للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مجلة الرابطة الشرقية
ودعاية التجديد الإلحادية واللادينية ودعاته

نشرت جمعية الرابطة الشرقية في ١٧ صفر في هذا العام (إعلانًا) للمجلة
التي قررت إنشاءها نشرناه لها في الجزء الخامس من المنار الذي صدر في سلخ
ربيع الأول، وإذا كان آخر كلمة في الإعلان أن لجنة المجلة هي: (الرئيس السيد
عبد الحميد البكري مدير المجلة: أحمد شفيق باشا المشرف على التحرير، الأستاذ
علي عبد الرازق) قَفَّيْنَا عليه بقولنا:
(نحمد الله أن آن إصدار هذه المجلة التي قررنا إصدارها من أول العهد
بإنشاء الجمعية (وفي الأصل المجلة وهو غلط بالطبع) ولكن نخشى أن يظهر فيها
شيء من شذوذ المراقب الذي يسوء جميع المسلمين كدفاعه عن الترك، وثنائه على
خطة حكومتهم في نبذ الإسلام وراء ظهورهم، ومحاولة إزالة كل أثر له في شعبهم،
ولكن الرجاء في سماحة الرئيس وسعادة الوكيل أن يحولا دون ذلك فالمراقب لا بد
له من مراقبة) اهـ.
نشرنا هذا التنبيه والتحذير راجين أن يكون حائلاً دون ما نخشى ونحذر على
مجلة جمعيتنا من تأييد الدعاية الإلحادية الجديدة التي قد توجب علينا أن نؤذن مجلة
جمعيتنا بالحرب (كما حذرنا الأفغان ووزيره الأكبر من تقليد الترك الكماليين في
حكومتهم اللادينية وأنذرنا الوزير سوء عاقبة هذا التقليد في بلادهم لئلا نضطر إلى
عدائهم، ونحن نحب أن نكون من أنصارهم، كما يجب علينا لكل شعب إسلامي ولا
سيما قوم أستاذنا الأكبر في السياسة الإسلامية والشرقية السيد جمال الدين الأفغاني
رحمه الله تعالى) ويسوءنا أن وقع ما كنا نتوقع في مجلتنا وفي شعب أستاذنا.
صدر العدد الأول من مجلة الرابطة الشرقية، فإذا هي مجلة لا دينية تؤيد ما
يسميه ملاحدة هذا العصر بالتجديد اللاديني وتحرير المرأة المسلمة، وتدافع عن
الترك والفرس والأفغان فيما يحاولونه من تجديد يهدم الإسلام، على احتراس قليل
في التعبير هو أقرب إلى الدفاع عن مصطفى كمال وأمان الله خان منه إلى الهجوم
عليهما، وينبئ عن الخشية عليهما من الفشل لا عن تمنيه لهما، وإذا بنا نرى فيه
مقالة للدكتور طه حسين الذي اشتهر بالطعن في الإسلام وتكذيب القرآن (العظيم
المجيد الكريم الحكيم) وخلاصة لبحثه الجهلي السخيف في ضمير الغائب واستعماله،
اسم إشارة في القرآن الكريم، ومقالة أخرى لأستاذه الدكتور منصور فهمي داعية
التجديد من ناحية الفلسفة في باب خاص به عنوانه (صفحات شرقية) ومقالة
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق شقيق الأستاذ علي عبد الرازق رئيس تحرير
المجلة، فإذا كان هذان الأستاذان يساعدان المجلة في تحريرها؛ لأنهما عضوان في
مجلس إدارتها، فما بال الدكتور طه حسين، وما الذي وضع اسمه في العدد الأول
في مقالين اثنين على اشتهاره بين مسلمي مصر وغيرها بالطعن في الإسلام؟
بعد صدور هذا العدد بأيام جاءني كتاب من بعض أهل العلم الإسلامي الداعي
إلى الإصلاح يقول فيه ما معناه: إن أهل الغيرة الإسلامية المحبين للمنار وصاحبه
المحسنين للظن به ينتظرون أن ينشر في الجرائد اليومية أنه خرج من جمعية
الرابطة الشرقية وتبرأ منها بعد أن ظهرت خطتها اللادينية في مجلتها، ثم تكلم
معي بعض أعضائها في وجوب تلافي هذا الأمر وتداركه.
ثم ظهر العدد الثاني من المجلة فإذا هو أصرح من العدد الأول فيما ذكر،
وإذا بنا نرى من محرريه الدكتور طه حسين الذي تعبر عنه المجلة بكلمة (صديقنا)
وأستاذه وسلامة موسى عدو الأديان كافة والإسلام خاصة، وعدو الآداب والفضائل
الروحية، وعدو الرابطة الشرقية من وطنية وجنسية ولغوية، وداعية الكفر والوقاحة
والتهتك اللذين يعبر عنهما بالأدب المكشوف، ويرجحه على ضده من الصيانة
والحياء الذي يسميه الأدب المستور، والدكتور هيكل بك رئيس تحرير جريدة
السياسة داعية الثقافة اللادينية، والأستاذ أحمد أمين أحد أركانها، فمن ذا الذي جعل
هذه المجلة ميدانًا لسباق أشهر فرسان الإلحادية وجعلها لسان حالهم ومقالهم؟
وإذا بنا نرى من موضوعات هذا العدد مقالة وجيزة عنوانها (البرنيطة في
بلاد الشرق) بدأها الكاتب ولعله المشرف على تحريرها بقوله: (من غريب
المصادفات أن يتفق زعماء النهضة في بلاد الإسلام: تركيا وفارس وأفغانستان
على إلزام أممهم قهرًا بلبس البرنيطة رغم العقيدة الفاشية في تلك الأمم عن البرنيطة
من أنها شعار نصراني خاص لا يرضى به إلا مسلم خارج عن دينه) إلخ.
ثم قال في أواخرها: (الحق أننا لا نزال عند رأينا في أمر البرنيطة من أنها
أهون شأنًا من أن يختلف فيها اثنان، أو ينتطح فيها عنزان، وخطأ الدعاة إليها
والمعارضين لها في تعظيم أمرها) .
***
تنويه مجلة الرابطة الشرقية
بإلحاد الكماليين
وإذا بنا نرى من موضوعاته مقالة أخرى في تعظيم شأن النهضة التركية في
المعارف وغيرها، ولا سيما نشر التعليم العام بالحروف اللاتينية الناسخة للحروف
العربية، وزعم الكاتب أن هذا الانقلاب العلمي الأخير في تركيا ليس له نظير في
تاريخ البشر؛ لأنه جعل المدن والقرى في جميع المملكة مدرسة كبرى (غرف
فُصُلوها الأندية والمقاهي والمساجد ... ) ثم نَوَّهَ بعظمة الغازي مصطفى كمال الذي
هو الأستاذ الأكبر لهذه المدرسة العامة الشاملة لجميع أفراد الأمة التركية!
أيظن الكاتب الذي جُنَّ في الدعاية الكمالية فعظم ما ليس بعظيم، أن الناس
كلهم مجانين يأخذون هذا التنويه الجنوني بالتسليم، بعيشك أيها القارئ ألم يكن
صاحب المنار فيما توقعه من مصطفى كمال وأمان الله خان ثم من الرابطة الشرقية
غيدرًا [١] وداعيًا إلى الرشد لِمَ لَمْ يزدهم دعاؤه إلا فرارًا؟
***
خداع طه حسين للأزهريين
بترك الدنيا للملحدين
وإذا بنا نرى من موضوعاته مقالة للدكتور طه حسين حاول فيها إقناع الأستاذ
الأكبر شيخ الجامع الأزهر بأن يجعل التعليم فيه وفي سائر المعاهد الدينية موجهًا
إلى الدعوة والإرشاد دون القضاء الشرعي والتعليم في المدارس وغير ذلك من
أعمال الحكومة والمصالح الدنيوية اللادينية تبعًا لمذهب التجديد القاضي بفصل أمر
الدين عن أمور الدنيا خلافًا للإسلام.
ونرى من المناسب أن ننتقل على سبيل الاستطراد من سرد المباحث التي
تسمى التجديدية، وكتابها في مجلة الرابطة الشرقية، إلى ذكر شيء جديد في مقال
الدكتور طه حسين، وهو أنه يذكر الله تعالى في هذه المقالة ويسمي الإسلام دين الله
والقرآن كلام الله، فقد قال في آخر هذه المقالة:
(ألا إن سبيل الأزهر إلى الخير واضحة إن أراد أن يسعى إلى الخير حقًّا
فليخرج لنا وعاظًا مرشدين خليقين بهذا اللقب، وليخرج لنا دعاة إلى دين الله وذادة
عنه وحماة له، وليدع الدنيا وأعراضها للذين تعنيهم أعراض هذه الحياة الدنيا، فقد
صدق الله تعالى حين قال:] وَاضْرِبْ لَهُم [٢ {مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} (الكهف: ٤٥)
فليدع الأزهر هذا الهشيم الذي تذوره الرياح، وليدع الأزهر هذا الزبد الذي يذهب
جفاء) .
ونقول: الظاهر أن هذا التصريح الجديد في هذه المقالة يقصد به التأثير
وإقناع شيخ الأزهر ورجال الإصلاح بهذه النصيحة الخادعة وإيهامهم أنها مقتضى
كلام الله تعالى، وشيخ الأزهر وعلماء الأزهر يعلمون أن الإسلام جمع لأهله بين
مصالح الدنيا والآخرة، وأن هذا المثل الذي ذكرهم به الدكتور ليس معارضًا لقوله
تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: ٢٩) وقوله: {قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: ٣٢) وأمثال ذلك من الآيات التي
ترشد المسلمين إلى جميع الكائنات، والآيات التي وعدهم الله بها بأن يجعلهم خلفاء
الأرض ويمكن لهم فيها السلطان والمجد وإنما ذلك مثل لتصغير متاع الحياة الدنيا
بالنسبة إلى سعادة الآخرة؛ لئلا يشغلهم الغرض الأدنى عن الغرض الأعلى، وقد
أرشدهم إلى الجمع بينهما، وعلمهم أن يدعوه بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: ٢٠١) ومن المعلوم من تاريخ الإسلام بالضرورة،
ومن تعاليمه بالنصوص المتفق عليها بين الأئمة أن خلفاء المسلمين وقضاتهم
وحكامهم يجب أن يكونوا من أعلم علمائهم المستقلين، ومن أشدهم إقامة للعدل
واعتصامًا بعدالة الدين، وهم يحفظون من كلام سلفهم: الدنيا مزرعة الآخرة، وقد
بيَّنا هذا بالتفصيل في مواضع من التفسير والمنار فلا محل لبسطه هنا.
وقد غالط الدكتور طه حسين الأزهريين فيما ضربه لهم من الأمثال الدنيوية
كهذا المثل الديني؛ إذ ذكر لهم المدارس الدينية لدعاة النصرانية، وهذا حجة عليه
فإن هذه المدارس تلقن طلابها جميع علوم الدنيا، ودعاة النصرانية المتخرجون فيها
منهم الأطباء وأساتذة العلوم والفنون الرياضية والطبيعة وغيرها، فلماذا يحاول
إقناع متخرجي الأزهر وسائر المعاهد الدينية، بترك تعليم المدارس المدنية
والقضائية وغير ذلك من مصالح الدنيا لكليات جامعته المصرية المدنية، والرضى
بأن تكون سيادة الدنيا ومجدها وقفًا على الملحدين، ولماذا تنشر لهم مجلة الرابطة
الشرقية هذا الغش والخداع للمسلمين؟ فيا ليت شعري هل يرى رئيس الجمعية
ووكيلها ما يراه زميلهما المشرف على تحرير مجلتها من أن الإسلام دين روحاني
محض لا حكومة له ولا شريعة يجب على أهلها التزامها، وهل يريان ما يرى
صديقه طه حسين من جعل غاية التعليم الديني الوعظ والدعوة وحصر أعمال
الحكومة المصرية الإسلامية في خريجي المدارس اللادينية؟ الذي كنا نعرفه عنهما
غير هذا.
ويلي مقالَ الدكتور طه حسين مقالٌ لأستاذه الدكتور منصور فهمي تابع لما
كتبه في العدد الأول، وغايته التنويه بتعظيم شأن مصطفى كمال فيما تراءى له
ولسائر دعاة التجديد اللاديني من نجاحه فيما يسمونه إصلاحًا، وإن لم يصرح
باسمه ولا باسم المقتدين به ملك الأفغان وشاه إيران يعبر عنهم (برجال الشرق
الحاليين ومصلحيه) .
***
دعاية سلامة موسى إلى
الإلحاد وهدم الإسلام
وإذا بنا نرى من موضوعاته دعاية سلامة موسى المسرف في الإلحاد إلى
رأيه في مقالة عنوانها (الشرق والغرب) وهي تتضمن تخطئة جمعية الرابطة
الشرقية في سعيها للتعارف والتعاون بين شعوب الشرق من أدناها إلى أقصاها إذ
يقول: إننا نحن المصريين والسوريين والعراقيين نَمُتُّ بجملة صلات من النسب
إلى أوربا ولا نَمُتُّ بأي صلة إلى اليابان والصين، ونحن من حيث السلالة
البشرية ننتمي نحن والإنجليز إلى (أم واحدة) ونحن من حيث الدين يشترك كثير
منا وأوربة في المسيحية، والمسلمون هم أقرب الملل في العالم إلى المسيحية) .
وغرض سلامة موسى أفندي من هذا البحث في مقالته إقناع قراء مجلة
الرابطة الشرقية وتقريب بعض آخر من رأيه المشهور عنه، وهو وجوب إندغامنا
في الأمة الإنكليزية، ولو كان هذا المقام مقام المناقشة والمناظرة لأثبت له أن
النصرانية الحاضرة نصرانية التثليث هي أقرب إلى البوذية منها إلى الإسلام ولكن
دين المسيح دين التوحيد الخالص هو عين دين محمد عليهما الصلاة والسلام الذي
جاء في إنجيل يوحنا منه قول عيسى في مناجاة ربه (١٧: ٣) (وهذه هي الحياة
الأبدية أن يعرفوك أنك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) .
ويدعو الأستاذ سلامة موسى في مقاله هذا إلى هدم الأديان عامة والإسلام
خاصة، كما يدعو إلى ما ذكر من السياسة القومية، فقد زعم فيه أن أسخف ما
سمعه عن الفرق بين الشرق والغرب أن الأول روحي والثاني مادي (وإن مما
يزيده عجبًا واستغرابًا لهذا القول الاستدلال عليه بنشوء الأديان في الشرق (قال) :
مع أنهم لو تَبَصَّرُوا قليلاً في القرآن والإنجيل والتوراة لوجدوا أن جميع الأنبياء في
هذه الكتب الثلاثة كان همهم الأكبر هو الإصلاح الاقتصادي الذي هو هم أوربا الآن)
ونقول: هذا من الإفك والبهتان الذي يفنِّده فيه جميع أهل هذه الأديان.
ثم إنه انتقل إلى الدعوة إلى تقليد أوربة بطفرة سريعة على رأي صديقه
الأستاذ علي عبد الرازق رئيس تحرير مجلة الرابطة الشرقية ومدير سياستها
الحقيقي وقال:
(مثال ذلك أنه يجب علينا أن نساوي بين الرجل والمرأة، ولكن أساس هذه
المساواة هو الاقتصاد فلا معنى لأن تُعْطَى المرأة حق الانتخاب والتصويت والسفور
والتعليم ولا يكون لها في الميراث سوى نصف الرجل، بل يجب أن نفصل الدين
عن الدولة ونجعل المرأة مساوية في المواريث للرجل بلا أدنى فرق.
ثم يجب أن نجعل التعليم العام وسيلة لتخريج رجال متمدنين ومتمدينين فقط،
وربما كان اللباس الأوربي أي القبعة (يعني البرنيطة) والبنطلون مما يجلب
عطف الأمم الأوربية علينا ويجعلنا ننظر إلى أنفسنا نظرًا غربيًّا، فلو جعلناه إلزاميًّا
لجميع الأفراد لكان فيه فائدة كبرى في الإسراع في اتخاذ الحضارة الغربية) .
هذا آخر مقال هذا الداعية إلى هدم الأديان ولا سيما الإسلام وهدم الوطنيات
والاندغام في الأوربيين بسرعة سيف مصطفى كمال وقوانينه ومحاكمه الاستقلالية
التي تحكم على الممتنع من لبس البرنيطة تدينًا بالقتل فهنيئًا لجمعية الرابطة الشرقية
بهذه المجلة وكتابها.
وقد كان دعا إلى مثل ما دعا إليه في شأن المساواة بين المرأة والرجل في
الميراث وغيره في محاضرة أو خطبة استفرغها في نادي جمعية الشبان المسيحيين،
ثم كتب إلى هدى شعراوي هانم رئيسة جمعية النهضة النسوية بمصر يدعوها إلى
مطالبة الحكومة بتقرير هذه المساواة فردت عليه بأن ما تطلبه جمعيتها من الإصلاح
لا يدخل فيه الخروج عن دين الإسلام وترك أحكام الشريعة، بل هو في دائرة
حدودها، ورد عليه كثيرٌ من كُتَّاب المسلمين مبينين عدل الإسلام وفضله على
جميع الشرائع في الإرث وغيره، ولكن مجلة الرابطة تعيد له نشر هذه الدعاية.
وللدكتور منصور فهمي تعليق على هذا المقال بدأه بإجلال أخيه سلامة موسى
والإشارة بما له من المنزلة الرفيعة في نفسه ثم داعبه مداعبة في بعض عباراته.
***
دعاية الأستاذ أحمد
أمين إلى التفرنج
ويلي هذا مقالان قالت المجلة إنهما (يتصلان بالموضوع اتصالاً شديدًا)
أحدهما عنوانه (وحدة العالم) وهو للأستاذ أحمد أمين من أركان الدعاية اللادينية
جزم فيه بأن الشرق لا يمكن أن يكون له مدنية خاصة به، وأن العالم الشرقي كله
سائر إلى المدنية الغربية، ولا يستطيع أن يتجه إلى غير ذلك وأنه (يجب أن يكون
عمل المصلحين محصورًا في دفع هممهم إلى الأخذ بأوفر حظ من المدنية الغربية
وخير طريق لذلك تهيئة نفوس الأمة لهذا الاقتباس) إلخ.
***
رأي هيكل بك في
الحاجة إلى دين جديد
والمقال الثاني عنوانه (حضارة الشرق متى تُبْعَث من جديد لتضيء ظلام
المدنية الغربية) ، وهو للدكتور محمد حسين هيكل بك مدير مجلة السياسة مبتدعة
الثقافة اللادينية، ولسان حال حزب التجديد اللاديني، ولكن مقاله هذا فيه من سعة
العلم بحال أوربة والشرق ما ليس في شيء من تلك المقالات؛ إذ نظر إلى ما في
أوربة من فساد الأخلاق والآداب وخطر المدنية المادية، وعلم ما لم يعلم سائر
أولئك الكتاب أو خبر بما لم يخبر به أحد منهم من حاجة أوربة نفسها إلى إصلاح
روحي لا يمكن أن يكون إلا بهداية دينية، وإن الشرق هو الجدير بأن يكون مشرق
هذه الهداية التي لا يُرْجَى صلاح الغرب بدونها، فهو يقدح زند هذا الرجاء فيه؟
سبق للدكتور هيكل مقال في هذا الموضوع نشره في الهلال وتمنى فيه لو
يُبْعَث نبي جديد في مصر من أهلها يتحقق بما يأتي به من وحي الدين هذا الرجاء
في إصلاح الغرب والشرق، وفاته أن هذا النبي الذي قوي توجه العقول إلى
الحاجة إليه قد وجد وجاء بكل ما يُرْجَى في هذا الأمر، ولكن الذين يدعون اتباعه
قد شوهوا هدايته بما ابتدعوه فيها، وإنها لو ظهرت نقية من هذه البدع والخرافات
بدعاية حكيمة معقولة لأدت هذه الوظيفة المرجوة على أكمل وجه.
هذا النبي المطلوب لإصلاح فساد المدنية الغربية هو محمد رسول الله وخاتم
النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، كما بيَّنا في مواضع من المنار في
السنين الماضية وبيَّنا أن أول من اهتدى إلى حاجة أوربة إلى هدايته في هذا العصر
هو حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى، وأنه كان كثيرًا ما
يقول: لا حجاب يحول بين أوربة وبين دين القرآن إلا نحن فإنهم ينظرون إلينا من
خلال القرآن هكذا ويرفع يديه مُفَرِّجًا بين أصابعهما فيجدون وراءه أقوامًا غلب
عليهم الجهل والكسل والتواكل والخرافات فيلقونه قائلين: لو كان كتاب إصلاح
لصلح به مُتَّبِعُوه، فإذا أردنا أن نقنعهم بحقية الإسلام وإصلاحه وجب أن نقنعهم قبل
ذلك بأننا لسنا مسلمين.
ويليه في ذلك الأستاذ الإمام وقد نقلنا عنه مرارًا أنه قال في درسه العام في
الأزهر: إنني اعتقدت منذ عشرين سنة عقيدة تزداد رسوخًا في نفسي سنة بعد
أخرى بقدر ما أزداد علمًا واختبارًا لحالة العالم المدني، وهو أن أوربة لا تجد لها
منقذًا من فوضى الأفكار المادية وفساد الأخلاق إلا بالإسلام الصحيح، وأنها ستنتهي
إلى الاهتداء به في يوم من الأيام وربما صار المسلمون المقلدون الجامدون يأخذون
الإسلام عن علمائها (أو قال ما هذا معناه، وربما أكون قد ذكرته من قبل بلفظه أو
بما هو أقرب من هذا إلى لفظه ولكن المعنى لم يتغير) وأقول: إن تجديد الثقافة
والحضارة السليمة من الرذائل يظهران على أكمل وجوههما بتجديد الإسلام،
ويكون هؤلاء المجددون له مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث
لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها) رواه أبو داود والحاكم
والبيهقي في (المعرفة) من حديث أبي هريرة ووضع له السيوطي في الجامع
الصغير علامة الصحيح، وحينئذ نرى هؤلاء الدعاة إلى التجديد الأعمى يؤمنون
بآية التجديد المبصرة ويكونون من السابقين إلى الإسلام الذي يجهلونه ويحتقرون
أهله.
***
مختارات مجلة الرابطة
الطاعنة في الإسلام
ومما اختارته المجلة أو مراقبها لهذا العدد الثاني من الاقتباس والترجمة في
مقال في (مسيلمة الكذاب) مخالفة في سَدَاها ولُحْمَتها لما عند المسلمين، يسمي
صاحبها مسيلمة نبيًّا كما يُسَمَّى محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، يعني أن كلا منهما
كان نبيًّا لقومه، ويسند إلى الأخبار الإسلامية التعبير عنه بمسيلمة الكذاب كأنه أو
لأنه مخالف لهم في هذا الوصف، فما كان أغنى قراء هذه المجلة عن هذه المباحث
في أوائل أعدادها! !
ومنها ما ترجمه الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق من محاضرات لطلاب
المدرسة الحرة في باريس في الإسلام من الطعن على هذا الدين القويم وهي خمس
محاضرات جمعها كتاب اسمه (الإسلام والسياسة الحاضرة) ولم يرد الأستاذ على
شيء مما فيها من الطعن في الإسلام والمسلمين ولا أشار إلى شيء مما فيها من
الخطأ، ولكنه قال فيما بيَّنه من غرضه بعد تلخيصها: (وليس من غرضنا أن
نناقش في رأي، ولا أن ندل على خطأ أو تناقض، وثَمَّ لمن أراد موضع للمناقشة
وبيان التهافت، إنما نريد أن ننقل إلى أهل الشرق تصور الغربيين لهم وحكمهم
عليهم) .
أقول: إننا في حاجة إلى العلم بما يقول فينا أهل الغرب من خير وشر وحق
وباطل لا من الطعن فقط، وفي حاجة إلى تمحيص أهل العلم والرأي لما يُكْتَب عنا،
والفصل بين الحق والباطل من أقوالهم، والأستاذ المترجم يعلم أن أكثر قراء
مجلة الرابطة الشرقية من المسلمين ليس لهم من المعارف الإسلامية ما يقدرون به
على المناقشة وبيان الخطأ والتناقض، وأن الطعن في دينهم مما يضرهم قراءته،
ويا ليت شِعْرِِي هل تقبل مجلة الرابطة الشرقية هذه المناقشات إذا كتبها إليها بعض
المسلمين أم تعتذر عنها بأنها مما تبرأت منه في بيان خطتها في العدد الأول.
هذا بعض ما أنكرنا في هذا العدد الواحد من مجلة الرابطة الشرقية ورآه
الناس واستنكروه مثلنا، وكان أشدهم استنكارًا له المسلمون ولا سيما رجال الدين
ورجال السياسة منهم، وقد كتب إليَّ عالم سوري عصري كبير في فلسطين يقول
ما خلاصته: إنه ظهر للعامي والخاصي أن مجلة الرابطة الشرقية مجلة إلحادية أو
لا دينية على مذهب زعنفة دعاة التجديد المعادين للإسلام، وإنه يجب عليك
الخروج من جمعيتها حفظًا لمقامك الديني إلا أن تكون ساعيًا لمنعها في الاستمرار
على هذا الطريق ذي العِوَج ... وقال لي كاتب من أشهر الكتاب السياسيين: يظهر
أن مجلة الرابطة الشرقية مشايعة لجريدة السياسة ومجلة الهلال في نزعة التجديد
اللاديني ... إلخ.
على أن جريدة السياسة اعتدلت في خطتها بعض الاعتدال وقد نشر فيها عدة
مقالات في استنكار خطة الكماليين في استبدال الحروف العربية، وتنكر على ملك
الأفغان اتباعه لخطواتهم على أنها تسميها إصلاحًا، وتخشى عليه من الفشل بعدم
مراعاة ما عليه قومه من عقائد وتقاليد قديمة، ثم إنها مع ذلك تنصر الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر فيما نهض به من أمر الإصلاح
الإسلامي نصرًا لم نر فيما قرأناه منه شائبة من دسيسة الدكتور طه حسين التي
نشرها في مجلة الرابطة الشرقية، ولا من شذوذ رئيس تحريرها الأستاذ علي عبد
الرازق الذي بسطه في مجلة الهلال.
إنني قد اضطررت إلى هذا التطويل في نقد مجلة جمعية كنت من أوائل
المؤسسين لها والواضعين لقانونها؛ لأنها تنكبت في مجلتها ذلك الطريق الذي سرنا
عليه فيها، وقد كنت أوجزت في النصيحة بما ذكرتها في التعليق على إعلان
المجلة ثم بما نصحت بلساني فلما لم ينفع النصح المختصر الخفي، اضطررت إلى
هذا الإنكار الصريح الجلي، وإلى نشره في المنار، فعسى أن لا أحتاج إلى مثله
بعدُ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))