذكره،
الذائع خبره، المنتشر في الأرض أثره، واستفرغ وسعه في تنجيدها، وإتقان
قصورها، وزخرفة مصانعها؛ فانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد
الجامع الذي اتخذه، فأراد القاضي منذر بن سعيد رحمه الله وجه الله في أن يعظه،
ويُقَرِّعه في التأنيب، ويقص منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطابة،
والتذكير بالإنابة.
فابتدأ أول خطبته بقوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ
مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا
الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء: ١٢٨-١٣٥) ووصل ذلك بكلام جزل، وقول
فصل، جاش به صدره، وقذف به على لسانه بحره، وأفضى في ذلك إلى ذم
المشيد والاستغراق في زخرفته، والسرف في الإنفاق عليه، فجرى في ذلك طلقًا،
وتلا في ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم
مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ} (التوبة: ١٠٩-١١٠) وأتى بما شاكل المعنى من التخويف للموت،
والتحذير منه، والدعاء إلى الله - عز وجل - في الزهد في هذه الدنيا الفانية،
والحض على اعتزالها، والتبيين لظاهر معانيها، والترغيب في الآخرة وباقيها،
والتقصير عن طلب الدنيا، ونهي النفس عن اتباع الشهوات، وتلا من القرآن
العظيم ما يوافقه، وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله ويطابقه، حتى بكى الناس
وخشعوا، وضجوا وتضرعوا، وأعلنوا الدعاء إلى الله تعالى.
فعلم الخليفة أنه المقصود به، والمتعمد بسببه، فاستجدى وبكى، وندم على
ما سلف منه من فرطه، واستعاذ بالله من سخطه، واستعصمه برحمته: إلا أنه
وجد على منذر بن سعيد للفظه الذي قرعه به، فشكا ذلك إلى ولده الحكم بعد
انصرافه، وقال: والله لقد تعمدني منذر بخطبته، وأسرف في ترويعي، وأفرط
في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي وصيانتي عن توبيخه، ثم استشاط،
وأقسم أن لا يصلي خلفه الجمعة أبدًا، فقال له الحكم: وما الذي يمنعك عن عزل
منذر بن سعيد والاستبدال به؟ فزجره وانتهره، وقال: أمثل منذر بن سعيد في
فضله وورعه وعلمه وحلمه - لا أمّ لك - يُعْزَل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد،
سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون، وإني لأستحيي من الله تعالى أن لا أجعل
بيني وبينه شفيعًا في صلاة الجمعة مثل منذر بن سعيد؛ ولكنه وقذ نفسي وكاد
يذهبها، والله لوددت أن أجد سبيلاً إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس
حياته وحياتنا فما أظننا نعتاض منه أبدًا.
وعذله قوم من إخوانه لتكنيته لرجل كان يسبه فقال:
لا تعجبوا من أنني كنيته ... من بعد ما قد سبَّنا وهجانا
فالله قد كنى أبا لهب وما ... كناه إلا خزية وهوانا
ومن قوله في الزهد:
ثلاث وستون قد حزتها ... فماذا تؤمل أن تنتظر
وحل عليك نذير المشيب ... فما ترعوي بل وما تزدجر
تمر لياليك مرًّا حثيثًا ... وأنت على ما أرى مستمر
فلو كنت تعقل ما ينقضي ... من العمر ما اعتضت خيرًا بشر
فما لك لا تستعد إذًا ... لدار المقام ودار المقر
أترغب في فجأة المنون؟ ... وتعلم أن ليس منها وزر
فإما إلى جنة أزلفت ... وإما إلى سقر يستعر
استسقاء القاضي بالناس مع الخليفة:
وقحط الناس في بعض السنين آخر مدة الناصر لدين الله أمير المؤمنين، فأمر
القاضي منذر بن سعيد بالبروز إلى الاستسقاء، فتأهب لذلك، وصام بين يديه ثلاثة
أيام تنفلاً، وإنابة، واستجداء، ورهبة، واجتمع الناس له في مصلى بقرطبة
بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانع
القصر المشرفة ليشرك الناس في الدعاء إلى الله تعالى والضراعة - فلما سرح
طرفه في ملاء الناس، وقد شخصوا إليه بأبصارهم قال:
يا أيها الناس - وكررها مشيرًا بيده في نواحيهم - ثم قال: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: ٥٤) ، {أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الغَنِيُّ الحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (فاطر: ١٥-١٧) فضج الناس بالدعاء، وارتفعت الأصوات بالاستغفار،
والتضرع إلى الله تعالى بالسؤال والرغبة في إرسال الغيث، ووصل الحال [٦] ،
ومضى على تمام خطبته، فأفزع النفوس بوعظه، وانبعث الإخلاص بتذكيره، فما
أتم خطبته حتى بللهم الغيث.
وذكروا أن الخليفة الناصر لدين الله جاء غداة ذلك اليوم، فحركه للخروج
وذكر له عزمه عليه، والسابقون متسابقون إلى المصلى، فقال للرسول - وكان من
خواص حلفاء الصفاء إليه-: ياليت شعري! ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال
له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا، فإنه لمنتبذ حائر، متفرد بنفسه لابس
أخشن الثياب، مفترش التراب، قد رمى به على رأسه وعلى لحيته، وبكى
واعترف بذنوبه وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تعذب الرعية وأنت أحكم
الحاكمين لن يفوتك شيء مني؟ [٧] قال: فتهلل وجه القاضي منذر بن سعيد عندما
سمع من قوله، وقال يا غلام! احمل الممطر [٨] معك فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا
خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء، وكان كما قال فلم ننصرف إلا عن
السقيا.
استقلال القضاء وإيثار القاضي مصلحة اليتيم على رغبة الخليفة:
قال: وكان القاضي منذر بن سعيد من ذوي الصلابة في أحكامه، والمهابة
في أقضيته، وقوة القلب في القيام بالحق في جميع ما يجري على يديه، لا يهاب
في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه، ومن مشهور ما جرى لفه في ذلك قصته
المشهورة في أيتام أخي نجدة، حدثني بها جماعة من أهل العلم والرواية، وهي أن
الخليفة الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد احتاج إلى شراء دار بقرطبة لحظية
من نسائه تكرم عليه، فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد زكريا أخي نجدة كانت
بقرب النشارين في الربض الشرقي منفصلة عن دور يتصل بها حمام العامة له غلة
واسعة، وكان أولاد زكريا أيتامًا في حجر القاضي، فأرسل الخليفة له من قيمتها
بعدد ما طابت به نفسه، وأرسل ناسًا وأمرهم بمداخلة وصي الأيتام في بيعها عليهم،
فذكر أنه لا يجوز إلا بأمر القاضي، إذ لم يجز بيع الأصل إلا عن رأيه ومشورته،
فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر في بيع هذه الدار، فقال لرسوله: البيع على
الأيتام لا يصح إلا لوجوه، منها الحاجة ومنها الوهي الشديد [٩] ، ومنها الغبطة١٠]
أما الحاجة فلا حاجة بهؤلاء الأيتام إلى البيع، وأما الوهي فليس فيها، وأما
الغبطة فهذا مكانها؛ فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما يستبين به الغبطة، أمرت
وصيهم بالبيع، وإلا فلا، فنقل جوابه هذا إلى الخليفة، فأظهر الزهد في شراء
الدار طمعًا أن تتراخى رغبته فيها، وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق
الأولاد سورتها، فأمر وصي الأيتام بنقض الدار، وبيع أنقاضها ففعل ذلك، وباع
الأنقاض، وكانت لها قيمة بأكثر مما قُومت به للسلطان، فاتصل الخبر به فعز
عليه خرابها، وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها، فأحال الوصي على
القاضي أنه أمر بذلك، فأرسل عند ذلك للقاضي وقال له: أنت أمرت بنقض دار
أخي نجدة؟ فقال له: نعم، قال له: وما دعاك إلى ذلك؟ قال أخذت فيها بقول الله
تبارك وتعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا
وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} (الكهف: ٧٩) فمقوّمك لم يقدرها إلا
بكذا؛ وبذلك تعلق وهمك، فقد نص في أنقاضها أكثر من ذلك [١١] ، وبقيت الدار،
والحمَّام فضلاً، ونظر الله تعالى للأيتام، فصبر الخليفة على ما أتى من ذلك، وقال:
نحن أول من انقاد إلى الحق فجزاك الله تعالى عنا وعن أمانتك خيرًا.
الوقار والديانة، مع الظرف والدعابة:
قال: وكان على متانته وجزالته حسن الخلق كثير الدعابة، فربما ساء ظن
من لا يعرفه حتى إذا رام أن يصيب من دينه شعرة ثار عليه ثورة الأسد الضاري.
فمن ذلك ما حَدَّث به سعيد ابنه قال: قعدنا ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم
مع أبينا للإفطار بداره البرانية، فإذا بسائل يقول: يا أهل هذه الدار الصالحين
أطعمونا من عشائكم أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنة هذه الليلة، وأكثر من ذلك
فقال القاضي: إن استجيب لهذا السائل فيكم فليس يصبح منا واحد.
وحكى عنه قاسم بن أحمد الجهني أنه ركب يومًا لحيازة أرض محبسة في
ركب من وجوه الفقهاء وأهل العدالة، فيهم أبو إبراهيم اللؤلؤي، قال: فسِرنا نقفوه
وهو أمامنا، وأمامه يحملون خرائطه [١٢] وعلى ذويه السكينة والوقار، وكانت
القضاة حينئذ لا تراكب ولا تماشى [١٣] فعرض له في بعض الطريق كلاب مستوحمة،
وهي تلعق منها وتدور حوله، فوقف وصرف وجهه إلينا وقال: ترون يا
أصحابنا ما أبر الكلاب بالهن الذي تلعقه وتكرمه، ونحن لا نفعل ذلك! ! ثم لوى
عنان دابته وقد أضحكنا، وبقينا متعجبين من هزله.
وحضر عند الحكم المستنصر بالله يومًا في خلوة له في بستان الزهراء على
بركة ماء طافحة، وسط روضة نافحة، في يوم شديد الوهج، وذلك إثر منصرفه
من صلاة الجمعة فشكا إلى الخليفة من وهج الحر الجهد، وبث منه ما تجاوز الحد
فأمره بخلع ثيابه، والتخفف من جسمه، ففعل ولم يطفئ ذلك ما به، فقال له:
الصواب أن تنغمس في وسط الصهريج انغماسة يبرد بها جسمك، ولم يكن مع
الخليفة إلا الحاجب جعفر الخادم الصقلي أمينه، والحكم لا رابع لهم؛ فكأنه استحيا
من ذلك وانقبض عنه وقارًا، وأقصر عنه إقصارا، فأمر الخليفة حاجبه جعفرًا
بسبقه بالنزول في الصهريج، وكان يحسن السباحة، فجعل يجول يمينًا وشمالاً،
فلم يسع القاضي إلا إنفاذ أمر الخليفة، فقام وألقى بنفسه خلف جعفر، ولاذ بالقعود
في درج الصهريج، وتدرج فيه بعض تدريج، ولم ينبسط في السباحة، وجعفر
يمر مصعدًا ومصوبًا، فدسه الحكم على القاضي، وحمله على مساجلته في العوم -
فهو يعجزه في إخلاده إلى القعود، ويعاتبه بإلقاء الماء عليه، والإرشاد بالجذب إليه
وهو لا ينبعث معه، ولا يفارق موضعه، إلى أن كلمه الحكم، وقال له: ما لك لا
تساعد الحاجب في فعله وتقفز معه، وتتقيل صنعه، فمن أجلك نزل، وبسببك تبذل؟
فقال له: يا سيدي يا أمير المؤمنين الحاجب - سلمه الله - لا هوجل [١٤] معه،
وأنا بهذا الهوجل الذي معي يعلقني، ويمنعني من أن أجول معه مجاله، فاستفرغ
الحكم ضحكًا من نادرته، ولطيف تعريضه لجعفر، وخجل جعفر من قوله وسبه
سب الأشراف، وخرجا من الماء، وأمر لهما الخليفة بخلع ووصلهما بصلات سنية
تشاكل كل واحد منهما.
وذكر أن الخليفة الحكم قال له يومًا: لقد بلغني أنك لا تجتهد للأيتام، وأنك
تقدم لهم أوصياء سوء يأكلون أموالهم قال: نعم وإن أمكنهم ...... أمهاتهم لم يعفوا
عنهن؟ قال: وكيف تقدم مثل هؤلاء، قال: لست أجد غيرهم؛ ولكن أحلني على
اللؤلؤي، وأبي إبراهيم، ومثل هؤلاء فإن أبوا جبرتهم بالسوط والسجن ثم لا
تسمع إلا خيرًا.
إنكار القاضي على الخليفة، وإنصاف الناصر وقوة دينه:
ومن أخبار منذر بن سعيد المحفوظة مع الخليفة عبد الرحمن في إنكاره عليه
الإسراف في البناء - أن عبد الرحمن كان قد اتخذ إلى السطح العتبة الصغرى التي
كانت مائلة إلى الصرح الممرد المعروف بقصر الزهراء المشهور بأن له قرامد
ذهب، وفضة أنفق عليها مالاً جسيمًا، وجعل سقفها صفراء فاقعة، إلى بيضاء
ناصعة، تسلب الأبصار بمطارح أنوارها المشعشعة، وجعل فيها إثر إتمامها لأهل
مملكته مشهدًا، فقال لقرابته ومن حضره من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرًا عليهم
بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة: هل رأيتم قبلي أو سمعتم من
فعل مثل فعلي هذا أو قدر عليه؟ فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، إنك لأوحد في
شأنك كله، ولا سبقك في مبتدعاتك هذه ملك رأيناه، ولا انتهى إلينا خبره، فأبهجه
قولهم.
وبينا هو كذلك سارٌّ ضاحك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد واجمًا ناكسًا
ذقنه، فلما أخذ محله قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف واقتداره على إبداعه،
فجرت دموع القاضي تنحدر على لحيته، وقال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت
أن الشيطان - أخزاه الله - يبلغ بك هذا المبلغ، ولا أن تُمَكِّنه من قيادك هذا
التمكين، مع ما آتاك الله، وفَضَّلَك على العالمين، حتى أنزلك منازل الكافرين! !
قال: فاقشعر عبد الرحمن من قوله، وقال: انظر ما تقول كيف أنزلني منازلهم؟
قال: نعم أليس الله تبارك وتعالى يقول {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا
لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً
وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} (الزخرف: ٣٣-٣٤) قال: فوجم الخليفة، ونكس رأسه
مليًّا، ودموعه تجري على لحيته خشوعًا لله تبارك، وندمًا إليه، ثم أقبل على منذر،
وقال له: جزاك الله تعالى يا قاضي خيرًا عنا، وعن المسلمين والدين، وكثَّر في
الناس أمثالك، فالذي قلت هو والله الحق وقام من مجلسه ذلك وهو يستغفر الله
تعالى، وأمر بنقض سقف القبة وأعاد قرامدها ترابًا. اهـ.